بين وعد بلفور وعودة أوروبا

بين وعد بلفور وعودة أوروبا

رأي نحن والحقوق الأساسية

الثلاثاء 30 سبتمبر 20258 دقائق للقراءة

من بين كل الاعترافات الأخيرة بـ"دولة" فلسطين، من طرف دول غربية وازنة، يكتسب اعتراف بريطانيا أهميةً خاصة، وخصوصاً لدى الفلسطينيين، وذلك لعدة أسباب منها، بلا شك، السلطة الرمزية لبريطانيا على مجموع دول الكومنولث، والبالغ تعدادها أكثر من خمسين دولة. صحيح أن التاج البريطاني لا يملك سلطة سياسية على هذه الدول تخوله أن يدفعها إلى تبنّي سياساته ومواقفه، لكن مظلّة هذا التاج تتيح هامشاً من التماهي بما يحافظ على الخطوط العامة للمصالح.

ليس من الصدفة، في تقديري الشخصي، وجود أربعة من دول الكومنولث من بين الدول التي اعترفت بـ"دولة" فلسطين خلال الأيام المنصرمة، وهي كندا وأستراليا ونيوزيلندا ومالطا، خصوصاً وأن بعض هذه الدول لا تُعرف عنه مواقف مؤيّدة للفلسطينيين وللحق الفلسطيني، بل إن العكس هو الصحيح، حيث تربطه بإسرائيل علاقات سياسية ومصالح اقتصادية أكثر قوة.

اعتراف بريطانيا بـ"دولة" فلسطين تكمن أهميته في كيفية استغلاله، خصوصاً إذا أدركنا أن "وعد بلفور" لم يتحقّق بين ليلة وضحاها، بل احتاج أكثر من 30 عاماً من العمل الدؤوب، والتحالفات، والمؤامرات

الأهمية الثانية تنبع من أن هذه الدولة -بريطانيا- هي صاحبة "وعد بلفور" الذي لعب دوراً حاسماً في تأسيس إسرائيل، وبهذا الاعتراف تبدو وكأنها تصلِّح خطأً تاريخياً. أو ربما إذا استطعنا استعارة لغة القانون، يمكننا القول إنها تستأنف حكماً قضائياً ظالماً، وتُعيده إلى منصّة المحكمة مجدّداً، ليتم البتّ فيه.

على كل حال، لقد تم إشباع هذه النقطة بالكتابات والتصريحات السياسية، وحتّى بالمطالبات من بريطانيا بالاعتذار عن هذا الخلل التاريخي الذي استمر أكثر من مائة عام، ولسنا هنا بصدد تكرار ذلك أو التأكيد عليه، بقدر ما تهمّنا المقارنة بين لحظتين تاريخيتين، ومحاولة استخلاص بعض النتائج من هذه المقارنة، أو الإجابة عن تساؤلات من قبيل: لماذا الآن؟ وما هي الفائدة؟ ولماذا لا تستطيع هذه الدول أن توقف حرب الإبادة الإسرائيلية المستمرة في حق الفلسطينيين في قطاع غزة، بينما تقدّم لهم هذا الاعتراف؟

من الضروري، أولاً، التأكيد على أن وعد بلفور تمّ في لحظة رسم وتكريس حدود "سايكس بيكو"، فوق ممتلكات الإمبراطورية العثمانية المهزومة، بينما يتم هذا الاعتراف في لحظة تفكيك هذه الحدود وتهشيمها، بل ونزع القدسيّة عنها. ثم إن "وعد بلفور" تم في حقبة تاريخية كانت فيها بريطانيا في أوج قوّتها الاقتصادية والسياسية والعسكرية، أي "سيدة العالم"، بينما يتم هذا الاعتراف في لحظة تراجع هذه القوة وخسارتها للعديد من مراكز النفوذ في العالم، وخصوصاً في الشرق الأوسط.

و"وعد بلفور" تم أيضاً في لحظة كانت فيها الدولة، أي دولة بالعموم، هي المبتغى أو الهدف النهائي والأوحد لتمظهر وتحقّق النزعات القومية. أعني أن الشكل المُشبِع أو المُرضي سياسياً للجماعات القومية، هو أن تتوحّد داخل حدود سياسية، لتكتسب الجماعة صفة شعب، ولتكتسب الحدود صفة دولة. أما هذا الاعتراف الأخير، فقد تم في زمن أفول النزعات القومية، تحت ضربات عالم ما بعد العولمة، واستحقاقات عصر التكنولوجيا، ولم يعد فيه للدولة نفس الأهمية، أو التعريف السابق، أو الوظيفة المنشودة والمتعارف عليها، وينطبق هذا الكلام حتى على بريطانيا نفسها.

في العام 1917، أي في الوقت الذي صدر فيه "وعد بلفور"، كانت المملكة المتحدة تخوض الحرب العالمية الأولى إلى جانب فرنسا وروسيا، وبعض الحلفاء، ضد دول المحور المكوَّن من ألمانيا، والإمبراطورية المجرية النمساوية، والإمبراطورية العثمانية، وكان هناك عالم كيمياء بريطاني يهودي من أصول روسية، يُدعى حاييم وايزمان، يقدِّم مساعدته إلى الحكومة البريطانية في تصنيع المتفجرات بطريقة غير مُكلفة وبكميات كبيرة.

يعتبر حاييم وايزمان ثاني أهم شخصية من قيادات الحركة الصهيونية كحركة سياسية، بعد ثيودور هرتزل، حيث لعب دوراً مهماً، بل وأساسياً في النقاشات السابقة لاستصدار "وعد بلفور"، ثم أصبح في ما بعد رئيساً للمنظمة الصهيونية العالمية، وبعدها تقلَّد منصب أول رئيس لإسرائيل في عام 1949.

شخصية أخرى مهمة لعبت دوراً حاسماً في استصدار هذا الوعد وهو زعيم اليهود في بريطانيا، والتر روتشيلد، مستفيداً من القوة الاقتصادية والسياسية المتوارثة لعائلة روتشيلد في أوروبا منذ منتصف القرن الثامن عشر. العائلة التي بنت إمبراطوريتها المالية من احتكار تجارة الذهب في أوروبا في القرن التاسع عشر، ومن فوائد التمويلات الحكومية وتجارة المستندات، والاستثمار في سكك الحديد، والتعدين، والنسيج.

جزء كبير من هذه التجارة وهذه التمويلات والاستثمارات، كانت مع القوة الصاعدة بسبب الثورة الصناعية الأولى في القارة الأوروبية، وهي بريطانيا، بحيث يمكننا المجازفة بالقول إن هذه العائلة كانت أحد الشركاء المهمين في الثورة الصناعية والمحرّكين لها. ومع أن العائلة أصولها ألمانية، إلا أن تضعضع استثماراتها في ألمانيا قبيل الحرب، سمح لفرعها في بريطانيا أن يقوم بتمويل الحرب، أو المساهمة في هذا التمويل على أقل تقدير.

إذاً، لدينا شخصيتان يهوديتان بالغتا التأثير على الحكومة البريطانية، يضاف إليهما رغبة بريطانيا ومصلحتها الاقتصادية في قطع التواصل بين مصر الصاعدة آنذاك، وبين مخلَّفات الإمبراطورية العثمانية في بلاد الشام، بالأساس من أجل عدم تهديد طريق الحرير (وهي تسمية متأخرة لخط المواصلات الصيني الأوروبي) من قِبل هذه القوة الصاعدة. وذلك كما حصل حين اجتاحت جيوش إبراهيم باشا المنطقة وصولاً إلى حدود الأستانة في الثلث الأول من القرن التاسع عشر، وشكّلت تهديداً جدّياً للنفوذ البريطاني على هذا الطريق.

في ظل هذه الأجواء من العلاقات والمصالح السياسية والاقتصادية، صدر "وعد بلفور" على شكل رسالة قصيرة موجَّهة من وزير الخارجية البريطاني آرثر جيمس بلفور إلى والتر روتشيلد، تؤكد على دعم حكومته تأسيس "وطن قومي لليهود" في فلسطين.

لكن من هي بريطانيا، وما هو وضعها الآن كدولة أوروبية أولاً وأخيراً؟ وهل هذا الاعتراف منها ومن بقيّة الدول يكتسب أهمية "وعد بلفور" الخاص باليهود؟ يمكننا تلمّس الإجابة في مقال نشرته صحيفة معاريف الإسرائيلية عشيّة اجتماع نيويورك قالت فيه: "هذا الاعتراف ليس مجرّد رمزية، إنه رسالة واضحة بأن 'حل الدولتين' يجب أن يعود إلى مركز المسرح، حتى بثمن مواجهة مباشرة مع الحكومة الإسرائيلية، وحتّى بثمن فتور العلاقات مع واشنطن... وأن الفارق بين رمزية فارغة ورمزية ذات مغزى، يكمن في كيفية استغلالها".

ما دمنا لا نملك القوة المكافئة، ولا يملكها من اعترف بنا أيضاً، أو لا يرغب ولا يستطيع أن يضعها في خدمتنا، فلنعمل على تحييد قوة عدونا بأن ننزع عنه شرعيته وأسبابه… عامر بدران يكتب عن أهمية اعتراف بريطانيا بـ"دولة" فلسطين

هل هذا يعني أن الاعتراف سبب للمواجهة وفتور العلاقات؟ من ناحيتي، أظن أن العكس هو الصحيح؛ إن هذا الاعتراف عدا عن كونه انتصاراً قيميّاً وأخلاقياً لدماء المظلومين، فهو نتيجة لهذه المواجهة بين أوروبا وبين الولايات المتحدة، والتي تتعمّق يوماً بعد يوم، بسبب استحواذ الأخيرة على مناطق نفوذ بريطانيا وفرنسا، وبسبب التعامل المتعالي مع أوروبا وكأنها مُلحق ليس له أي أهمية إلا بقدر ما تقرّر الولايات المتحدة كوصيّ عليه، وهو كذلك بالفعل. إنه محاولة الأنفاس الأخيرة للتخلّص من هذه الوصاية، والحفاظ على المكانة التاريخية.

لكن الصائب في الاقتباس السابق هو أن أهمية هذا الاعتراف تكمن في كيفية استغلاله، خصوصاً إذا أدركنا أن "وعد بلفور" لم يتحقّق بين ليلة وضحاها، بل احتاج أكثر من 30 عاماً من العمل الدؤوب، والتحالفات، والمؤامرات. علينا إذاً، أن نعمل وأن ندير شأننا السياسي بما يتوافق مع رغبة العالم أو اضطراره للاعتراف بحقنا -نحن الفلسطينيين- في تقرير المصير، أو بالبقاء في وطننا على أقل تقدير، لأن فكرة الدولة كمؤسّسة حاكمة في العالم تتآكل مع الزمن، وربما لا يسعفنا الوقت للحاق بهكذا شكل من التحقق السياسي. 

وهذا العمل لا يمكن أن يكون مفيداً إلا بتركيزه على أولوية البقاء ووقف القتل والتهجير، وما دمنا لا نملك القوة المكافئة، ولا يملكها من اعترف بنا أيضاً، أو لا يرغب ولا يستطيع أن يضعها في خدمتنا، فلنعمل على تحييد قوة عدونا بأن ننزع عنه شرعيته وأسبابه.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

وراء كل تقرير في رصيف22، أيام من العمل: من التفكير والتحرير إلى التحقق والإنتاج البصري.

نحن نراهن على النوع، والصدق، والانحياز إلى الحقيقة والناس.

وحتى يستمرّ هذا العمل، نحتاج إلى من يؤمن بأنّ الجودة والحرية تستحقان الاستثمار.

Website by WhiteBeard
Popup Image