تبدو الأيقونة، في ظاهرها، لوحة خشبية مرسومة بألوان زاهية لشخصية مقدسة. لكنها، في عمقها، تمثّل أكثر من مجرد فنّ ديني؛ إنها ذاكرة بصرية للعقيدة، وجسرٌ بين الأرض والسماء. فمنذ القرن السادس الميلادي، حين تشكّلت الملامح الأولى لفنّ الأيقونة في بيزنطة، امتزجت الصورة بالإيمان، وصارت وسيلة للتعبير عن اللا منظور، عن القداسة التي لا تُمسّ ولكن تُرى. ومع انتشار المسيحية في المشرق العربي، تحوّلت الأيقونات إلى سجلٍّ مرئي للوجدان المسيحي العربي، تجسّد مزج الإيمان بالرمز والهوية بالروح. يعمل هذا المقال على الغوص في عمق تلك الأيقونات، ليكشف أبطالها، وليبيّن كيف عبّرت عن وجدان الجماعة المسيحية العربية عبر العصور.
ما هي الأيقونة؟
اشتُقت كلمة "أيقونة" من اللغة اليونانية القديمة، وتعني صورة أو تمثال مُصغر لشخصية ما. عُرف الفن الأيقوني على نطاق واسع في الشرق الأدنى القديم قبل الميلاد. ومع ظهور المسيحية وانتشارها، راجت صناعة الأيقونات الدينية لغرض العبادة والتبرك. وشاع وضع الأيقونات في الكنائس والأديرة في شتى البلدان والأقاليم.
بعيداً عن المعنى المادي المجرد، حملت الأيقونة طابعاً روحياً مهماً. على سبيل المثال، عرّف القديس يوحنا الدمشقي الأيقونة في القرن الثامن الميلادي بأنها "نافذة نحو السماء"، أي أن النظر إليها ليس عبادة للصورة، بل تواصل مع من تمثله. في زمنه، دافع الدمشقي بشدة عن مشروعية الأيقونة في وجه حركة "محطمي الأيقونات" البيزنطيين، مؤكداً أن المسيح "صار إنساناً، ومن ثم جاز تمثيله" كما يذكر في كتاب "المئة مقالة في الايمان الأرثوذكسي". هذا المبدأ اللاهوتي أرسى الأساس لما عُرف لاحقاً بـ"لاهوت الصورة"، الذي جعل الفن وسيلة معرفة روحية لا تقل عن النصوص.
إذا كانت الأيقونة مجرّد صورة على خشب، فكيف استطاعت أن تتحوّل عبر القرون إلى لغة تُعرّف الجماعات، وتدوّن الذاكرة، وتشكّل ما يشبه تاريخاً موازياً للإيمان؟
في التقليد الشرقي، تُكتب الأيقونة ولا "تُرسم"، لأن الفنان يُعدّ ناسخًا للوحي البصري أكثر منه مبدعًا ذاتيًا. فالخطوط والألوان والرموز كلها تخضع لقوانين صارمة مستمدة من التراث الكنسي. اللون الذهبي يرمز للنور الإلهي، والأزرق للحكمة السماوية، والأحمر للحياة والشهادة. حتى العيون الواسعة والأصابع الممتدة ليست محض جماليات، بل إشارات إلى انفتاح الروح وتواصلها مع المطلق.
في مصر... أحلام الأقباط وآلامهم
في الكنائس القديمة الممتدة من جبل صهيون والقدس إلى وادي النطرون وصعدة ومعلولا، نجد آثار مدارس متعددة للأيقونة: القبطية، والسريانية، والمارونية، والملكية. ورغم اختلاف التفاصيل الشكلية، فإنها تشترك في جوهر واحد: التعبير عن تجربة الإيمان في بيئة عربية.

في مصر، على سبيل المثال، تُعدّ أيقونات القديس مار جرجس والقديسة دميانة والعذراء والطفل يسوع من أكثر الصور تداولاً بين الأقباط. أيقونة مارجرجس، المحارب الذي يقتل التنين، تُعرض في كل بيت تقريباً. لكنها ليست مجرد قصة بطولية، بل استعارة عن انتصار الخير على الشر، وعن مقاومة الظلم في مجتمع طالما عاش ضغوط السلطة والتاريخ.
في كتاب "قصة مار جرجس بين التاريخ والتقليد الشعبي" (2017) يذكر الباحث القبطي جوزيف ممدوح توفيق أن تحوّل مار جرجس من شهيد روماني إلى رمز قبطي للمقاومة الروحية كان في حقيقة الأمر عملية تأصيل ثقافي داخل المسيحية المصرية، إذ تماهت صورته مع وجدان الجماعة القبطية مع مرور الزمن. من الجدير بالملاحظة أن ايقونة مارجرجس قد تأثرت بشكل كبير ببعض الصور المقدسة الأقدم منها، ولا سيما بصورة الإله المصري القديم حورس أثناء صراعه الدامي مع الإله ست.

كذلك، اكتسبت أيقونة العذراء في كنيسة الزيتون بالقاهرة بعدًا روحيًا يتجاوز الفن والطقس، إذ ارتبطت بظهورات العذراء في ستينيات القرن الماضي، في مرحلةٍ كان المصريون يعيشون فيها نكسة عسكرية وانكساراً قوميّاً. فجاءت الصورة لتعيد إلى الناس رمز الأمل والتعزية. أشار الأديب جمال الغيطاني في كتابه "ملامح القاهرة في ألف سنة" إلى هذا المعنى. فذكر إن "الناس حين فقدوا الأرض بحثوا عن سماءٍ تعيد لهم المعنى". كانت العذراء الزيتونية، في ذلك السياق، تجسيداً لتلك السماء؛ ظهوراً حمل العزاء الجمعي لشعبٍ فقد ثقته في الواقع السياسي وراح يستعيد تماسكه عبر الرمز المقدّس.
من جهة أخرى، تتسع آفاق الفن الأيقوني ليعبر عن الآلام المتجددة للشعب القبطي؛ على سبيل المثال، ظهرت في السنوات الأخيرة أيقونة "شهداء ليبيا"، وهي رسم يمثل 21 مسيحياً قبطياً قُتلوا على يد تنظيم "داعش" في ليبيا في سنة 2015. وهكذا، تمكنت الأيقونة من تخليد تلك الذكرى في الوجدان القبطي الجمعي.
في الشام... أيقونات المقاومة والهوية
في سوريا ولبنان وفلسطين، تبرز الأيقونة كصورة للهوية لا تقل أهمية عن اللغة. فالكنائس القديمة في معلولا وصيدنايا ومار سركيس تحتفظ بأيقونات تمزج الأسلوب البيزنطي بالتقاليد العربية. من بين أبرزها، أيقونة السيدة العذراء سيدة صيدنايا، التي يُعتقد أنها من رسم القديس لوقا نفسه بحسب التقليد المحلي، وهي محجّ للمؤمنين من مختلف الطوائف. أما أيقونة القديس جاورجيوس في اللدّ بفلسطين، فقد كانت على مدى قرون رمزاً للوحدة الشعبية، إذ يتبارك بها المسيحيون والمسلمون على السواء، حتى صار "الخضر" في الوعي الشعبي المسلم يقابل "مارجرجس" في المسيحي.

في مدينة معلولا التي تقع بريف دمشق، تلعب الأيقونات المسيحية دوراً محورياً ليس فقط من الناحية الدينية والروحيّة، بل كمحور رمزي يجسّد الهوية الجماعية المسيحية والارتباط التاريخي العميق بالسرد الديني.
يُعَدُّ دير مار تقلا في معلولا موقع حج مهم، وتضم كنائسه أيقونات تعود إلى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، مثل أيقونات المسيح، والعذراء، والقديسة تقلا، بالإضافة إلى مشاهد من حياة المسيح. هذه الأيقونات تشكّل جزءاً من الذاكرة البصرية للأهالي والزائرين، وتُستخدم في الاحتفالات الدينية، مثل "عيد الصليب"، حيث يتجمع المؤمنون من مختلف الطوائف في البلدة، ويحرّكون شعلة الصليب عبر التلال في مسيرة تعبّدية.
من جهة أخرى، تعرض بعض الأيقونات في معلولا لاعتداءات خلال الصراع السوري؛ ففي إحدى الوثائق وصفُ أن مجموعات مسلّحة تلفت وجوه القدّيسين على الأيقونات أو سرقتها، ما يشير إلى بعد سياسي أيضاً: فهذه الأيقونات ليست مجرّد تراث ديني، بل رمز لهوية مسيحية محلية تصارع على الاعتراف والحماية. وبعد إعادة ترميم الدير، استُعيدت بعض الأيقونات والأجراس التاريخية، مما مثّل استعادة للتراث المسيحي في معلولا وعودة "الصوت الرمزي" لهذه الأيقونات كعامل ترابط بين الماضي والحاضر، وبين البعد الروحي والبعد الاجتماعي.

من جهة أخرى، حملت الكثير من الأيقونات المسيحية الشامية بعض القصص الأسطورية التي عكست أمال المسيحيين وأحلامهم. على سبيل المثال، يظهر هذا الطابع في أيقونة "العذراء ذات الثلاثة أيدي". بحسب التقليد السرياني فإن أحد الخلفاء الأمويين قام بقطع اليد اليمنى ليوحنا الدمشقي الذي يُعدّ أخر آباء الكنيسة الشرقية، عندها، صلى يوحنا كثيرًا أمام أيقونة العذراء، فلما نام رأى مريم، وأخبرته بأنها ستعيد يده إليه، ولما استيقظ وجد يده في مكانها، وسرعان ما انتشر الخبر ووصل للخليفة المسلم، فأبدى ندمه على ما وقع، وطلب من الدمشقي أن يعود إلى منصبه، ولكن يوحنا رفض ذلك وسافر لفلسطين لينتظم في سلك الرهبنة. رغم غرابة القصة وصعوبة تصديقها، بقيت أيقونة العذراء ذات الثلاثة أيدي" رمزاً خالداً للعزاء الذي من الممكن أن يقدمه الأيمان للمسيحيين في لحظات الضعف والخضوع.
الأيقونات المارونية والكاثوليكية: لغة الجبل والقرية
في لبنان، تطورت مدرسة الأيقونة المارونية بين القرنين السابع عشر والتاسع عشر، متأثرة بالفن الإيطالي من جهة وبالروح الشرقية من جهة أخرى. تظهر في أيقونات مار مارون والقديس شربل ملامح وجهٍ قرويٍّ متقشفٍ يشي بالزهد والانقطاع، مع خلفيات جبلية توحي بالعزلة والتأمل. أما في الكنائس الملكية الكاثوليكية المنتشرة في دمشق وحمص والقدس، فقد امتزجت الزخرفة الشرقية بالمذهب الكاثوليكي الغربي، فظهرت أيقونات البشارة والقيامة والقديس بطرس بأسلوب يجمع الواقعية بالرمزية.
حين يتأمل المؤمن الأيقونة، لا يبحث عن الجمال فحسب، بل عن معنى لحضوره في التاريخ؛ فكل لون فيها شهادة، وكل نظرة فيها وعدٌ بالخلود
في كتابه "الأيقونات المارونية: الفن المقدس الحديث" ذكر الباحث غيتا حوراني أن الأيقونة في جبل لبنان ليست فناً بل نظاماً روحياً للتذكّر، تحاول أن تخلّد وجوه القديسين المحليين الذين شكّلوا ذاكرة الجماعة المارونية. وأن في كل أيقونة جانب "مُبطَّن، خفي، أو غامض"، وجانب "كاشف، جليّ، أو لا لبس فيه". يتطلب كلا الجانبين من المؤمن الصلاة وفهم اللاهوت أو المفهوم اللاهوتي الذي يُجسَّد بصرياً من خلال الأيقونة".
من الجدارية إلى الشاشة... الأيقونة المعاصرة
في العقود الأخيرة، لم تعد الأيقونة حكراً على الكنيسة. فقد تحوّلت إلى رمز بصري للهوية الثقافية في العالم العربي. في الجداريات الحديثة التي تزيّن أحياء بيروت أو الناصرة أو القاهرة القديمة، نرى وجوه القديسين وقد أعيد إنتاجها بروح الفن الحديث. كما دخلت الأيقونة عالم السينما والموسيقى من خلال العديد من الأفلام الدينية التي تم إنتاجها بمعرفة المؤسسات الدينية المسيحية في العالم العربي، ومنها على سبيل المثال كل من فيلم "مار جرجس"، وفيلم "الشهيدة دميانة وال40 عذراء".
هذه التحولات تعكس رغبة جديدة في استعادة البعد الجمالي للقداسة. في وسائل التواصل الاجتماعي أيضاً تتواجد الأيقونات المسيحية، إذ تنتشر صور القديسين والعذراء مرفقةً بعبارات دينية، كجزء من التعبير الشعبي عن الإيمان في زمن ما بعد الحداثة، وفي عصر الواقع الافتراضي.
تأمل تاريخ الأيقونة في المشرق يكشف أنها ليست مجرد أثر فني، بل لغة هوية روحية وجمالية. فهي توثّق كيف تخيّل الإنسان العربي المقدّس، وكيف أعاد تشكيله وفقاً لوجدانه الجمعي. فالعذراء في مصر ليست هي نفسها في جبل لبنان أو في القدس، وإن كانت جميعها تحمل الطفل ذاته. كل صورة تُعيد تمثيل الإيمان في سياق محليّ، لتقول: نحن جزء من الكنيسة المسيحية الجامعة، ولكننا أيضاً أبناء هذه الأرض.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



