كأس العرب… من العرب؟

كأس العرب… من العرب؟

رأي نحن والحقوق الأساسية

الثلاثاء 16 ديسمبر 202511 دقيقة للقراءة

"أنا مش غريب.. أنا من هنا ودي ناس شبهنا وشكلنا
نشبه بعض في عاداتنا،
نشبه بعض في صفاتنا
وكمان قصة حياتنا،
نشبه بعض في لغتنا
حتى طريقنا وبيوتنا،
عندك وبحس إني في مكاني
وكأني ليا نص تاني
أتمنى معاك نفس الأماني
وبنرقص على نفس الأغاني".


هذه هي كلمات أغنية محمد منير الجديدة "مكاني"، من تأليف الشاعر مصطفى حدوته، وألحان وتوزيع الملحن المغربي - السويدي RedOne، والتي أطلقها بمناسبة بدء منافسات النسخة الحالية من كأس العرب، قطر 2025، مشدداً خلالها على تشابه الشعوب العربية في العادات واللغة ونمط الحياة والأسلوب والأغاني.
صحيح أن تلك المعاني قد هُرِسَت قبل ذلك في ألف مقال وكتاب وتنظيم سياسي -ولا نستثني "البعث العربي الاشتراكي" بشقيه السوري والعراقي-، إلا أنها لا تزال قادرة على إثارة شعور جميل لدى كل من يسمعها، شعور بالدفء، وربما بالحنين إلى ماضٍ ما، كان فيه صلاح الدين الأيوبي، العراقي الكردي، يدخل أبواب القدس حاكماً لمصر، من دون أن يرى أي أحد غضاضة في ذلك.

ولكن بغض النظر عن وجهة نظركم في صلاح الدين، أكان فاتحاً أم مجرماً، وبغض النظر عن رأيكم في كأس العرب كبطولة، وفي الأغنية أو في محمد منير شخصياً، إلا أن هناك سؤالاً يجب طرحه فعلاً: هل نحن أمة واحدة حقاً؟ والأهم من ذلك، إن كانت الإجابة بنعم، هل لا نزال نشعر داخلياً بأننا أمة واحدة؟ وهل نتعامل مع بعضنا البعض، على المستوى السياسي وعلى مستوى العقد الاجتماعي، بناءً على ذلك؟ أم أنه مجرد تيار حنين ونوستالجيا جارف يأتي مع كل تجمع عربي، ثم يختفي كأن لم يكن!

قصة معتادة

كنت مجنداً في الجيش عام 2022، وكانت خدمتي العسكرية شاقة ومتعبة للغاية، نمضي طوال اليوم في العمل والتدريب، ونقضي الليل في الخدمات، ورغم أنني تعلمت الكثير في تلك الفترة، واكتشفت في نفسي قدرات لم أكن أعرفها من قبل، وخالطت أناساً وقادة في غاية الإنسانية والتفوق المهني، إلا أن أكثر مشهد علق في ذاكرتي لم يكن له أي علاقة لا بالتدريب ولا بالعمل ولا بالخدمات ولا بالعسكرية أصلاً، بل كان ذا صلة وطيدة بكرة القدم.

مع بدء مباريات كأس العالم، قطر 2022، أمر قائد الوحدة -الله يبارك له يعني- بشراء شاشة 50 بوصة لمتابعة المباريات مكافأةً لنا على ما حققناه من إنجاز. لم يشارك المنتخب المصري في تلك البطولة، فتوقعت أننا سنتابع ما تيسّر ولكن دون شغف حقيقي، وظل ذلك انطباعي حتى شاهدت بأم عيني ضباطاً وجنوداً مصريين يضبطون ساعاتهم على مباريات المنتخب المغربي، يهللون ويفرحون ويأخذون بعضهم بالأحضان بعد كل هدف، ويسبّون ويزمجرون ويلعنون بعد كل هجمة ضائعة أو هدف مقابل، بالضبط كأنها بلدهم، لدرجة أن أحد الضباط قد عزمنا جميعاً على الحلوى بعد تأهل المغرب للدور نصف النهائي.

هل نحن أمة واحدة حقاً؟ والأهم من ذلك، إن كانت الإجابة بنعم، هل لا نزال نشعر داخلياً بأننا أمة واحدة؟ وهل نتعامل مع بعضنا البعض، سياسياً واجتماعياً، على هذا الأساس؟ أم أنه مجرد حنين ونوستالجيا عابرة تختفي بعد كل تجمع عربي؟

ذلك المشهد أثّر فيَّ جداً، ولعدة أسباب؛ أولها أن معظم هؤلاء الشباب لم يكونوا على قدرٍ عالٍ من التعليم، ولم يكن لهم أي اهتمامات خارج نطاق عملهم كلٌّ على حدة، ولم يكونوا على دراية بأي من تنظيرات القومية العربية، لم يعرفوا زكي الأرسوزي ولا ميشال عفلق ولا ساطع الحصري ولا عبد الرحمن الكواكبي، ولولا أن عبد الناصر كان رئيساً لمصر لما عرفوه أيضاً، ولم يسمعوا محمد عبد الوهاب يدندن: "كل أخٍ عربي أخي"، ورغم ذلك كانوا يحملون مشاعر نقية وخاصة وحقيقية تجاه الأشقاء العرب.

وثانياً لأننا نتحدث عن المغرب، دولة بعيدة من مصر، ليست مثل فلسطين مثلاً، أو لبنان الذي قارع ولا يزال يقارع إسرائيل، وليست مثل سوريا التي قامت معها الوحدة، وليست مثل السعودية أو الأردن أو الكويت أو العراق أو ليبيا الذين سافر إليهم الكثير من المصريين للعمل والكسب، وكونوا تجاههم مشاعر وروابط إنسانية عميقة، وليست مثل الجزائر التي يكنّ المصريون لها احتراماً كبيراً لتاريخها النضالي، ويربطهم ببعض أيضاً النشيد الوطني الجزائري من تلحين الملحن المصري محمد فوزي، كذلك في مباراة فلسطين وسوريا السابقة عندما احتضن لاعبو الفريقين بعضهم بعضاً فور نهاية المباراة، رافعين العلم الفلسطيني والعلم السوري في مشهد قلما ستجده في أي بقعة أخرى من العالم، ويكفينا فقط أن نتابع بوستات السوشال ميديا التي تحدثت عن الأمر لتعرف مدى تأثرهم الشديد.

وحتى مع بدء الإبادة الإسرائيلية في غزة ولبنان واليمن وسوريا، وتضييقات شركة "ميتا" على المحتوى الفلسطيني أو الداعم للقضية بشكل عام، سنجد أن الكثير من الناس استعاضوا عن كلمة "فلسطينيين" أو "لبنانيين" بكلمة "أهلنا" لتخطي الحجب، هل هناك دليل أكبر من ذلك على أننا أمة واحدة؟

تضارب في التوصيف

في حقيقة الأمر، نحن لم ننكر وجود الكثير من مشاعر الحب والأخوة بين المتحدثين باللغة العربية، أو بمعنى أصح، القاطنين في الدول بين المحيط والخليج على اختلاف لغاتهم وطوائفهم، وذلك نظراً لأمور عديدة أهمها التاريخ المشترك. ولكن لتشريح الظاهرة بدقة، يجب أن نميز بين مفهومي العروبة كمفهوم اجتماعي نابع من الشعب نفسه، وبين القومية العربية كفعل سياسي؛ إذ تُعرَّف القومية العربية تقليدياً كعقيدة تتبناها حركات سياسية، وقامت عليها أنظمة حكم، أدت إلى ممارسات تشوبها الكثير من السلبيات.

في المقابل، تُقدَّم العروبة هذه الأيام باعتبارها هويةً وانتماءً أو ثقافةً مشتركة، مجرد رابطة قومية موضوعية تجمعهم على أساس اللغة، والأرض، والثقافة، والتاريخ المشترك. وبالتالي أصبح شيوع مصطلح العروبة، بمعزل عن المفهوم السياسي للقومية العربية، استراتيجيةً فاعلة للتطهّر والحفاظ على المقومات الحضارية لشعوب المنطقة، حيث جرى تبرئة العروبة، باعتبارها ثقافة، من الممارسات السلبية التي ارتُكبت باسم القومية، وبذلك صارت العروبة الجماهيرية غير الرسمية بمثابة رابط شعبي يتجاوز الانقسامات الأيديولوجية والولاءات السياسية القُطرية، بالرغم من تقسيم البلاد وزرع أنظمة متعارضة فيها.

خلق كأس العرب تزامناً عاطفياً وشعوراً مؤقتاً بالتقارب، سمح بتنفيس وجداني واسع دون أن يتحول إلى قوة سياسية. هو مجتمع متخيل يتشكل بسرعة، كما وصفه بندكت أندرسون، ثم يتلاشى بالسرعة نفسها.

لذا يبرز كأس العرب كواحد من أهم تلك الروابط، حيث اقترحه لأول مرة الصحافي اللبناني ناصيف مجدلاني، وذلك وقت انعقاد الدورة الرياضية العربية الثانية في بيروت سنة 1957، ثم تبناه الاتحاد اللبناني وحمل على عاتقه دور مخاطبة اتحادات الدول العربية. الغريب حقاً أنه ظهر في نفس وقت انطلاق بطولات كرة القدم الإقليمية الذي شهد ولادة كأس أمم آسيا سنة 1956، وكأس أمم إفريقيا سنة 1957، وكأس أمم أوروبا سنة 1960، وقبلها الكأس الأوروبية للأندية سنة 1956؛ أي إنه وُلد كفكرة طبيعية للغاية؛ الأفارقة والآسيويون والأوروبيون تجمعهم روابط سيقيمون على أساسها بطولات لكرة القدم، وكذلك العرب أيضاً، تجمعهم روابط أشد ويجب أن تكون لديهم بطولة خاصة بهم، فكرة بسيطة ولم يعارضها أحد.

في الفترة عينها كان النفس القومي على أشدّه مع جمال عبد الناصر ودعمه لحركات التحرر العربي، وصعود نجم الأحزاب القومية مثل حزب البعث العربي الاشتراكي، الذي قام على فكرة بسيطة: "أمة عربية واحدة، ذات رسالة خالدة". بعدها جرى ما جرى لنظام عبد الناصر ومشروعه القومي، ثم عاث البعث في البلاد فساداً وارتكب الجرائم حتى سقط وأسقط معه دولاً بأكملها، وذلك بعدما أثبتت كل التجارب الوحدوية فشلها، بدءاً من وحدة مصر وسوريا مروراً بمشروع الوحدة الكاريكاتوري بين ليبيا وسوريا ومصر بداية السبعينات، وانتهاءً بإفشال صدام حسين لمشروع الوحدة بين العراق وسوريا وحزبي البعث نهاية السبعينات، ومن يومها لم يُوضع أي مشروع وحدوي على الطاولة.

وكل ذلك حدث بسبب معاناة الإطار السياسي العربي القائم على الدولة الوطنية القُطرية من أزمة شرعية مزمنة تهدد استقراره؛ فالحدود بين الدول العربية صنعها الاستعمار، مما أدى إلى ظهور حركات ثورية تكفر بتلك الحدود وتؤمن بأننا أمة واحدة، وبعد سلسلة من الاضطرابات والانقلابات العسكرية، نجح هؤلاء الثوار في الوصول للحكم فعلاً، ولكنهم عجزوا، مع المؤسسات السياسية، عن إنجاز الإصلاحات التي تستجيب لحاجات الناس الأساسية. هذا العجز المستمر أدى إلى تراجع حاد في الثقة بين الأيديولوجيا وبين المواطن، مما أدى بدوره إلى تآكل شرعية تلك المؤسسات، الأمر الذي أنذر بتفكك تلك البنى السلطوية وسقوط النظام السياسي هو وأفكاره في نهاية المطاف، وهو ما حدث فعلاً في الربيع العربي.

ومع فشله هو الآخر في إيجاد صيغة للتعايش المشترك، أو إيجاد صيغة أخرى للتقارب بين العرب بعيداً من ثنائية الوحدة السياسية الكاملة أو الدول القُطرية المستقلة تماماً، بدأت النعرات الطائفية، كالكِميتية مثلاً، في الصعود؛ إذ لم يقتصر فشل الأنظمة القائمة على فكرة القومية العربية على العجز عن إحداث نهضة للأمة فقط، بل أدى فشلها إلى نتائج عكسية خطيرة، شملت كفر الناس بفكرة القومية العربية نفسها.


أزمة الانتماء العربي

الغريب حقاً أن كأس العرب ظل على حاله، لامّاً لشمل العرب رغم كل تلك التخبطات، كإحدى إستراتيجيات احتواء الوجدان العربي، حيث تسمح الدولة المضيفة بتنفيس عاطفي هائل مع إظهار للحمة الجماهيرية، ولكن ضمن إطار زمني ومكاني محدد مسبقاً بقوانين البطولة. هذا الاحتواء يضمن إطلاق الطاقة الوجدانية دون السماح لها بالتحول إلى قوة تنظيمية سياسية دائمة تشكل تهديداً على الاستقرار القُطري، حيث يخلق الحدث الرياضي تزامناً عاطفياً وشعوراً مكثفاً ومؤقتاً بالتقارب والتلاحم.

فيشعر الملايين بأنهم جزء من طقس واحد يتبلور في زمن واحد، جزء من مجتمع ما، ولكنه متخيل بالكامل، وهذا ليس كلامنا بالطبع، بل كلام أستاذ الدراسات الدولية بندكت أندرسون في حديثه عن مفهوم الأمة.

في كأس العالم 2022 كنت مجنداً في الجيش، حينها شاهدت ضباطاً وجنوداً مصريين يضبطون ساعاتهم على مباريات المنتخب المغربي، يفرحون ويحتضنون بعضهم بعد كل هدف كأنها بلدهم، رغم أنهم لم يعرفوا تنظيرات القومية العربية ولا أحزابها، لكنهم حملوا مشاعر صادقة تجاه الأشقاء العرب

إذ يرى أن الأمة تتجاوز كونها مجرد شكلٍ من أشكال الحكم الذي يمارس سيادته ضمن قيود جغرافية محددة؛ فبالنسبة إلى أندرسون، تكمن قوة الأمة في الأفكار المشتركة وروابط التضامن التي تجمع الناس، والتي توحّدهم وتشكّلهم، ولكن عندما تفشل الأمة في إيجاد صيغة سياسية للتفاهم أو العيش المشترك، تظهر الأشياء، كالأحداث الرياضية، كتعويض نفسي، ولكن في سياقات آمنة ومحدودة زمنياً. فعندما تفقد المؤسسات القُطرية ثقة الجمهور، يُعاد توجيه الانتماء نحو مساحات أكثر تلقائيةً وعاطفية، إذ لا يلغي الإخفاق السياسي الحاجة الأساسية للانتماء.

وصحيح أن نظرية أندرسون التقليدية ارتبطت بالإيقاع الزمني البطيء نسبياً للمطبوعات، إلا أن ظهور السوشال ميديا أثبت الفكرة ولم ينفها، إذ أصبح تخيل الأمة عمليةً فائقة السرعة وشديدة العاطفة، تُبنى فيها الروابط الوجدانية في أي حدث عربي سريعاً، مما يفسر شدتها العالية وعدم استمرارها في آنٍ واحد، وهو ما يمكن تسميته بـ "التصور الخاطف للوحدة". ولكن هل تلك المشاعر كافية فعلاً؟

في حقيقة الأمر، فالإجابة نعم، ولا، في الوقت عينه؛ حيث يمكن تفسير اللُحمة الوجدانية في كأس العرب على أنها حنين عاطفي (نكوصي) إلى العصر الذهبي للقومية العربية، تعبير عن العروبة الثقافية الحية، وُلد وتجسّد في الفضاء العام، الرياضي منه تحديداً، كآلية دفاعية جماهيرية ضد فشل النموذج السياسي، مجرد صرخة عاجزة أمام الواقع المرير والفشل المستمر. ولكن، رغم ذلك، يمكن أيضاً اعتبارها أساساً لعروبة جديدة مرنة، تتمحور حول المشترك الثقافي والاجتماعي لا حول السلطة السياسية أو الشعارات، بالضبط كما فعل الضابط المصري في ليلة صعود المغرب.

خصوصاً أن تلك المشاعر هي الباقية، ودونها لا أمل مستقبلياً في تطوير مساحات تعاون أكثر تعاوناً، أو حتى مجرد التفكير في سؤال الوحدة بطريقة مختلفة، أو حتى محاولة الإجابة عن سؤال: إذا كان نظام الوحدة السياسية الكاملة قد أثبت فشله، ونظام الدول القُطرية التي صنع حدودها الاستعمار أثبت فشله هو الآخر، فهل يمكننا ضبط شكل جديد للوحدة، يستوعب المشاعر الجياشة في نظام سياسي أكثر تعاوناً، مع الاحتفاظ بخصوصية كل دولة على حدة؟


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

منذ 12 سنةً، مشينا سوا.

كنّا منبر لناس صوتها ما كان يوصل،

وكنتم أنتم جزء من هالمعركة، من هالصوت.

اليوم، الطريق أصعب من أي وقت.

وصرنا بحاجة إلكن.

Website by WhiteBeard
Popup Image