أمسكت نفسي عن الصراخ عالياً، وردّدتها للمرة العاشرة بحزم: لا تعني لا... لكنه كان ما يزال يحاول إقناعي بتغيير رأيي، كأنها دعوة لتجربة طبق أو مشروب جديد، أو كأنني لست متأكدة من إجابتي وعليّ إعادة التفكير.
لم أفهم لحظتها إن كنت السبب بتعبيري الخاطئ عن رفضي، فقد ابتسمت عندما قلت الـ "لا" الأولى، وبعد إصراره صرت أكثر جدية، إلى أن ارتفع صوتي جازماً بـ "لا"، ولم أشكّ بفهمه للغة نفسها، فرغم أننا في باريس إلا أنه شاب عربي، نتكلم نفس اللغة وكبرنا في نفس المدينة. هل كان صعباً عليه استيعاب كلمة من أصغر الكلمات وأكثرها تعبيراً عن الرفض؟
لم أفهم تجاهله التام لردّة فعلي ومتابعته إغوائي لقضاء ليلة معه في السرير، حين جلس مستسلماً. بدأنا الحديث عن الأمر، أكّد لي أن هناك فتيات يقلن "لا" في البداية، ثم يغيّرن رأيهن، ولم يندمن على حدّ قوله. غريب أن بعض محاولات الإنكار هذه قد تنجح بالفعل، وتنتهي باستسلام الفتاة لفكرة أن الشاب لم يفهم رفضها، لذلك عليها تحمّل العاقبة بصمت، والتنازل لرغباته حتى يخرج من بيتها أو تخرج من بيته، فلا أحد يريد فضائح حتى في بلاد الأجانب، ولا أحد يريد الاستعانة بالشرطة، فمحاولات الإغواء وحتى الإصرار عليها لا تندرج تحت قائمة العنف، ولا أعتقد أن كل النساء يمتلكن قوة ما، ويتحكمن بشكل كامل بخياراتهن، وتحديداً الجنسية منها، فالكثيرات مازلن ضعيفات عند مواجهة الـ "لا"، أما الرجال فما زال الكثير منهم يعتقد أن الرفض دلال وأن الصمت علامة الرضا.
قد أُعجب بشاب أو بفتاة، وأجرّب التقرب منه أو منها، وحتى السؤال بكل بساطة وصراحة عن رغبة الآخر بمشاركة جسده معي، لكن هل أنا مستعدة لتقبُّل إجابة الـ "لا" بنفس الصراحة والبساطة؟ هل رفض الآخر لي يقّلل من ثقتي بنفسي أو من أنوثتي؟
سوء تفاهم أم إنكار؟
قد أُعجب بشاب أو بفتاة، وأجرّب التقرب منه أو منها، وحتى السؤال بكل بساطة وصراحة عن رغبة الآخر بمشاركة جسده معي، لكن هل أنا مستعدة لتقبُّل إجابة الـ "لا" بنفس الصراحة والبساطة؟ هل رفض الآخر لي يقّلل من ثقتي بنفسي أو من أنوثتي؟
هذا جانب نفسيّ ينطبق على الكثير من الناس من كل الثقافات، وهو ربط رأي الآخر عنّا برأينا عن أنفسنا، فنحاول بشكل ما تجاهل الرفض أو إنكاره بشكل تام، خوفاً من الوصول إلى الحكم على أنفسنا بأننا أقل من الآخرين، أو أننا لسنا بالمستوى المطلوب أو المتوقع، ويتعلّم الشاب أن عليه المبادرة، وأن الفتاة، حتى لو كانت مغرمة به، لن تعبّر عن مشاعرها أولاً، بل ستكون بانتظاره ليدقّ باب قلبها، أو حتى باب منزل أهلها، ليتقدّم إليها كعريس في بلداننا العربية، وأن رفض المرأة في البداية ليس إلا لإشعاره بأنها ليست سهلة، وأن عليه فعل الكثير للوصول إليها وتكرار المحاولة حتى الفوز بقبولها.
فرحت بتحرّري من ممارسات اجتماعية لم أوافق عليها، لا في سوريا ولا في خارجها، ومع مرور الوقت نسيت ما يسمونه طريقة التفكير العربية أو الغربية في مجال العلاقات الإنسانية، وعشت حسب القواعد التي وضعتُها لنفسي، لأصدم في أغلب الأحيان حين أتعرّف على شاب، وخاصة عربي، بأنه يعاملني بطريقة يفترض فيها أنه يعرفني ويعرف "حركات البنات"، عدا عن شبه تلاشي إيمانه بالصداقة ما بين الرجل والمرأة، فإن دعوتك يا صديقي الرجل للعشاء في بيتي في الغربة، لأنني مشتاقة للتحدث بلغتي ولأنك مشروع صديق من رائحة البلد، فهذا لا يعني أنها دعوة مخفية لممارسة جنس من رائحة البلد أيضاً، وإن حاولتَ التقرب مني وكانت ردّة فعلي: لا، فهذا يعني أنني ومن داخلي لا أرغب بك جنسياً، فلم تستمر في المحاولة؟ هل هو سوء فهم أم إنكار؟ سؤال يدفعني إلى أن أسال نفسي أولاً: هل أنا السبب؟ وهل أعبّر عن نفسي ورغباتي بالشكل الصحيح، هل أعرف قول: لا؟
لا أعرفُ كيف أقول "لا"!
تربيت على ألا أعبّر عمّا في داخلي أغلب الأوقات، وهذا جزء من ثقافتنا العربية لإظهار عزّة النفس مثلاً. لعبة اجتماعية نمارسها دون محاكمة، لأكتشف أكثر من ذلك، وهو جهلي لقول كلمة: "لا" أو حتى "نعم"، فأغلب المرات التي قلت فيها "لا"، كان الردّ إما غضب أهلي أو استنكارهم لما أسموه عصياني لأوامرهم، فعلي الطاعة والمجاراة لأنهم يعرفون أكثر مني ما هو الأفضل لي، والخوف من حكم الآخرين، والتفكير كلّ الوقت بماذا سيقول الناس عني. فكلّ مرة أقول فيها "نعم" أو "لا" أتشكّك: هل هي الإجابة الصحيحة؟
باحتْ لي إحدى صديقاتي بأنها مارست الجنس مع العديد من الشبان لأنها لا تعرف أن تقول: لا، فهي تستحي، أو أنها تخاف من الحكم عليها بالتعصب أو التخلّف، أو من قوة الشاب وإحساسها أنها لو رفضت سيتحول الأمر إلى اغتصاب فعلي، وكما أن هناك فتيات لا يمارسن الجنس بسبب الخوف من العار والفضيحة وحتى الله، هناك أخريات قد يمارسنه لخوفهن من حكم الآخرين عليهن بالتزمُّت والانغلاق. ولكن هل نفضّل ممارسة الجنس خجلاً من قول "لا" حقيقية، بغض النظر عن النتيجة وحتى خسارة صداقة محتملة؟
باحتْ لي إحدى صديقاتي بأنها مارست الجنس مع العديد من الشبان لأنها لا تعرف أن تقول: لا، فهي تستحي، أو أنها تخاف من الحكم عليها بالتعصب أو التخلّف، أو من قوة الشاب وإحساسها أنها لو رفضت سيتحول الأمر إلى اغتصاب فعلي
أتعلّم احترام نفسي والتعبير عن ذاتي
أحاول فهم ذاتي أكثر، ومعرفة رغباتي وما أحب وما أكره، وأقع في فخّ التعميم والظنّ أن جميع الناس تفكّر كما أفكّر وتفعل كما أفعل. هي ليست معادلة من المصيب ومن المخطئ، ولكن فقط أنني أعكس ذاتي على الجميع وأنسى الاختلاف، كما أكتشف بداخلي رواسب تربوية تمنعني من مواجهة نفسي بشكل صريح أحياناً، وحين أواجه نفسي وأحترمها أستطيع بسهولة أن أحترم الآخر، فإدراكي أنني أختار ما أريده فعلاً وأعبّر عنه، يدفعني إلى تصديق أن ما يقوله الآخر أو يفعله يعبّر عنه أيضاً، ولا أتشكك بأن هناك ازدواجية في تعبيره عن ذاته، أو أنه يعبّر عن ذاته بشكل مختلف مثلاً.
ربما من الصعب تغيير عادة كبرت عليها، كإخفاء مشاعري الحقيقية، ولكن الآن حيث غادرت وسطي الاجتماعي الذي فرض عليّ الكثير من الممارسات التي لم أوافق عليها، أليست هذه فرصة لمواجهة نفسي ومعرفة وممارسة والتعبير عمّا أريده بالفعل؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...