سوريا بين اقتصاد السقوط والصعود... ماذا عن الأعوام القادمة؟

سوريا بين اقتصاد السقوط والصعود... ماذا عن الأعوام القادمة؟

سياسة نحن والحقوق الأساسية

الاثنين 8 ديسمبر 202512 دقيقة للقراءة

تُنشَر هذه المادة ضمن ملف "عام على ماذا؟... وإلى أين؟"، الذي ينشره رصيف22 بعد عام على سقوط نظام الأسد، وبكل ما عناه هذا العام للسوريين والسوريات من أمل وخذلان ومحاولات للنجاة.


بعد عامٍ على سقوط نظام الأسد وعام على التحرير، يبدو الحديث عن الاقتصاد السوري محاولةً شاقةً لا تختلف كثيراً عن المشي في أرض لم تُرفع ألغامها بعد.

خلال التقصّي، واجهتُ قدراً كبيراً من الصمت والحذر؛ أحد المطلعين في الداخل قال لي بصراحة إن "المرحلة في الحديث عن الاقتصاد السوري مدجّجة بالألغام"، وإن النقد حتى لو كان بنّاءً لم يعد مرغوباً، فالتصنيفات جاهزة دائماً.
في هذا المشهد المرتبك، يتشكّل اقتصادٌ هشّ في مرحلة انتقالية مضطربة، تغذّيه قوى متضاربة وتعيد رسم ملامحه كل يوم. الفقر يتسع، طبقة طفيلية تنمو، البطالة تتضاعف، والبنية الإنتاجية التي كانت يوماً ما عماد الحياة الاقتصادية باتت أطلالاً تنتظر إعادة تعريف.

وسط هذا الضباب، يخرج صوتٌ من داخل المؤسسة الرسمية نفسها، ليكشف ما هو أبعد من المؤشرات الاقتصادية. مستشار وزير الاقتصاد لشؤون السيولة والنقد، جورج خزام، كتب على صفحته الشخصية في فيسبوك إن إدارة الاقتصاد "لا تحتاج إلى حامل نوبل ولا خرّيج السوربون"، بل إلى مسؤول يسمع صوت البطون الخاوية ويشعر بآلام الصناعيين والمزارعين وأصحاب الورشات والمستهلكين والعاطلين عن العمل. في عباراته نقد صريح لفسادٍ ما زال يُقوّض أي محاولة إصلاح، ولمنظومة قرارات اقتصادية -كما يقول- تربح فئةً على حساب أخرى، غالباً لصالح المستوردين والمتنفذين. بالنسبة له، فإن حماية المصلحة العامة هي الطريق الوحيد لبناء اقتصادٍ جديد، مهما صدمت تلك الحماية مصالح الشبكات التي استفادت طويلاً من الفوضى.

من "وقف النزيف" إلى تحديات البناء

هذا الصوت من الداخل يفتح نافذةً على واقع اقتصادي معقد، يتطلب تشريحاً دقيقاً من خبراء ومحللين. ويؤكد أستاذ الاقتصاد في كليات الشرق العربي في الرياض، الدكتور عماد الدين المصبح، في حديثه لرصيف22، أن الحديث عن الواقع الاقتصادي السوري بعد مرور عامٍ تقريباً على التغيير الكبير الذي شهدته البلاد في كانون الأول/ ديسمبر 2024، يستدعي تحرّي الدقة في توصيف ما يوصف بـ"التحسن النسبي".

بعد عام على السقوط، تبدو الصورة الاقتصادية أبعد ما تكون عن مشهدٍ موحّد أو قابل للقياس بمعايير دولة واحدة. فالسلطة المالية لا تزال مبعثرةً، ولا يمكن الحديث عن سياسة نقدية أو موازنة عامة تعمل على مستوى وطني شامل

ويوضح المصبح أن "المرحلة الراهنة لا تعبّر عن انتعاشٍ حقيقي بقدر ما تمثل انتقالاً مفصلياً من حالة الانهيار المستمر إلى مرحلة 'وقف النزيف الاقتصادي'". وتدعم البيانات الصادرة عن المؤسسات الدولية هذا التوجه، حيث سجلت سوريا نمواً إيجابياً طفيفاً بنسبة 1% في عام 2025 بعد سنوات من الانكماش، مما يشير إلى كبح الحركة التنازلية التي استمرت عقداً من الزمن.

ويلفت المصبح إلى أن "الإنجاز الأبرز في هذا السياق يتمثل في كبح جماح التضخم الذي انخفض بشكل حاد من مستوياتٍ قياسية تجاوزت 118% ليستقر عند خانة الآحاد في مطلع 2025، مدفوعاً بعودة تدفق السلع عبر الممرات التجارية واستعادة الليرة السورية قدراً من الاستقرار النسبي أمام الدولار، حيث تعافت من مستوياتها المتدنية التاريخية". ويضيف: "بالتوازي مع ذلك، بدأ قطاع الطاقة في التقاط أنفاسه مع ارتفاع إنتاج النفط الخام ووجود خطط لتوسيع القدرات التكريرية، ورغم أنها أرقام لا تزال دون مستويات ما قبل الأزمة، إلا أنها خطوة حيوية لتقليل فاتورة الاستيراد. كما شهد القطاع الزراعي حراكاً إيجابياً بفضل الانفتاح التجاري، رغم القيود التي يفرضها الجفاف والتدهور البيئي في المنطقة".

فجوة إعادة الإعمار وأزمة السيولة

رغم هذه المؤشرات الإيجابية الأولية، يحذّر المصبح من أن "الاقتصاد السوري يصطدم بجدار من التحديات البنيوية الهائلة، تأتي في مقدمتها فجوة إعادة الإعمار التي قدّر البنك الدولي تكلفتها بمئات المليارات من الدولارات، وخاصةً في ما يتعلق بالبنية التحتية والمساكن".

ويكمل: "ويترافق هذا العبء المالي مع واقع اجتماعي قاسٍ، حيث لا تزال معدلات الفقر تلامس سقف 90%، مع انخفاضٍ حاد في نصيب الفرد من الدخل القومي وبقاء معدلات البطالة عند مستويات حرجة، وتتعقد المشكلة الاقتصادية في ظل أزمة السيولة الحادة التي يعاني منها النظام المصرفي، نتيجة استمرار تجميد الأصول في الخارج والتعقيدات القانونية، مما يعيق تمويل الاستثمارات".

التشرذم الجغرافي-الاقتصادي: ثلاثة نظم موازية

من جهته، يقدم الباحث الاقتصادي محمد علبي تشخيصاً للهيكل الاقتصادي السوري بعد عامٍ من السقوط. يقول لرصيف22: "بعد عام واحد على السقوط، تبدو الصورة الاقتصادية أبعد ما تكون عن مشهدٍ موحد أو قابل للقياس بمعايير دولة واحدة. فالسلطة المالية ما تزال مبعثرة، ولا يمكن الحديث عن سياسة نقدية أو موازنة عامة تعمل على مستوى وطني شامل".

الاقتصاد السوري يصطدم بجدار من التحديات البنيوية الهائلة، في مقدمتها فجوة إعادة الإعمار التي قدّر البنك الدولي تكلفتها بمئات المليارات.

ويشرح علبي أن الاقتصاد السوري "عملياً، يستمر في حالة 'تقسيم ما بعد الحرب'، مع ثلاثة نظم موازية تتجاور أكثر مما تتفاعل: اقتصاد الحكومة المركزية بما تبقى من مؤسسات مالية ومصرفية، اقتصاد شمال غرب البلاد حيث تشكّلت منظومة جباية وإدارة نقدية مستقلة نسبياً، واقتصاد شرق الفرات الذي يدير الكثير من موارد الطاقة والزراعة كما التجارة الداخلية وفق ترتيبات مختلفة عن الطرفين الآخرين".

ويضيف: "هذا التشرذم ينعكس مباشرةً على المؤشرات الكلية، فلا توجد قاعدة بيانات موحدة، والقدرة على ضبط حركة السيولة أو تنظيم التدفقات التجارية عبر البلاد محدودة جداً، في حين تستمر المعاملات بالتسعير بالدولار أو بعملات بديلة بحسب المنطقة. ويظل النشاط الاقتصادي محدوداً بحدود جغرافيا النفوذ: مناطق تعود تدريجياً نحو تشغيل محدود للصناعة والخدمات، وأخرى تعتمد على الريوع والوساطة وبعضها التهريب كنشاط رئيسي، بينما تبقى القدرة الإنتاجية الوطنية في أدنى مستوياتها منذ عقود".

غياب أدوات الاستقرار

يرى علبي أنه "رغم تراجع حدّة الاضطرابات الأمنية مقارنةً بسنوات الحرب، لم يتحوّل ذلك إلى تعافٍ اقتصادي فعلي، لأن غياب السلطة المالية الموحدة يعني غياب أدوات الاستقرار: لا سياسة نقدية واحدة، ولا موازنة عامة قادرة على إعادة توزيع الموارد، ولا إطار ضريبي يمكنه استعادة الثقة أو توسيع القاعدة الإنتاجية. وعليه، فإن العام الأول بعد السقوط لا يشير إلى بداية دورة انتعاش، بل إلى استمرار الاقتصاد في وضعٍ انتقالي هش، تتكدّس فيه آثار الانقسام على حساب أي تحسن ملموس في معيشة السكان".

اقتصاد "مُمَأسَس" على الفساد

لتحليل تعقيدات الحاضر، يغوص علبي في جذور الماضي، مؤكداً أن "الاقتصاد السوري قبل السقوط لم يكن مجرد اقتصاد يعاني فساداً وتشويهاً في السياسات، بل كان مشبوكاً عضوياً بشبكات أمنية وسياسية شكّلت الإطار الحقيقي لاتخاذ القرار الاقتصادي".

وبرأيه فإن هذا الشكل من 'الاقتصاد المُمأسس أمنياً وسلطوياً' أعاد إنتاج نفسه خلال سنوات الحرب بصيغ أكثر خشونة: تهريب منظم، ريوع حدودية، وحماية لنشاطات غير قانونية مقابل تثبيت النفوذ. ولذلك، فإن انهيار المنظومة الحاكمة لا يعني آلياً تفكّك هذه الشبكات، بل يفتح الباب أمام إعادة تشكّلها بأسماء جديدة ما لم تُواجه بإصلاح مؤسسي وأمني متزامن، لا بمجرد حزمة قوانين اقتصادية تقنية.

بين المركزية وفقدان الثقة

بدوره، يقدم الباحث الاقتصادي ملهم الجزماتي، تحليلاً للتحديات المؤسسية التي تواجه الاقتصاد السوري. يقول لرصيف22: "بعد سقوط نظام الأسد في كانون الأول/ديسمبر 2024، دخلت سوريا مرحلة إعادة هيكلة اقتصادية سريعة، لكن هذه المرحلة كشفت عن غياب مؤسسات مالية فاعلة وقادرة على قيادة الاقتصاد".

وبحسبه فالسلطات الجديدة أصدرت سلسلةً من المراسيم الرئاسية التي أعادت تشكيل الحوكمة الاقتصادية للدولة، حيث تم تأسيس مجلس أعلى للتنمية الاقتصادية وصندوقين وطنيين (الصندوق السيادي وصندوق التنمية)، إلا أن هذه المؤسسات الناشئة تواجه تحديات هيكلية كبيرة. المشكلة الأساسية تكمن في أن هذه المؤسسات الجديدة تعاني من مركزية القرار الاقتصادي، حيث تم استبعاد وزارات حيوية مثل وزارة المالية والاقتصاد والشؤون الاجتماعية من المجلس الأعلى، مما يقلل من الإدخال المؤسسي الأوسع ويثير مخاوف بشأن الشفافية والاستقلالية. يقول: "البنية المؤسسية الحالية تفتقر إلى الوضوح الكافي، حيث تتضارب المراسيم الرئاسية حول تكوين المجلس الأعلى، مما يشير إلى ضعف في عملية صياغة التشريعات الرئاسية والقدرة على تنفيذها بفعالية".

من السحب المقيّد إلى سوق الأرصدة البنكية

يحلل الجزماتي أزمة النظام المصرفي بالقول: "فقدان الثقة في النظام المصرفي السوري أصبح واقعاً ملموساً بعد سقوط النظام، وذلك نتيجةً لسياسات تقييدية اتخذها البنك المركزي السوري. في شباط/ فبراير 2025، فرض البنك المركزي حدوداً صارمة على السحب النقدي، حيث سُمح للعملاء بسحب 200 ألف ليرة سورية فقط (حوالي 20 دولاراً) في الأسبوع، وهو مبلغ لا يكفي لتغطية الاحتياجات اليومية للأسر أو تكاليف التشغيل للشركات".

سجّلت سوريا نمواً إيجابياً طفيفاً بنسبة 1% في عام 2025، بعد سنوات من الانكماش. والإنجاز الأبرز يتمثّل في كبح جماح التضخم الذي انخفض بشكل حادّ من مستوياتٍ قياسية تجاوزت 118% ليستقر عند خانة الآحاد

ويضيف: "هذه القيود أدت إلى تجميدٍ فعلي للودائع، مما خلق ما يُعرف بـ'سوق الأرصدة البنكية' حيث يضطر المودعون اليائسون إلى بيع أرصدتهم المجمدة بخصومات كبيرة تصل إلى 25% أو أكثر لتجار لديهم سيولة نقدية. هذا النظام أعمق من ذلك: فقد أثار عدم المساواة بين الذين يستطيعون تحمل الخسائر والذين لا يستطيعون، وعمّق عدم الثقة العام في البنوك".

من التهريب إلى المخدرات

يكشف الجزماتي عن جانبٍ مظلم من الاقتصاد السوري، قائلاً: "كشفت الدراسات أن نظام الأسد السابق كان متورطاً بعمق في تجارة المخدرات، حيث تم حجز أكثر من 200 مليون حبة 'كبتاغون' في أربعة أشهر فقط بعد سقوط النظام، وهو رقم يعادل 20 مرة ما كان يُبلّغ عنه سابقاً. هذا يعكس حجم الاقتصاد غير الرسمي والمشروع الذي يحل محل الإنتاج الشرعي".

ويضيف: "الإنتاج المحلي السوري يعاني من ضعفٍ شديد بسبب عوامل متعددة: أولاً، البنية التحتية الاقتصادية تضررت بشكل كبير خلال سنوات الصراع، مما يتطلب استثمارات ضخمة لإعادة البناء. ثانياً، الاقتصاد غير الرسمي والموازي أصبح مهيمناً، حيث يعتمد الكثيرون على التهريب والأنشطة غير القانونية بدلاً من الإنتاج الشرعي".

الطريق إلى الأمام مشروع سياسي-مؤسسي متكامل

يؤكد الدكتور المصبح على أن "بناء اقتصاد سوري مستدام يتطلب العمل وفق منهجية متكاملة، تبدأ بتعبئة التمويل الخارجي الذي تعهد به المجتمع الدولي، شريطة ربطه بإصلاحات هيكلية وإدارية وقانونية صارمة، مع التركيز في مرحلة التثبيت الحالية على استعادة الخدمات الأساسية كالماء والكهرباء والتعليم".

ويضيف: "ولا يمكن لهذا التمويل أن يحقق أهدافه دون توحيد السياسات النقدية والمالية، وإعادة دمج الاقتصادات المحلية المشتتة في سوق وطنية واحدة تحت مظلة مؤسساتية موحدة. وأخيراً، تبرز الحاجة الملحة للانتقال من اقتصادٍ يعتمد على الاستقرار والمساعدات إلى اقتصادٍ منتج، وذلك عبر تحفيز المشاريع الصغيرة والمتوسطة، وإعادة تأهيل رأس المال البشري، وخلق بيئة استثمارية جاذبة تستوعب البطالة وتدفع عجلة النمو الحقيقي".

يظلّ الاقتصاد السوري كمن يمشي في حقل ألغام؛ خطوة صحيحة قد تفتح باباً، وخطأ واحد كفيل بإعادة كل شيء إلى نقطة الصفر.

من جهته، يرى الباحث علبي أن "إعادة هيكلة الاقتصاد السوري ليست عملية تقنية منفصلة، بل مشروع سياسي-مؤسسي يقتضي أولاً تحديد نموذجٍ تنموي واضح ينطلق من سؤال الدور المتوقع للدولة: منظم أم مالك أم شريك؟ وما القطاعات القادرة فعلاً على قيادة النمو في المدى المتوسط؟".

ويشرح أن هذا "يستدعي إطاراً دستورياً واقتصادياً جديداً يضمن استقلالية السياسة النقدية، ويضع قواعد لإدارة الثروات الطبيعية واللامركزية المالية، إلى جانب حزمة تشريعية حديثة تشمل قوانين المنافسة ومنع الاحتكار، الإفلاس، الشراكة بين القطاعين العام والخاص، والعقود والمشتريات العامة وفق معايير شفافة قابلة للرقابة".

حقل ألغام اقتصادي

أخيراً، فإن الحديث عن الاقتصاد السوري اليوم، إذاً، ليس توصيفاً تقنياً لواقع مالي، بل قراءةً في ولادةٍ جديدة محفوفة بالمخاطر. جرحٌ تشخيصه مهم، لكن علاجه يحتاج إلى إرادة سياسية موحدة وموارد واستقرار لم تتوفر بعد.

فالخبراء الثلاثة يشيرون إلى أن الخروج من النفق يحتاج إلى معادلةٍ صعبة: إنهاء التشرذم وبناء مؤسسات موحدة وشفافة، كشرطٍ أساسي لتحقيق الاستقرار الكلي وتحفيز القطاع الإنتاجي. ولذلك يظل الاقتصاد السوري كمن يمشي في حقل ألغام؛ خطوةٌ صحيحة قد تفتح باباً، وخطأٌ واحد كفيل بإعادة كل شيء إلى نقطة الصفر.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

صوت التغيير يجب أن يبقى حاضراً. 

ليستمرّ، نريد دعمكم.

Website by WhiteBeard
Popup Image