"فلسطيني على الطريق"… اليسار الإسرائيلي يتبنى الصهيونية الناعمة

ثقافة نحن والحرية

الثلاثاء 9 ديسمبر 20258 دقائق للقراءة

من الاصطلاحات ما يُخترع اختراعاً لهدف مُقيَّد بإحكام، لأداء وظيفة وحيدة. لا أقصد الدلالة المطلقة للاصطلاح، وإنما الإشارة إلى احتكار الحمولة التفسيرية، وارتهانها بشيء محدد، فيصير الاصطلاح صفة تقتصر على هذا الشيء الذي قد يكون جماعة بشرية، أو كياناً سياسيّاً.

فاصطلاح "الخروج" اقترن بفرار يهود مصر من فرعون، وفقاً لرواية العهد القديم، وإن خلت المصادر الأثرية والتاريخية من تلك الأسطورة. أما "الغيتو" فارتبط بالجماعات اليهود، باختلاف الأزمنة والأمكنة، لدرجة يظن معها الكثيرون أن الاصطلاح مركّب: "الغيتو اليهودي" الذي أراد اللئام أن يشمل جماعاتٍ يهودية اندمجت، بشكل أو بآخر، في محيطها البشري. اللئام أنفسهم يزعجهم وجود أي "غيتو" اضطراري يسحب من الرصيد اليهودي لدلالة الاصطلاح. ففي فيلم "حتى إشعار آخر" لرشيد مشهراوي أزعجهم أن يحقق فلسطينيون في غزة هذا المعنى، إذ تحايلوا بتلقائية على حظر التجول، بابتكار وسيلة للتواصل، مستغلين الحيّز الداخلي للمنازل عبر الأسطح والفضاءات المتاحة، مع بقاء الأبواب موصدة بأمر الجيش الصهيوني الجاهز للقتل.

اصطلاح "الهولوكوست" ادّخره مفكروهم، انتظاراً لتوقيت محدد، بعد عدوان حزيران/يونيو 1967، وقبل إفاقة الضمير العالمي على احتلال القدس والضفة الغربية وسيناء والجولان، ألحُّوا على الاصطلاح، لإنعاش الذاكرة الغربية بالمحرقة؛ فشغلوا أنظار العالم عن ارتباك الجغرافيا العربية وتغيير الخرائط باستدعاء تاريخ الهولوكوست، واستطاعوا تسويغ عدوانهم، وكرسوا مفهوم استمرارهم كضحايا، وصرفوا الأذهان عن حقيقة سريان سموم نازية في دماء ضحايا الأمس، وقد صاروا أكثر إجرامًا من الجلاد النازي. نورمان فنكلشتاين شرح جانباً من الظرف التاريخي، لهذه الصناعة، في كتابه "صناعة الهولوكوست.. تأملات في استغلال المعاناة اليهودية".

حين تُختَزَل الذاكرةُ الجماعية في اصطلاحات مسيّجة بسياج أيديولوجي، يتحوّل اللفظ إلى أداة قسرٍ تعاد بها كتابة العالم، لا ليفسَّر، بل ليُعاد ترتيب الضحايا والجلادين وفق هوى القوّة

وقد كتبتُ أن الأزمات وما أكثرها، والاعتداءات المتكررة على الفلسطينيين، توحّد الإسرائيليين، وتمحو المسافة بين يمين ويسار، وأن صهيونية اليسار لا تختلف عن صهيونية اليمين إلا في الدرجة، لا في النوع. لكني لم أكتشف اصطلاح "الصهيونية الناعمة" الذي أظنه سيسجل باسم الكاتبة الفلسطينية نسب أديب حسين. لها أن تحتفظ بحقوق الملكية الفكرية للاصطلاح، بعد أن ذكرته في فيلم "فلسطيني على الطريق" الذي يتقصى مخرجه إسماعيل الهباش أثر المسيح، من الناصرة إلى القدس.

في مصر، وفي غيرها من الدول العربية، أصيب البعض بعمى البصيرة. تبنَّوا دعوات، تراوحت بين السذاجة والتبجّح، تزعم إصابتنا بمرض الانتقام، وتدعونا إلى مدّ الأيدي إلى اليسار الإسرائيلي؛ لبناء تكتل يواجه اليمين الصهيوني المتطرف. هكذا قالوا ويقولون. مات معظمهم ولم يذكرهم أحد، ولا يزال البعض يواصل الرهان الخاسر، ولا يعي الخسارات، ويعمى عن رؤية مظاهر الهوس الصهيوني بإبادة ما هو عربي. وفي كيان يصطنع الأزمات والأعداء ضمانًا لتماسكه، لا فرق بين اليمين واليسار. العقيدة الصهيونية تجمع الفريقين منذ تأسيس الكيان، بشهادة الكاتبة الإسرائيلية ليڤيا روكاش، في دراستها لمذكرات موشي في كتابها "إرهاب إسرائيل المقدس" الذي ترجمته ليلى حافظ، ونشرته مكتبة الشروق الدولية بالقاهرة.

مع بدء نشر مذكرات موشي شاريت عام 1975، حاولت إسرائيل منعها. وتذكر ليڤيا روكاش أن عائلة شاريت تعرضت لضغوط هائلة؛ لمنع نشر يومياته بالعبرية. ثم جرت محاولات شملت التهديد برفع دعاوى قضائية، "وطرق أخرى"، لمنع النشر خارج إسرائيل. وفي 4 نيسان/أبريل 1980 كتبت صحيفة "معاريف"، في صفحتها الأولى: "كارهو إسرائيل في الولايات المتحدة ترجموا بدون إذن يوميات موشي شاريت". وفي الشهر نفسه هدّد مكتب محاماة شهير في نيويورك، متحدثاً باسم عائلة شاريت والناشر الإسرائيلي لليوميات، "برفع دعوى سريعة في محكمة إقليمية فيدرالية"، لمنع نشر اليوميات كاملة أو مجتزأة. التهديد لا يتعلق بحفظ حقوق الملكية الفكرية، وإنما باتهامات "هستيرية بمحاولة فضح إسرائيل عبر شاريت".

كان شاريت أبرز تمثيلات «الصهيونية الناعمة»، لخبرته في إدارة العلاقات الدولية للحركة الصهيونية، بصفته رئيسًا للقسم السياسي في الوكالة اليهودية (1933 ـ 1948). وقد مثّل حزب العمل في حركة الاشتراكية الدولية، وكان أول وزير خارجية لإسرائيل، وثاني رئيس للوزراء بين عامي 1953 و1955، بين فترتَي رئاسة ديفيد بن جوريون لوزراء الكيان الصهيوني. وانطلاقًا من صهيونته الناعمة فضّل الحل السياسي على الحل العسكري الذي تبناه بن جوريون. وأدى الصراع بينهما إلى "طرد شاريت" من منصب وزير الخارجية عام 1956.

لكن ليڤيا روكاش تؤكد "إيمانه القاطع بالصهيونية"؛ فهو يعترف مبكراً منذ ثلاثينيات القرن العشرين بمبدأ الانتقام "نقوم بتبرير نظام العمل الانتقامي... لقد أزلنا القيود الفكرية والأخلاقية التي تقوّض تلك الغريزة وجعلنا من الممكن.. دعم الانتقام كقيمة أخلاقية.. كمبدأ مقدس". قال شاريت، في 27 شباط/فبراير 1954، إن الحرب مع مصر ظلت "الطموح الأكبر" لإسرائيل. وأيّد قول موشي دايان، في 26 أيار/مايو 1955، إن العمليات الانتقامية "مادة حيوية بالنسبة لنا. فهي تساعدنا على الحفاظ على توتّر عالٍ بين شعبنا والجيش... فمن أجل أن يذهب شبابنا إلى النقب، يجب أن نصيح أنها في خطر".

هذا عدو يهمل تصويرَه إسماعيل الهباش في فيلمه "فلسطيني على الطريق". يتجاهله لسببين؛ لتفاهته على الرغم من إجرامه، ولأنه موجود بطغيان يجعله أشبه بوباء يُبيد ولا يُرى. وقد عُرض الفيلم في البانوراما الدولية بمهرجان القاهرة السينمائي الدولي، في دورته السادس والأربعين (12 ـ 21 تشرين الثاني/نوفمبر 2025). وفي الفيلم تظهر شخصيات فلسطينية، منها نسب أديب حسين التي تقرأ مفردات منزلية في بيت امرأة إسرائيلية في القدس.

التفاصيل تدل على الانتماء اليساري للمرأة العجوز. تسألها الكاتبة الفلسطينية: ماذا تفعل حين يرجع أصحاب البيت الأصليون ويطالبون به؟ تراوغ العجوز ولا تجيب. الماكرة من أصل تشيكي، وكان لأهلها بيت في مدينة براغ، وبعد الاجتياح النازي جاءوا إلى فلسطين. تحكي ذلك بهدوء المتسلح بالحجة، ثم ترد على السؤال بسؤال: هل يمكن، بعد هذه العقود، أن تعود أسرتها إلى براغ وتطالب باسترداد البيت من ساكنيه؟ لا تترك للمخرج والكاتبة فرصة للإجابة، وتضيف أن «بيتها» رائع، بموقعه وتصميمه، وأنها لا تتنازل عنه. لا تشعر بتأنيب الضمير، لا تؤلمها مأساة الضحايا الفلسطينيين. وتؤكد نسب أديب حسين أن اليسار في إسرائيل صهاينة، لكنهم تبنَّوا "الصهيونية الناعمة".

الرهان على يسار صهيوني يشبه تعليق البوصلة على مغناطيس الاحتلال؛ لا تشير إلا إلى الاتجاه الذي صُمّمت له، مهما ادّعت الليونة أو تجمّلت بخطاب السلام

بعيداً عن الفيلم، ذكرت الكاتبة الفلسطينية في رسالة إليَّ أن التصوير شهد مجادلة مع "ساكنة البيت". وأن البيت هو بيت عجاج نويهض، وقد وُلدت فيه المؤرخة والباحثة الدكتورة بيان نويهض الحوت، وأن الزيارة ـ عدا مسألة تصوير الفيلم ـ محاولة لنقل مشهد البيت إليها قبل وفاتها. وأضافت أن الكتاب الذي تحمله، ويظهر في الفيلم، هو كتابها "رسائل فوق المسافات والجدران: القدس.. بيروت على حافة لقاء"، ونشره متحف د. أديب القاسم حسين ودار طباق للنشر والتوزيع عام 2022. "والكتاب جمع مراسلات بين والدي والمؤرخ عجاج نويهض، ثمّ بيني وبين د. بيان، وفيه أذكر عثوري الأول على البيت، وانفعالات بيان من الإطلالة عليه عبر كاميرا الهاتف، وقصة العائلة مع البيت والتهجير".

لعل الفيلم ينبه الواهمين من المثقفين العرب إلى فشل الرهان على اليسار الإسرائيلي، ففي المواقف الحاسمة تتأكد صهيونيتهم التي لا تكون ناعمة. والاختبار الإنساني الحقيقي ينتهي بمغادرتهم فلسطين، وإنهاء علاقاتهم مع الكيان الاحتلالي. وقد نجح البعض حين غادر، واختار إنقاذ ضميره بكشف تزييف الحقيقة، ونقض رواية العدو، كما فعل إيلان بابيه وإيلا شوحيط، وآفي شلايم الذي يذهب إلى أن الروح الصهيونية لم ينج منها "يهود عرب يتبنون مواقف قومية متطرفة ويمينية، مثل صديقي الراحل شموئيل مورّيه (سامي المعلم)، وهو يهودي عراقي أصبح أستاذاً للأدب العربي، وكان من أنصار حزب الليكود، معروفاً بكراهيته للعرب. تجربته في العراق مختلفة تماماً عن تجربتنا، وقد تبنى توجهاً قوميًاً إسرائيليًاً متطرفاً ومعادياً للعرب".

آفي شلايم ذكر ذلك في حوار مع الشاعرة العراقية الدكتورة أمل الجبوري، ضمن كتابها "من بغداد إلى أكسفورد.. آفي شلايم وتفكيك الرواية الاسرائيلية".

كتاب يستحق وقفة في المقال القادم.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

منذ 12 سنةً، مشينا سوا.

كنّا منبر لناس صوتها ما كان يوصل،

وكنتم أنتم جزء من هالمعركة، من هالصوت.

اليوم، الطريق أصعب من أي وقت.

وصرنا بحاجة إلكن.

Website by WhiteBeard
Popup Image