كان يمكن للعالم أن يكون أقل قسوةً لو توافر للمدنيين ممرّ آمن واحد، فكان من الممكن تجنيب كل الضحايا المآل المأسوي الذي دفعتهم إليه حرب الإبادة.
ففي غزة، لم تسعَ الحرب لضرب الأرض وحدها؛ فكانت تضرب حاسة السمع أيضاً. خلال عامين من الانفجارات المرعبة، تحوّلت الأذن الغزية إلى ساحة معركة ثانية، تتعرض للانفجارات الثقيلة، دون أية قدرة على تدارك ذلك، مما نتج منها إصابات سمعية عدّة متنوعة.
تشير تقديرات جمعية "أطفالنا للصم" إلى أن ما يقارب الـ 35 ألف شخص أصيبوا بفقدان أو ضعف شديد في السمع نتيجة موجات الضغط الهائلة، في واحدة من أكثر الإصابات انتشاراً، وتخفّياً، واستدامة.
مجرد تخيل الرقم يعطي شعوراً بالرعب. هؤلاء ضحايا حرب حقيرة، واحتلال مجرم، وعالم غير عادل. انتزع من هويتهم حاسة السمع، وحرموا من الكثير من القوة والمتعة، حرموا أن يعيشوا بشكل طبيعي.
طنين وخوف
لم تنزح أماني أبو الجبين (34 عاماً) من شمال غزة رغم كل شيء. بقيت هناك، لكن انفجاراً مروّعاً في المنزل المجاور غيّر حياتها أكثر مما فعل الركام.
تقول لرصيف22: "أُصبتُ بجروح، وكادت قدمي تُبتر، لكن الجرح الذي لم يلتئم كان جرح السمع. اكتشفت أنني فقدتُ 50% من قدرتي على السمع. منذ ذلك اليوم، لم أعد أسمع العالم كما كان".
كانت تعمل أماني منشّطة للأطفال، وهي مهنة تحتاج الإصغاء والتركيز واليقظة، وها هي الآن تواجه ما لا تستطيع موازنته: "إن لم أضع السماعة لا أسمع الكثير، وإن وضعتها لا أتحمّل طنينها ولا صراخ الأطفال. أشعر بأنني في مأزق دائم".
"أُصبتُ بجروح، وكادت قدمي تُبتر، لكن الجرح الذي لم يلتئم كان جرح السمع. اكتشفت أنني فقدتُ 50% من قدرتي على السمع. منذ ذلك اليوم، لم أعد أسمع العالم كما كان"
تصف أماني أثر الصدمة بوضوح قاسٍ: "هناك طنين دائم في أذني، لا يختفي حتى مع المهدئات. عرفتُ لاحقاً أنني لن أعود كما كنت. يومها شعرت بإحباط لم أعرفه من قبل. كأنني فقدتُ جزءاً من نفسي".
ويبدو أن التحوّل الأكبر كان نفسياً أكثر منه جسدياً: "أصبحتُ قليلة الثقة بنفسي. أتجنّب الحديث الطويل مع أصدقائي وأهلي. أخاف ألا أسمع جيداً فأُحرج أو أُفهم خطأ. أشعر بأنني معزولة عن الكوكب".
وتروي حادثة ظلّت ندبة داخلها: "في عملي، طلب طفل أن يذهب إلى الحمام ولم أسمعه. قلت له اجلس، بعد قليل وجدته يبكي وقد ابتلّت ثيابه. حين فهمتُ ما كان يريد، شعرتُ بالقهر".
وتضيف: "أحسستُ أني عاجزة أمام شيء بسيط".
ورغم محاولاتها للتكيّف، إلا أنّ نومها لم يعد مستقراً: "أستيقظ في الليل على تذكّر صوت الانفجار. أشعر بأن حياتي انقسمت إلى ما قبل وما بعد. أشعر أنني صرتُ مختلفة، كأنني امرأة تُثير الشفقة".
تحلم أماني بالخروج من غزة للعلاج، وفق ما تقول: "غزة محاصرة، والخدمات الطبية محدودة. أحتاج علاجاً متطوراً، لا أستطيع تسليم حاسة سمعي لمكان لا يملك أدواتها".
وتختم بشيء يشبه الانكسار: "كنتُ أطمح لمسار إداري في مؤسستي. الآن أشعر بأن الطريق قُطعت. الحرب أخذت مني القدرة على التواصل. أخذت شيئاً لا يُعوّض".
لا تتحدث أماني عن ضعف السمع؛وإنما عن فقدان جزء من الهوية. تلك الحرب لم تبتر قدمها، لكنها بترت الإحساس بالانتماء إلى العالم مسموعاً. شخصيتها تتأرجح بين الإنكار والقبول القسري، بين الشعور بالعجز والإصرار على الظهور طبيعية. هذا النوع من الألم غير المرئي يخلق عزلة مضاعفة: عزلة الجسد وعزلة الإدراك. في صوتها، تتجاور الحسرة مع مقاومة خافتة، كأنها تحاول الاحتفاظ بما تبقّى من العالم.
أشعر بأن قصتي انتهت
أما خالد الصباغ (32 عاماً) فكان يعمل تاجر أدوات منزلية في سوق الشعبية حين وقع الانفجار. سقط مغشياً عليه، وحين أفاق وجد أن الحياة صارت باهتة على مستوى لا يُرى.
يقول لرصيف22: "حين صحوت، لم أكن أسمع ما حولي. وعندما أجريتُ تخطيطاً للسمع، تبين أنني فقدت 70% منه. شعرتُ وقتها أن قصتي انتهت، كأن حقاً طبيعياً سُلب مني".
ويضيف: "أصبحت أميل للاكتئاب والعزلة. أخجل من وضع السماعة أمام الناس. أشعر بأنني منبوذ".
ويتابع خالد بالقول: "الذي لا يسمع جيداً كأنه يفقد نصف الكلام... وهذا يكسرك من الداخل".
العيش بسمع ضعيف يشبه العيش في منطقة رمادية، يبقي الإنسان معلقاً دون مرسى، يصارع ذاته أكثر مما يصارع الآخرين، ويحسب للكلمة ألف حساب، كل ما يريده نقطة تواصل جيدة مع الآخرين
وقد تأثر عمله بشدة، وفق ما يقول: "لا أسمع الزبائن جيداً، لا أحب وضع السماعة لأنها تسبب ضجيجاً كالمايك في أذني، فأفضّل نزعها. لذلك أفقد صفقات كثيرة".
ثم يضيف ما يشبه الاعتراف الموجع: "الطنين مثل ذبابة داخل الأذن لا تغادر. أحياناً أفقد توازني تماماً. أشعر أني عاجز، أعيش داخل مشكلة لا تنتهي".
وعن تأثير ذلك على حياته الاجتماعية، يقول: "كنت أجلس في الكافيهات، ألعب الشدّة مع أصحابي، الآن أتجنب الخروج. أخاف أن أحرج أو يسخر أحدهم بقصد أو دون قصد. أجلس على الإنترنت ساعات بدل أن أرى الناس".
وفي الختام، يتذكر خالد شيئاً أحبه وفقده: "كنت أعشق الموسيقى، الآن لا أستمتع بها، كأن الألحان فقدت ألوانها".
العيش بسمع ضعيف يشبه العيش في منطقة رمادية، يبقي الإنسان معلقاً دون مرسى، يصارع ذاته أكثر مما يصارع الآخرين، ويحسب للكلمة ألف حساب، كل ما يريده نقطة تواصل جيدة مع الآخرين، لكن ذلك لا يتحقق بحالة من فقدوا السمع بفعل انفجارات الحرب.
أسمع كما لو أنني تحت الماء
بينما كان أحمد العالول (12 عاماً) يلعب مع الأطفال، دوّى انفجار ضخم في الشارع: "شعرتُ بموجة دخلت أذني. لم أخبر أمي في اليوم الأول ولا الثاني. في اليوم الثالث، لاحظت أنني لا أسمع جيداً".
بعد الفحص، اكتشف فقداناً بنسبة 60%: "أشعر وكأنني أسبح داخل البحر… لا أسمع كل ما يقال لي".
كان أحمد يحلم بأن يصبح عازف موسيقى: "الآن أشعر أنني في محنة تمنعني من حلمي. أبذل مجهوداً كبيراً لأسمع أصدقائي. أحياناً أسمع كلاماً غير الذي قيل، فأحرج".
ويضيف لرصيف22: "الاحتكاك مع الأطفال صعب لأنهم يسخرون. حتى أصوات السيارات لا أسمعها جيداً، مرة كادت سيارة تدهسني".
ويتابع: "الاحتلال سرق مني حياتي، حرمني من أن أعيش مثل باقي الأطفال. الحرمان من السمع يشبه الجلوس في قبر".
ويصف كوابيسه بالقول: "أصحو في الليل على الانفجار الذي لا يزال يعيش داخلي. حياتي تغيّرت من شكلها الملائكي إلى الوساوس والمخاوف".
ويقول عن أمه: "أشعر بالقهر حين أرى نظرتها. حزنها لأنها لا تستطيع علاجي. العالم أصبح بلا قيمة".
يتحدث أحمد بصوت طفل ورجل في وقت واحد. الانفجار لم يضر أذنه فقط؛ بل صدّع أحلامه وأخذه من طفولته. شعوره الدائم بأنه يسمع العالم مشوشاً يشبه شعوره بأن الحياة نفسها صارت مشوشة. خطابه مليء بالصور الحادّة، كأن الواقع لا يمنحه مساحة للكلام البريء. صدمته ليست لحظية؛ إنها إعادة تشكيل قاسية لوعيه.
يعلق: "شعور غريب أن تعيش خلف باب تحمله معك في كل مكان".
ما معنى العدالة في عالم يترك ضحايا الحروب يواجهون مصيرهم، دون أية رعاية أو إنقاذ، بخاصة وأن الحياة بحاجة لجهد شاق بالنسبة إليهم، لاستعادة القدرة على الإصغاء إلى أحلامهم، بعدما تحوّلت أصوات العالم إلى طنين دائم لا ينتهي؟
لأماني وخالد وأحمد، قصص تظهر بأن فقدان السمع ليس مجرد إصابة جسدية؛ إنه زلزال داخلي. فهؤلاء لا يعانون من ضعف في حاسة واحدة فقط، بل من شرخ ممتد في علاقتهم بالحياة وبالآخرين وبأنفسهم. الحروب عادةً تترك ركاماً، لكن هذه الحرب تركت ما هو أعمق: صمتاً مفروضاً على بشر يريدون أن يسمعوا العالم ولا يستطيعون.
السؤال الذي يقف عالقاً دون إجابة: ما معنى العدالة في عالم يترك ضحايا الحروب يواجهون مصيرهم، دون أية رعاية أو إنقاذ، بخاصة وأن الحياة بحاجة لجهد شاق بالنسبة إليهم، لاستعادة القدرة على الإصغاء إلى أحلامهم، بعدما تحوّلت أصوات العالم إلى طنين دائم لا ينتهي؟ وهل يُعقل أن يعيش أطفال مثل أحمد في عالم بلا أمان، ثم يُطلب منهم أن يواصلوا حياتهم وكأن شيئاً لم يحدث؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



