تُنشَر هذه المادة ضمن ملف "عام على ماذا؟... وإلى أين؟"، الذي ينشره رصيف22 بعد عام على سقوط نظام الأسد، وبكل ما عناه هذا العام للسوريين والسوريات من أمل وخذلان ومحاولات للنجاة.
خلال أقل من عام، استقبلت دمشق زيارات رسمية أكثر مما حصل عليه الأسد طوال 53 عاماً، كما حصلت على تخفيف سريع وغير مسبوق للعقوبات المفروضة منذ 1979، حسب تشارلز ليستر في إسرائيل أوف تايمز.
"ما يحدث في سوريا لا يبقى أبدا هناك"، قال ليستر. على ذلك، فإن التغيير في سوريا يشكل فرصة تاريخية، يُنظر إليها كمنعطف عالمي، حوّلت المعادلة من "ما يحدث في سوريا يهدد الخارج" إلى "ما يحدث في سوريا قد يخلق آثاراً إيجابية عالمية"، ما وحّد القوى الكبرى من واشنطن إلى موسكو وبكين. الاستثناء، إسرائيل وإيران، وهما الدولتان الوحيدتان اللتان اتخذتا موقفاً معارضاً لانتقال سوريا، في مفارقة لافتة.
مع ذلك، سوريا أمام مرحلة حساسة، ومستقبلها مرهون بتوازن معقد بين الداخل والخارج. ما يجعل مسار البلاد مفتوحاً على احتمالات متعددة، حسب يورو نيوز. تركيا مثلاً، تعنى بمواجهة تحديات مرتبطة بالفيدرالية والتقسيم، وتسعى لتثبيت نفوذها ومنع أي ترتيبات تهدد وحدتها أو مصالحها. فيما تعمل إسرائيل على الدفع نحو تجزئة سوريا إلى كانتونات إثنية وعرقية، بما يخدم أهدافها الأمنية والسياسية. عليه، يُعد الصراع التركي-الإسرائيلي في الساحة السورية من أبرز العوامل الحاسمة التي ستؤثر في رسم ملامح الدولة السورية الناشئة، حسب مركز المستقبل. إذ يشكّل هذا التناطح أحد المحددات الرئيسية لمسارها السياسي والأمني في المرحلة المقبلة.
المخدرات واللاجئين والإرهاب
يؤكد ذلك، مدير البحوث في مركز عمران للدراسات، معن طلاع. فالجغرافيا السورية خلال أربعة عشر عاماً شهدت حجماً هائلاً من التدخلات الخارجية، وتعدد المجموعات المسلحة، وتراكم الملفات الأمنية، المحلية أو العابرة للحدود. كما أن البيئة الداخلية قبل سقوط نظام الأسد كانت قائمة على مناطق نفوذ وأنماط حوكمة متباينة، بجانب انقسامات مجتمعية عميقة، واقتصاد مأزوم قائم على الحرب، فضلاً عن انتشار الجرائم المنظمة. لذا "يحتاج المشهد السوري لتضافر العاملين الداخلي والخارجي معاً"، قال طلاع لرصيف22.
أمام هذا الواقع، يفترض بحكومة دمشق التوجه نحو الداخل والخارج في آن واحد، لتحقيق إنجازات ملموسة، حسب طلاع. منوهاً لجهود دمشق بتحقيق إنجازات عدة على الصعيد الخارجي، لاسيما عبر استثمار حالة توجه الإقليم نحو دعم استقرار سوريا، مما أفرز مجموعة من التوازنات. إلا أن إسرائيل أحدثت خرقا كبيراً فيها عبر وجودها المباشر في الملف السوري. وتالياً فإن شكل التفاهمات الأمنية في الجنوب السوري سيكون عاملاً حاسماً في استقرار أو تأجيج المشهد السوري ودفعه نحو سيناريوهات الفوضى.
يتحدد مصير الاستقرار السوري إلى حدّ كبير عبر التناطح التركي–الإسرائيلي، حيث تسعى أنقرة لمنع التفكك والفيدرالية، فيما تدفع إسرائيل نحو التجزئة الكانتونية. هذا الصراع يشكّل أحد أبرز محددات شكل الدولة السورية ومسارها الأمني
تشاركه هذه الجزئية، الكاتبة السياسية عالية منصور. فالعقبة الأبرز أمام استقرار المشهد السوري، تتمثل في الطموحات السياسية لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. لكنها تشير خلال حديثها لرصيف22 إلى مساعي دول المنطقة، بالتنسيق مع الولايات المتحدة، للحد من مخاطر هذه الطموحات، وضمان عدم تقويض مشروع الاستقرار الإقليمي. بعد أن أدركت دول المنطقة أن سقوط نظام الأسد وخروج إيران من سوريا شكّل لحظة فارقة، حيث شكّل النظام السابق عبئاً إقليمياً، عبر ملفات المخدرات واللاجئين والإرهاب.
سيناريوهات أربع
تردف منصور، مع تطمينات حكومة سورية الجديدة بأن بلادها لن تكون مصدر تهديد، ونجاحها في إقناع العالم بصدق نواياها، شهدت دمشق انفتاحاً عربياً وإقليمياً ودولياً واسعاً، "ليس دعماً لها فقط، بل لاستقرار المنطقة بأكملها". مؤكدة أن التعاون الإقليمي والدولي من أجل سوريا يبقى الأساس، رغم احتمالية تنافس بعض القوى.
في هذا السياق، فإن رفع العقوبات الأمريكية (قانون قيصر) عن سوريا، لا يُنظر إليه كإجراء اقتصادي فقط، بل كخطوة استراتيجية يمكن أن تغيّر موازين الاستقرار في الشرق الأوسط، وتفتح الباب أمام دمشق لتكون قوة إيجابية بدلاً من كونها بؤرة أزمات، حسب معهد الشرق الأوسط. اللحظة الحالية تُعتبر فرصة نادرة تحدث مرة واحدة في جيل لإعادة بناء دولة مستقرة ومزدهرة. وأي تأخير في رفع العقوبات سيؤدي إلى استمرار الأزمة الاقتصادية في سوريا، وزيادة التوترات الداخلية، وإعطاء إيران وحزب الله فرصة لتعزيز نفوذهما.
شهدت سوريا خلال أقل من عام انفتاحاً دبلوماسياً غير مسبوق وتخفيفاً سريعاً للعقوبات، ما حوّلها من مصدر تهديد إقليمي إلى فرصة استقرار دولي محتملة، ووحّد القوى الكبرى، باستثناء إسرائيل وإيران اللتين تعارضان انتقالها السياسي.
وخلال عامها الأول، نجحت حكومة الرئيس الانتقالي أحمد الشرع في إعادة تأهيل علاقات سوريا الخارجية. حصلت على اعتراف إقليمي ودولي واسع، بقيادة الولايات المتحدة، حسب معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي "INSS". مع ذلك، يواجه الشرع تحديات داخلية عميقة ناتجة عن عنف ضد الأقليات بدافع الانتقام الشعبي. مع تعثر مفاوضات دمج الأقليات في الدولة. واستمرار نشاط تنظيم الدولة الإسلامية "داعش". هذه التحديات تعكس إرث الحرب السورية الطويلة. وهناك شكوك حول قدرة الشرع على بناء دولة مستقرة وشاملة. وفي ظل غياب نظام مركزي مدعوم إقليمياً ودولياً سيعني الفوضى والتفكك وربما حرباً أهلية شاملة.
إلى ذلك يشير الباحث في مركز الحوار السوري، نورس العبدالله، بالقول، فيما يخص تقييم الأداء، "النسبية" هي العنوان الأوسع للمشهد السوري. فخارجياً، يمكن الحديث عن نجاح نسبي يتمثل في فتح علاقات دبلوماسية، تأسيس تعاون، وتخفيف المخاطر أو تجنّب الانزلاق إلى مواجهات غير محسوبة. في المقابل، لم تُظهر إدارة التوازنات الداخلية بعد مساراً تراكمياً إيجابياً، لاسيما مع بروز فجوات خطيرة مثل "فخ السويداء"، والإفراط في التفاؤل بالملف الاجتماعي-الاقتصادي، وملفي العدالة والسلم الأهلي.
لذا، تبقى "النظرة التفاؤلية الحذرة" هي الأنسب، دعم فرص الاستقرار والانفتاح، مع عدم التغافل عن التحديات البنيوية والداخلية والخارجية. حيث تبقى سوريا ساحة صراع على النفوذ، تحمل سمات البيئة الهشة القابلة للانخفاض أو الارتفاع. فالتوازنات الإقليمية والدولية الحالية تميل إلى تجميد بؤر الصراع العسكري بسرعة، ما يعزز فرص الاستقرار. بجانب تطور أداء السلطة وحاجة السوريين الملحّة للاستقرار، مع غياب بدائل جدية.
لكن عوامل سلبية قد تعكس المسار، أضاف العبدالله لرصيف22، ومنها فشل بناء مؤسسات الدولة أو استمرار الجمود الضار. واحتمالات تقسيم غير معلن، عبر مناطق نفوذ منفصلة. مع استمرار خطاب الكراهية والطائفية، وفشل جهود التعافي الاقتصادي. بجانب فوضى السلاح، والتدخلات الخارجية. ونشاط شبكات الغلو والتطرف.
ومنذ سقوط النظام السابق، يسير المشهد السوري في أربع اتجاهات رئيسية، حسب طلاع. اثنان منها يصبان نهايةً في تحقيق الاستقرار، لكنهما يتخذان شكلان مختلفان، أحدهما يقوم على صيغة استبدادية وتحكم مطلق في الدولة والمجتمع، وثانيهما استقرار يقوم على مؤشرات وآليات ديمقراطية قائمة على التشاركية والحوار. أما الاتجاهان الآخران فيتمثلان في احتمالات اندلاع موجات احتجاج جديدة، أو بروز أنماط من العنف المحلي قد تتطور إلى اقتتالات داخلية، وصولاً إلى سيناريو التقسيم كخاتمة محتملة للفوضى.
سوريا، ركيزة التوازنات الإقليمية
وفقاً لـ "سوريا الغد"، تعيش سوريا فراغاً سياسياً وأمنياً، تتحرك فيه القوى الكبرى بمنطق الاحتواء، مع تراجع للدور العربي. حيث تفتقد واشنطن لاستراتيجية متماسكة تجاه دمشق، وتنظر الرياض إلى الملف السوري كجزء من توازنها مع طهران. فيما تظل البلاد في جدل هوية مفتوح بلا صيغة نهائية أو رؤية واضحة. لم تحدد بعد صيغة دولة واضحة، الاندماج الإقليمي، أو التحول إلى دولة عازلة تحت إدارة أمنية دولية. عليه، أصبحت الإطار الحاكم للسياسات القوى الكبرى/الفاعلة (واشنطن، موسكو، أنقرة، تل أبيب) يركز على منع الانفجار لا على حلول نهائية، بما يمكن تسميته بـ "الهندسة الوقائية للأمن".
من جانبها، تدرك القوى الخليجية خطر تجدد العنف في سوريا، وتسعى لكبح النفوذ الإيراني ومنع عودته إليها. لكن باتساع نفوذ إسرائيل وتراجع نفوذ إيران بعد حرب غزة، باتت سوريا مركزاً لإعادة تشكيل التوازنات في المشرق العربي، حسب مركز مالكوم كير-كارنيغي. كما أن المصالحة بين أنقرة والقاهرة أطلقت تعاوناً للاستقرار، لكن تركيا تقود المبادرة وتعد الأكثر انخراطاً في إعادة إعمار سوريا، مدفوعة بأهداف مرتبطة بالقضية الكردية ونزع سلاح قوات سوريا الديمقراطية "قسد". تالياً، تنشط الدبلوماسية السعودية والإماراتية لمنع التوسع الإسرائيلي وترشيد الطموحات التركية، مع الحرص على استبعاد عودة إيران ووكلائها.
رغم النجاحات الدبلوماسية للحكومة الانتقالية، يبقى الداخل السوري هشّاً بفعل العنف الطائفي، تعثّر دمج الأقليات، فوضى السلاح، والعدالة الغائبة. ويُجمع الباحثون على أن إهمال الداخل قد يقود للفوضى أو التقسيم رغم الدعم الدولي
فيما تستبعد وكالة DW، سيناريو التنافس المباشر بين الرياض وأنقرة مستبعد. حيث تضع الدولتان استقرار سوريا كأولوية، ويتجهان نحو تقاسم الأدوار، تعترف كل منهما بالدور الذي تؤديه الأخرى، والذي لا يمكن استبداله بسهولة. تركيا للعب دور متكامل في تعزيز الأمن والحكم داخل سوريا. فيما تمتلك السعودية قوة دعم التعافي الاقتصادي وإعادة دمج سوريا في المجتمع الدولي. فالموقع الجغرافي يمنح أنقرة نفوذاً لا مفر منه داخل سوريا، لكن التمويل يبقى مجالاً تتفوق فيه السعودية والدول الخليجية والعربية.
لكن التنافس في سوريا قائم ولا يمكن أن يتحول إلى تفاهم أو تعاون، بسبب تضارب المشاريع المتعددة. وأبرزها المشروع الإسرائيلي المدعوم أو المتغاضى عنه أمريكياً، في مقابل المشروع التركي والمشاريع العربية. فإسرائيل ترى نفسها صاحبة الدور الإقليمي الأبرز وترفض ترك الساحة لأنقرة بعد مساهمتها في إضعاف إيران وحزب الله والنظام السوري. هذا التنافس غير ظاهر بشكل علني نتيجة رغبة واشنطن في الاستقرار وتركيزها على مواجهة خطر داعش.
ويرجّح باريش خلال حديثه لرصيف22 أن يشهد الجنوب السوري توتراً أمنياً وعسكرياً متصاعداً، قد ينتهي بتدخل روسي للفصل بين الأطراف، خاصة مع رغبة الإدارة السورية الجديدة في تجديد التزاماتها وتسهيل دور موسكو، غير أن هذا الدور لن يتم دون موافقة إسرائيل. منوهاً إلى أن مشكلة الإدارة السورية تتمثل في إهمال الداخل والتركيز على الخارج، عبر التقارب مع واشنطن باعتبارها المخلّص، وهو ما يفاقم الفوضى والانقسامات بين المكونات المحلية كالأكراد والدروز، ويجعل الحكومة الانتقالية في حالة اضطراب وفشل في إدارة الأزمة.
بدوره يخلص طلاع إلى أن مفتاح تحقيق التوازنات يكمن في البنية المحلية، عبر بناء آليات مستدامة لحوار وطني شامل، ومقاربات جديدة تتجاوز الأطر الأمنية التقليدية، مع توزيع متوازن للصلاحيات بين المركز والأطراف بما يضمن التمكين المحلي ويؤسس لإدارة متناظرة لا تقوم على أسس قومية أو عرقية. وإذا ما أُديرت هذه الاستحقاقات بوعي ومسؤولية، يمكن أن تتحول التوازنات السورية إلى مسار دقيق وفاعل يقود في النهاية إلى الاستقرار المنشود.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



