مَطالبهن

مَطالبهن "مسّ بالإسلام"… "أخوات الصفا" وسيرة تحرّر منسية

ثقافة نحن والنساء نحن والتاريخ

الأربعاء 17 ديسمبر 202515 دقيقة للقراءة

دون أسماء ودون صور، تقف نساء كثيرات في زوايا الذاكرة المغربية، حملن مشاعل التحرر وكتبن أولى فصول النضال النسائي في المغرب، في زمن كان فيه "التحرر" من الكلمات التي تُهمس ولا تُقال.

قبل أن تُسجّل الاتفاقيات الدولية أولى التزاماتها، ظهرت جمعية نسائية مغربية، لا تبحث عن اعتراف خارجي ولا تتغذى على دعم غربي، بل تنبع من قلب المعركة ضد الاستعمار، ومن وجدان مجتمع يتشكل على إيقاع التغيير.

أخوات الصفا… كيف وُلد أول تنظيم نسائي مغربي وسط الاستعمار؟

ما يُحجَب عن الذاكرة الجماعية، هو أن النسوية المغربية لم تولد على ضفاف المؤتمرات الدولية، بل نبتت من رحم المقاومة ومن صلب الحركة الوطنية نفسها. فقبل أن تُنصب للنسويات محاكم النوايا، كانت نساء مغربيات يُؤسسن أول تنظيم نسائي في التاريخ المعاصر للمغرب تحت اسم "أخوات الصفا"، كجناح نسائي لحزب الشورى والاستقلال، في 23 أيار/مايو 1947 في مدينة فاس.

في هذا السياق، أوضحت لطيفة البوحسيني، أستاذة متخصصة في التاريخ النسوي، لرصيف22، أن البوادر الأولى للتنظيمات النسائية في المغرب تعود بالفعل إلى تأسيس جمعية أخوات الصفا. ووصفت هذه الجمعية بأنها "ليست حركة نسوية خالصة، لكنها كانت جمعية نسائية مستقلة، نشأت بإيعاز من حزب الشورى والاستقلال، أحد مكونات الحركة الوطنية الحركة الوطنية آنذاك". وأضافت البوحسيني أن "جمعية أخوات الصفا لم تكن التنظيم النسائي الوحيد خلال تلك المرحلة، بل ظهرت إلى جانبها هيئات نسائية أخرى، من بينها "الجمعية المغربية للنساء التقدميات" التابعة للحزب الشيوعي المغربي، بالإضافة إلى جمعيات نسائية نشطت في مناطق أخرى خاصة في مدينة تطوان".

هذا التنظيم، الذي وُلد في زمن كانت فيه المطالبة بتحرر النساء مغامرة في وجه المجتمع التقليدي والاستعمار، جمع بين نَفَس وطني وروح إصلاحية، وضم في صفوفه رجال دين وطنيين. ورغم ريادته، ما زال هذا الكيان طي النسيان، خارج دائرة الأبحاث والدراسات.

ارتبط ظهور "أخوات الصفا" بثلاثة عوامل رئيسية، التقت عند سياق تاريخي خاص، وجعلت من تأسيس هذا التنظيم النسائي خطوة ضرورية ضمن مسار تحرري أشمل.

لم تدخل المرأة المغربية معركة التحرر من بوابة المؤتمرات، بل من قلب المقاومة؛ حيث كان النضال ضد الاستعمار مدرسة أولى لتعلّم كسر القيود الاجتماعية

العامل الأول هو السياق الدولي والإقليمي لما بعد الحرب العالمية الثانية، الذي اتسم بتصاعد حركات التحرر الوطني وبروز الحركات النسائية، ولا سيما في العالم العربي، حيث لعبت مصر دوراً مُلهماً بفضل إشعاعها الثقافي والسياسي وريادة رموزها النسائية في جعل قضية المرأة جزءاً من مشروع التغيير الاجتماعي والسياسي.

أما العامل الثاني فيرتبط بالطابع الليبرالي لحزب الشورى والاستقلال، الذي وفّر الحاضنة السياسية للحركة، إذ اعتبر تحرير المرأة وتحديث المجتمع شرطَين أساسيَّين لتحقيق الديمقراطية، كما يوضح محمد معروف الدفالي في دراسته حول التنظيم النسائي المنشور في مجلة "أمل" (13-14، ص178، 1998).

ويكفي للدلالة على ذلك استحضار مواقف مؤسس الحزب، محمد بن الحسن الوزاني، الذي اعتبر أن المرأة شريكة الرجل في الحياة الاجتماعية، كما شدد على أن"نهضة الأمة تأتي برجالها ونسائها، لا بفريق من أعضائها دون فريق؛ فكل نهضة تقوم على الرجل دون المرأة، إنما هي نصف نهضة".

وقد تبنّى الحزب مطالب صريحة بهذا الخصوص، أبرزها تعليم الفتيات وتمكين النساء من المشاركة في الحياة العامة. ولم يكن الوزاني منفرداً بهذا التوجه، بل وجد دعماً من قيادات وازنة داخل الحزب، من بينهم الفقيه محمد بن عبد الله، أحد أعمدة المدارس الحرة ومؤسس أقسام تعليم البنات، إلى جانب عبد القادر بنجلون، وعبد الواحد العراقي، وأحمد معنينو، وعبد الهادي بوطالب، وأحمد بن سودة.

يرتبط العامل الثالث بالتطور التنظيمي لحزب الشورى والاستقلال، الذي سعى إلى بناء هياكل قوية تربط بين النضال الديمقراطي والمطلب المركزي بالاستقلال الوطني. وفي هذا السياق، جاءت فكرة تأسيس تنظيم نسائي موازٍ يوسّع قاعدة الحزب ويصل إلى شرائح جديدة، فظهرت "أخوات الصفا" بوصفها جزءًا من مشروع وطني يعتبر النساء ركيزة أساسية في مسار التحرر.

من مؤتمر فاس إلى مشروع تحرر شامل

هكذا، في مدينة فاس، وفي يوم 23 أيار/مايو 1947، وُلد أول تنظيم نسائي في المغرب، تحت جناح حزب الشورى والاستقلال. انعقد المؤتمر التأسيسي الأول لحركة "أخوات الصفا" وسط أجواء استثنائية، وحضره عدد كبير من النساء، قدّر بثلاثة آلاف مشاركة، جئن من مختلف مناطق المغرب، ومن طبقات اجتماعية متعددة.

خلق المؤتمر صدى واسعاً، ليس فقط داخل المغرب، بل في دول عربية وإفريقية، وهو ما شجّع "أخوات الصفا" على مواصلة العمل؛ فعقدت مؤتمرها الثاني في 12 و13 كانون الأول/ديسمبر 1948، والذي شهد أيضاً حضوراً لافتاً، وخرج بتوصيات وُصفت حينها بالمتقدمة، خاصة تلك التي دعت إلى تعليم البنات ومنع تزويج الطفلات، وتمكين النساء من المشاركة في الحياة العامة.

في حزيران/يونيو 1951، عقدت الجمعية مؤتمرها الثالث، وركز هذه المرة على تطوير البناء التنظيمي، سواء على المستوى المركزي أو في الفروع التي بدأت تنتشر في مدن أخرى. كما فتحت باب التعاون مع تنظيمات نسائية في المنطقة، بينها جمعية "نهضة المرأة المسلمة" في الجزائر، والحزب النسائي الوطني في مصر، حيث تبادلت الرسائل مع رئيسته فاطمة نعمت راشد.

حظيت الجمعية بدعم من السلطان محمد الخامس وابنته الأميرة لالة عائشة، اللذين دعيا أخوات الصفا للمشاركة في بعض الاحتفالات الرسمية والمهرجانات الأدبية. كما استفادت من منح لتنفيذ برامجها.

في خطابها، لم تكتف "أخوات الصفا" بالتنديد بوضعية النساء، بل وصفت الواقع بعبارات صريحة، معتبرة أن المرأة المغربية "تعيش في ظلام الجهل والانحطاط"، بسبب الجهل والخرافات والظلم. لكنها في المقابل، قدّمت رؤية إصلاحية ترى في المرأة ركيزة لأي مشروع نهضوي، ودعت إلى خروجها من العزلة المنزلية، والمشاركة في النضال الوطني والسياسي، جنباً إلى جنب مع الرجل.

وترى لطيفة البوحسيني، أن ما ميز هذه المرحلة هو "ظهور التعبير النسائي المنظم في الفضاء السياسي، لا فقط كشكل تضامني أو خيري، بل كنضال جماعي نسائي ضد التمييز ومن أجل المساواة وتفكيك الهيمنة الذكورية، وهو ما لم يعرفه المغرب من قبل". وتُرجع هذا التحول إلى السياق العام الذي فرضته مقاومة الاستعمار، حيث أدركت الأحزاب السياسية أهمية تعبئة مختلف الطاقات، بما فيها النساء، "فكان من الضروري ابتكار أطر تنظيمية قادرة على إشراكهن وتوعيتهن ودمجهن في معركة التحرر الوطني".

كما أشارت البوحسيني إلى أن الجمعية رفعت كذلك مطالب لحماية النساء من التحرش والعنف في الفضاء العام، إذ راسلت وزير العدل آنذاك بشأن المضايقات التي كانت تتعرض لها النساء، خاصة اللواتي يرتدين "الزي العصري" في شوارع المدن المغربية.

بدءاً بتعليم الفتيات... مطالب "أخوات الصفا" التي لا تقبل أنصاف الحلول

رفعت "أخوات الصفا" منذ نشأتها مجموعة من المطالب التي اعتبرت تقدمية في ذلك الوقت، ووضعت التعليم في صدارة هذه المطالب، معتبرة أن الجهل هو أحد الأسباب الجوهرية لتردي أوضاع النساء. ورأت أن تحقيق نهضة وطنية حقيقية لا يمكن أن يتم دون نساء متعلمات ومؤهلات للقيام بدورهن في المجتمع.

وفي هذا السياق، انتقدت الجمعية، بشدة، حصر تعليم الفتيات في المستوى الابتدائي، واعتبرته غير كافٍ، داعية إلى تمكينهن من متابعة الدراسة إلى غاية البكالوريا (شهادة الثانوية)، ثم التخصص في مجالات علمية مختلفة. وبالنسبة للفتيات غير الراغبات في التعليم الأكاديمي، اقترحت برنامجاً بديلاً يمتد لأربع سنوات بعد المرحلة الابتدائية، يوزَّع بين الثقافة العامة، والتربية الصحية، وتدبير المنزل، وتربية الأطفال، مع تلقين مهارات عملية كمسك الدفاتر والضرب على الآلة الكاتبة، مع مراعاة الخصوصيات المحلية بين القرى والمدن.

كما ربطت الجمعية تحرر المرأة بتحرر الفكر، من خلال التصدي لعادات ومعتقدات اعتبرها عائقاً أمام التقدم، مطالبة بالقطيعة مع الخرافات والممارسات المرتبطة بالشعوذة بما فيها زيارة الأضرحة، والتي اعتبرتها تشويشاً على روح الدين.

وارتباطاً بذلك، تناولت "أخوات الصفا" موضوع الحجاب، منتقدة غلوّ المجتمع في فرضه باعتباره وسيلة لحجب المرأة عن الأنظار. واعتبرت أن هذا التشدد يعكس انحرافاً عن جوهر الدين.

مباشرة بعد إعلان استقلال المغرب وتشكيل أول حكومة وطنية، بادرت حركة "أخوات الصفا" إلى تقديم مذكرة مطلبية مفصلة، وُجّهت بتاريخ 25 أيلول/سبتمبر 1956 إلى السلطان محمد الخامس والحكومة، وذلك في أعقاب انعقاد مؤتمرها الخامس. الوثيقة، التي اعتُبرت جريئة بمقاييس تلك المرحلة، تضمنت سلسلة من المطالب التي تعكس وعياً نسوياً متقدماً، يتجاوز السياق الاجتماعي السائد حينها.

في صلب هذه المطالب، دعت "أخوات الصفا" إلى الحد من تعدد الزوجات، إلا في حالات الضرورة القصوى، لما يترتب عليه من أضرار أسرية، كما نبهت إلى خطورة الزواج المبكر، مطالبة بمنعه حفاظا على صحة الفتيات ومصلحتهن الاجتماعية. ولم تغفل الجمعية الإشارة إلى المهور، التي اعتبرتها عائقاً أمام بناء الأسر، مطالبة بإلغائها، إلى جانب اشتراطها موافقة الفتيات في حال زواجهن من رجال يكبرونهن سناً، مع حصر هذه الحالات في ظروف استثنائية فقط.

ولم تقتصر المطالب على القضايا الأسرية، بل توسعت لتشمل الجوانب الاجتماعية والاقتصادية، إذ دعت إلى دعم الأسر ذات العدد الكبير من الأطفال بإعانات مالية حكومية، وتوفير بنية تحتية اجتماعية لفائدة النساء، من قبيل فتح ملاجئ للعاجزات عن العمل، وإنشاء مراكز لإيواء العاطلات عن الشغل في مختلف أنحاء البلاد.

وعلى المستوى القانوني، طالبت الجمعية بإصدار تشريع يحفظ كرامة المرأة ويحميها من الإهانة، مع التنصيص على العقوبات المناسبة في حال الإخلال بذلك، إلى جانب الدعوة إلى إشراك النساء في مجالات غير مسبوقة آنذاك، كالمجال العسكري، عبر فتح أقسام لهن في المدارس الحربية وإرسال بعثات نسوية إلى الخارج، فضلا عن تمكينهن من المشاركة في الحياة السياسية من خلال التصويت والترشح للمجالس التمثيلية.

واقترحت الجمعية أيضا إحداث لجان نسوية على مستوى بعض المحاكم الشرعية لتولي النظر في النزاعات العائلية والدفاع عن حقوق النساء، إلى جانب المطالبة بتحويل السجون النسائية إلى فضاءات لإعادة التأهيل، تشمل التربية الدينية والأخلاقية، والتدريب على المهارات المنزلية.

مرجعية إصلاحية تنهل من روح الدين لا من قراءاته الجامدة

في حديثها إلى رصيف 22، صرحت لطبفة البوحسيني، أن تطوّر الحركات النسائية في المغرب منذ "أخوات الصفا" وحتى اليوم "لم يكن خطياً، بل عرف مراحل مدّ وجزر؛ فقد تراجع زخم الجمعيات النسائية في نهاية الخمسينيات بسبب توتر العلاقة بين النظام الملكي وبعض مكوّنات الحركة الوطنية"، وهو ما أثّر أيضاً على القضية النسائية. غير أن منتصف السبعينيات شهد تأسيس قطاعات نسائية تابعة لأحزاب مثل الاتحاد الاشتراكي والتقدم والاشتراكية، ورافق ذلك تحولات مجتمعية مهمة: انفتاح المدارس أمام الفتيات، ولوج النساء لسوق العمل، وتغيّر العقليات.

وأوضحت البوحسيني أن هذه التحولات "أسست لظهور جيل جديد من الناشطات، خاصة في الثمانينيات، وهن نساء متعلّمات وفاعلات داخل الأحزاب والنقابات، قبل أن يخترن لاحقاً تأسيس تنظيمات نسائية مستقلة تُعنى مباشرة بالقضية النسائية". هذا الجيل، تضيف المتحدثة، "أعاد طرح نفس المطالب التي سبقت أن رفعتها جمعية أخوات الصفا، كرفع سن الزواج، منع تعدد الزوجات، ومناهضة العنف، لكن بلغة قانونية أكثر دقة، وبمرجعيات فكرية وأدوات تحليل تقوم على تفكيك الهيمنة الذكورية."

ورغم تغير السياقات، تعتبر الباحثة أن الفلسفة الناظمة للخطاب النسائي لم تتبدل كثيراً فـ"هي نفسها، فلسفة مقاومة البنية الذكورية التي تؤطر القوانين والعلاقات الاجتماعية". وتشير إلى أن المرجعية التي وجهت جمعية أخوات الصفا، بحكم انتمائها لحزب الشورى والاستقلال، "كانت إصلاحية ونهضوية، تنهل من روح الدين لا من قراءاته الجامدة،" وتراهن على العلم والمعرفة كمدخل للتمكين، خصوصاً عبر التعليم والعمل، بما يسمح للنساء بتحقيق الاستقلالية المادية، التي ترى فيها البوحسيني مفتاحاً حاسماً لتغيير واقعهن.

كيف اختفت جمعية "أخوات الصفا" من الذاكرة الجماعية المغربية؟

مع كل ما ذكر، سرعان ما اصطدمت هذه الطموحات الإصلاحية بالواقع السياسي والديني المحافظ، فبعد إعلان السلطان محمد الخامس عن تشكيل لجنة لصياغة مدونة الأحوال الشخصية، برئاسة علال الفاسي، تم إصدار المدونة في آب/أغسطس 1957، لكنها لم ترق إلى تطلعات "أخوات الصفا"، اللائي اعتبرنها تكريساً للوصاية على المرأة من خلال ما تضمنته من مواد حول التعدد والطلاق والولاية في الزواج.

ورغم الهجوم العنيف الذي تعرضن له، سواءً من خصوم سياسيين أو من شرائح واسعة من المجتمع، وُصِف نقدهن بأنه "مَسّ بالإسلام"، إلا أن عضوات الجمعية دافعن عن مواقفهن، وأكدن في مقالات صحفية أنهن يميزن بين النصوص الدينية وبين القراءات الذكورية المؤطرة للتشريع الفقهي، مشددات على ضرورة مراجعة هذه الأخيرة بما يخدم نهضة النساء.

قبل أن تُعرَّف النسوية بلغة القوانين، كتبتها مغربيات بلغة الشجاعة: تنظيم صامت، ومطالب جريئة، وإيمان بأن تحرر الوطن لا يكتمل دون تحرر نسائه

غير أن التصعيد السياسي بين حزبي الاستقلال والشورى والاستقلال، وتنامي خطاب الهيمنة الدينية المحافظة، أضعف الحركة تدريجياً. ومع غياب الدعم السياسي، وتضييق الخناق على الحريات، رُكّنت مطالب "أخوات الصفا" جانباً، واعتُبر النقاش النسائي مؤجلاً إلى حين "استقرار الأوضاع العامة".

وهكذا، خبا صوت إحدى أولى الحركات النسوية المغربية، وأُغلقت صفحة من صفحات النضال النسائي التقدمي، دون أن تنال نصيبها من الاعتراف أو التوثيق، رغم سبْقها التاريخي وشجاعتها في طرح قضايا لا تزال راهنية إلى اليوم.

من "أخوات الصفا" إلى النسوية الحديثة

إذا ما نظرنا إلى الحركات النسوية في السياق المغربي بين الأمس والحاضر، فإن مطالب "أخوات الصفا" في خمسينيات القرن الماضي تبدو وكأنها المسودة الأولى لما أصبحت عليه أطروحة النضال النسوي في المغرب اليوم. فحين نقرأ تلك العريضة الموجهة من قبل أخوات الصفا إلى السلطان محمد الخامس، نجد فيها صدى واضحاً لكثير من الشعارات التي ترفعها الحركات الحقوقية النسوية حالياً؛ من الدعوة إلى منع تزويج الطفلات، إلى المطالبة بالمساواة في الحقوق المدنية والسياسية، وصولاً إلى ضرورة التعليم والعمل للنساء. غير أن ما تغيّر ليس فقط في السياق السياسي والاجتماعي، بل في اللغة نفسها. كانت "أخوات الصفا" يطالبن بما يشبه الحد الأدنى من الكرامة في مجتمع محافظ، أما الحركات النسوية اليوم فتخوض معاركها من موقع أكثر جرأة، مدعومة بإرث قانوني، وتاريخ نضالي، ومنصات رقمية تتيح التوسع والتأثير.

ومع ذلك، فإن الصلة لا تُختزل في تشابه المطالب، بل تتجلى في استمرار الشعور بالحاجة إلى التغيير، وفي مقاومة بنية ثقافية ما تزال تُعيد إنتاج التمييز، وإن بصيغ أكثر نعومة أحياناً. الحركة النسوية اليوم تواجه قضايا أكثر تشعبًا: العنف الاقتصادي، الصور النمطية في الإعلام، المساواة في الإرث، تمثيلية النساء في السياسة، وهي قضايا تعكس تحوّلاً من المطالبة بحق الوجود إلى المطالبة بحق التأثير، لكن بذات الروح التي أطلقتها نساء الخمسينيات حين تجرأن على تحويل الصوت الفردي إلى مطلب جماعي.

بمعنى آخر، لا يمكن قراءة النضال النسوي اليوم بمعزل عن جذوره، ولا يمكن استحضار "أخوات الصفا" كحدث تاريخي جامد. هنّ المبتدأ، والحركات الحالية هي الخبر الذي ما زال يتشكّل. ربما بأساليب جديدة، ولكن على نفس الأرضية التي بُنيت بالحبر والأمل منذ عقود.

في هذا المضمار، ترى لطيفة البوحسيني أن "إرث "أخوات الصفا" لا يزال قائماً في النضال النسوي المغربي، حتى وإن تغيّرت لغته وأدواته". فبالنسبة لها، ما يُميّز هذا الإرث هو الوعي الجذري بالبنية الذكورية، والإصرار على تفكيكها ومقاومتها، وهي خصائص لا تزال حاضرة اليوم، بل وتتجدّد مع كل جيل.

وخلصت البوحسيني إلى أن الثورة الرقمية منحت المناضلات الشابات فضاءً مختلفاً للتأثير والتعبئة، لا سيما في توثيق الانتهاكات وكشف قضايا ظلّت لوقت طويل مسكوتاً عنها، كالعنف ضد النساء في أماكن العمل أو في الفضاء العام. فالتكنولوجيا، كما تقول، "لا تغيّر الواقع بشكل مباشر، لكنها تزعزع ما يبدو بديهياً، وتفتح الطريق أمام تحوّلات ممكنة في الذهنيات والسياسات".

ولعل هذا ما يجعل النضال النسوي، قديماً كان أم حديثاً، مساراً مفتوحاً لا ينتهي، بل يعيد تشكيل نفسه باستمرار، كلما تغيرت سياقاته وأدواته.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

‎من يكتب تاريخنا؟

من يسيطر على ماضيه، هو الذي يقود الحاضر ويشكّل المستقبل. لبرهةٍ زمنيّة تمتد كتثاؤبٍ طويل، لم نكن نكتب تاريخنا بأيدينا، بل تمّت كتابته على يد من تغلّب علينا. تاريخٌ مُشوّه، حيك على قياس الحكّام والسّلطة.

وهنا يأتي دور رصيف22، لعكس الضرر الجسيم الذي أُلحق بثقافاتنا وذاكرتنا الجماعية، واسترجاع حقّنا المشروع في كتابة مستقبلنا ومستقبل منطقتنا العربية جمعاء.

Website by WhiteBeard
Popup Image