منير الشعراني… الخط العربي فن حضاري ولم يتطور من أجل كتابة المصاحف فقط

منير الشعراني… الخط العربي فن حضاري ولم يتطور من أجل كتابة المصاحف فقط

نحن والتنوّع نحن والتنوّع

السبت 6 ديسمبر 20259 دقائق للقراءة

في مرسمه في حيّ المهاجرين، حيث انتهى معرضه "إيقاعات خطية" قبل أيام، لا يزال وجه الفنان السوري منير الشعراني عامراً بالضوء؛ رغم كل العتمة السورية.

عبر لوحاته، التي تزخر بنصوص للمتنبي وعلي بن أبي طالب وابن عربي، يرفض الشعراني واقع الحال في سوريا بعد وصول هيئة تحرير الشام إلى السلطة، مطلقاً صرخة "لا للقتل" و"لا للطائفية" و"لا للفزعات".

ابن السلمية، الذي لم يكن إسماعيلياً، يرى في الخط العربي فناً غير مقدس، يمكن تحريره من قوالبه الجاهزة، وإضافة أبعاد جديدة له للحفاظ على روح الحرف. في هذه المقابلة مع رصيف22، يتحدث الشعراني عن مسيرته الفنية، وجذوره في سلمية، ورؤيته لسوريا الجديدة.

هل وضع الشعراني تجارب السنين الطويلة منذ تخرجه في 1977 في معرضه الأخير "إيقاعات خطية"؟ ماذا يعني هذا لك اليوم وهو معرضك الفردي الأول بعد سقوط نظام البعث؟

معرضي هذا خلاصة تجربة بدأت بالتفكير فيها منذ زمن طويل. دفعني العقل النقدي للإجابة على سؤال: لماذا توقف الخط العربي منذ زمن طويل عن الاعتماد على الخطوط التقليدية؟

حصل تراكم من خلال تعلمي الخط على يد الأستاذ بدر الديراني، ثم دراستي الفنون في مركز أدهم إسماعيل، وكلية الفنون الجميلة، وتخصصي بالتصميم الغرافيكي. إضافة إلى البحث النظري والبصري.

واستخدمت الخط العربي في مشاريعي في كلية الفنون التي أدخلت إليها الخط كعنصر أساسي. عملت في صحف لبنانية، وأغلفة الكتب بعد هروبي من سوريا الى لبنان ومصر بسبب ملاحقة الأمن لي لانتمائي لرابطة العمل الشيوعي. وبعد ذلك عبّرت عن ذلك الطوفان السوري مع بدء الاحتجاجات في 2011 بلوحات، وملصقات تسمح بتداولها من دون العودة إلي.

لم يكن فقهاء الدين هم من طوروا الخط، بل كتّاباً. سمعنا عن موسيقيين كانوا خطاطين ونساء خطاطات. الخطاطون كانوا يملكون ثقافة واسعة. الخط نتاج حضاري، وأنا لم أنقلب على مفاهيمه، بل حاولت إعادة الأمور إلى نصابها

عملت على عبارات غير مطروقة تلتقي مع فكري وموقفي من الحياة والإنسان والحرية والخير والجمال والحب. فالخط والفكر أوسع من السياسة، وعلاقتنا بالكون والمفاهيم العليا هي ما يحدد خيارات الإنسان. يقول: "نصوصي لم تعتمد على نصوص ميتافيزيقية أو دينية بحتة، وإذا أخذت نصوصاً قرآنية فهدفها في آخر المطاف تكريم الإنسان. فبعض لوحاتي اعتمدت على لحظات سوريّة فارقة".

أنا لم أكن مباشراً في كثير من اللوحات، فبدلاً من التحدث عن التعددية وحرية الرأي مباشرة، قد أقول "آفة الرأي الهوى" أو "الهوى شريك العمى". بهذه الطريقة أوصل مفهوماً معيناً. فالفن يستطيع التعامل مع كل ما يهم الإنسان من نواح جمالية ومعنوية وسياسية واجتماعية لكن بطريقة غير مباشرة. ولوحاتي ليست "تظاهرة"، بل عملاً يجب أن يتوقف عنده الإنسان للتفاعل معه و مع تفاصيله، محرضاً على التفكير، والتغيير.

ماذا يعني لك أنك من بلدة سلمية؟ ما تأثير التنوع الطائفي والثقافي في السلمية على رؤيتك الفنية؟

ولدت في سلمية، وكانت الكهرباء قد وصلت إلى بلدتي قبل ولادتي بسنوات. الجو العام كان مهتماً بالشعر والثقافة والتراث الأدبي والموسيقى. هناك نساء في السلمية حفظن ديوان المتنبي، أو أبي العلاء المعري، وكانت إحداهن تحفظ ألف ليلة وليلة عن ظهر قلب.

كان هناك جو سياسي معارض في السلمية منذ عهد العثمانيين، الذين أوجدوا مشروع تعمير شرق العاصي لفصل الإسماعيليين عن البدو. وأضاف الشعراني: تحولت سلمية لاحقاً إلى مركز تجاري مع البدو بعد معاهدات معهم.

وأنشئت في السلمية ثانوية زراعية مبكراً، وكان لها دور ثقافي. وكشف الشعراني أن الرئيس الراحل أنور السادات، ومحمد الماغوط درسا فيها. عبد الحميد الملوحي، ابن السلمية، هو الذي أدخل الكهرباء لاقتناعه بنظرية لينين أن الكهرباء تنشر الثقافة لأنه كان شيوعياً.

العثمانيون هم من ألصقوا بالخط قدسيته وقننوا استعمالاته، فاستبعدوا الخط الكوفي واستخدموا الثلث والنسخ لكتابة "المقدس" فقط.

كان مقر مؤسسة الكهرباء كنيسة للأرمن،لأن شباب السلمية كانوا يهرّبون الأرمن إليها. كانت هناك جالية أرمنية كبيرة بدأت بالرحيل بعد الجفاف في 1952.

رغم أن كثيراً من الإسماعيليين تركوا المذهب ليعتنقوا المذهب السني، إلا أن العلاقات بين أهلها بقيت وطيدة. في البيت الواحد تجد سنياً وآخر إسماعيلياً وبعثياً أو شيوعياً. ولم يكن للإخوان المسلمين وجود بارز.

التنوع شمل السنة والعلويين من حماة وحمص، وقرى شركسية. هذا التنوع أنتج تنوعاً فكرياً وسياسياً: بعثيين وناصريين ووحديين اشتراكيين وشيوعيين وقوميين سوريين وحتى رابطة العمل الشيوعي. وأضاف الشعراني "المضافة في السلمية اضطلعت بدور كبير في نشر الشعر والثقافة والسياسة.

أنت تُعتبر من القلة التي "علمنت" الخط العربي بإخراجه من قدسية النص الديني إلى عوالم أكثر رحابة. لماذا اخترت تحويل الخط العربي من فن ديني تقليدي إلى وسيلة للتعبير السياسي؟

لم أنقل الخط من مكان إلى مكان، بل عملت على استعادة مكانته الحقيقية واستبعاد التشويه التاريخي عنه. الخط لم ينشأ في ظل الدين بل في ظل الدولة والحضارة.

تطور الخط العربي كفن في العصر الأموي عند الحاجة لتعريب الدواوين، وتطور مع البعد الحضاري واختلاف وظائفه. دخل الخط إلى البيوت في الزخارف والأثاث واللباس، وفي الشؤون الدنيوية والدينية. لم يتطور من أجل كتابة المصاحف فقط، بل كنتاج حضاري لكتابة الكتب العلمية أيضاً.

لم يكن فقهاء الدين هم من طوروا الخط، بل كتّاباً. سمعنا عن موسيقيين كانوا خطاطين ونساء خطاطات. الخطاطون كانوا يملكون ثقافة واسعة. الخط نتاج حضاري، وأنا لم أنقلب على مفاهيمه، بل حاولت إعادة الأمور إلى نصابها. العثمانيون هم من ألصقوا بالخط قدسيته وقننوا استعمالاته، فاستبعدوا الخط الكوفي واستخدموا الثلث والنسخ لكتابة "المقدس" فقط.

وقواعد الخط غير نهائية وغير مقدسة، وضعها أناس كثيرون. تطورت الخطوط بسرعة من العصر الأموي إلى العباسي، وكان كل خطاط يرسم الخط بروحه. العثمانيون هم من جمدوا الخط. أعدت الخط إلى موقعه الطبيعي كفن غير مقدس. كان هناك خطاطون من أديان مختلفة، مثل خطاط يهودي في عهد ابن مقلة. الخط لم يكن مقصوراً على النصوص الدينية.

لقد حاولت تصحيح المسار. للأسف، المستشرقون أعطوا الخط صبغة إسلامية وأخرجوه من التطور الفني العالمي. بينما الفن الإسلامي جزء من التطور الفني العالمي.

في هذه اللحظة الحاسمة في تاريخ البلاد، ما حال سوريا الجديدة بعد مرور عام تقريباً على سقوط نظام البعث وهروب الأسد؟

أنا سعيد بسقوط نظام الأسد، لكن ذلك لم يكن كافياً. كان علينا أن نبدأ العمل من اليوم الأول. الحل الوحيد لسوريا هو الديمقراطية والتعددية، وأن تكون المصلحة الوطنية هي العليا.

لليوم لم نقدم حتى شكوى للأمم المتحدة بعد الاعتداءات الإسرائيلية على سوريا. المواطن يجب أن يشعر أن السلطة تحافظ على مصلحته. مثلاً أتساءل عن ملكية "الصندوق السيادي" ولمن عائداته؟

ما حدث هو أن الفساد استشرى اليوم أكثر ثقافياً وإبداعياً. فبدلاً من منظومة ديمقراطية قائمة على تعدد الآراء، جاء بديل "أحادي جهادي تكفيري". الرأي الواحد هو الذي يدبر أمور السوريين اليوم. النظام الجديد قدم بعض التنفيس والسماح بالكلام، كما فعل الأسدان

لماذا لم نرَ أي محاكمة للذين ظهروا في الاعتداءات على الساحل والسويداء وهم يطلقون تصريحات طائفية أو يقصون شوارب الناس. هذه "الفزعات" كانت برعاية السلطة، وكان على الجيش ردها.

ماذا عن سنوات حكم حافظ الأسد؟

في البداية، كانت هناك نوايا طيبة ممن حكموا سوريا قبل حافظ الأسد، لكنه انقلب حتى على البعثيين. تحالف مع التجار وقدم وعوداً براقة. في 1976 بدأت اضطرابات واضرابات، احتجاجاً على حكومته. المعارضة أصبحت واضحة بعد دخول الجيش السوري إلى لبنان، وبدأ القمع. دخلت المعارضة المسلحة الإسلامية بقيادة مروان حديد، وبدأ النظام بالترهيب في حلب وحماة، وانتهى بمجزرة حماة.

بدأ الأسد الأب يعمل بأسلوب أكثر دهاء، بعكس الابن الذي تعامل بحماقة. جاء "الانفتاح الاقتصادي" وأصبح 60% من الاقتصاد بيد أسرة الأسد، فاستشرى الفساد. فقد بدأ الأسد بإفساد السلطة ثم إفساد الناس عبر تدني الرواتب، مما اضطر الموظفين للفساد. لم تكن هناك مخدرات أو مساكن عشوائية بهذا الشكل قبل ذلك. واختفت روح التآلف والمسؤولية لدى السوريين، وازدادت الرُّشى في القضاء والجيش".


ولكن سوريا التي نعرفها تتحول اليوم فماذا بقي منها، بعد الذي جرى في السويداء، والساحل السوري، هل يمكن أن يقدم الشعراني حلاً مقبولاً وسياسياً، يعكس محاولة تغيير المشهد الحالي في سوريا، والبحث عن دواء ناجع يؤسس لدولة سورية حقيقية؟

هل تخلّصنا من هذا الإرث الفاسد بعد سقوط النظام؟ ما حدث هو أن الفساد استشرى اليوم أكثر ثقافياً وإبداعياً. فبدلاً من منظومة ديمقراطية قائمة على تعدد الآراء، جاء بديل "أحادي جهادي تكفيري". الرأي الواحد هو الذي يدبر أمور السوريين اليوم. النظام الجديد قدم بعض التنفيس والسماح بالكلام، كما فعل الأسدان.

مجلس الإفتاء الأعلى، قال إن "دم السوري على السوري حرام"، ولكن أين تطبيق ذلك في الساحل والسويداء؟ حالة خطف واحدة فقط كُشفت من أصل أربعين. ولم نرَ محاكمة لأي من الذين ظهروا في تلك الانتهاكات.

لم نسمع كلمة ديمقراطية من الرئيس أحمد الشرع، ولم يغير في الإعلان الدستوري رغم الاعتراضات. لم نستعد إلا جزءاً يسيراً من الضباط المنشقين، وأصبحت الأولوية للعسكري الأوزبكي على حساب ابن البلد.

برأيي الطائفية ظهرت أكثر في العهد الجديد، النظام السابق استخدم الطائفية، لكن الغالبية من الطائفة العلوية لم تستفد، وبقيت قرى علوية بلا خدمات.

كانت هناك معارضة وسط العلويين، والكثير ممن تضرروا في الساحل بعد أحداث الساحل كانوا معتقلين سابقاً. لم نسمع عن فتح ملف عن مناضلين مثل عبد العزيز الخير ورجاء الناصر وخليل معتوق وزكي كورديللو.

السلطة الجديدة تسفر عن وجهها اليوم، فمن هم "الأمانة السياسية"؟ هل هم الشيوخ الذين لهم القرار؟ ومجلس الإفتاء الأعلى، قال إن "دم السوري على السوري حرام"، ولكن أين تطبيق ذلك في الساحل والسويداء؟ حالة خطف واحدة فقط كُشفت من أصل أربعين. ولم نرَ محاكمة لأي من الذين ظهروا في تلك الانتهاكات.

لوحاتك تقول: "لا للقتل ولا للجهل ولا للتخلف ولا للتمييز"... ماذا تتمنى اليوم؟

يختم الشعراني بتفاؤل كبير، لكنه يؤكد أن على السوريين أن يبدأوا العمل وينتزعوا حق المواطنة بالانتخابات. ويشير إلى لوحة خلفه كتب عليها "ما نيل المطالب بالتمني"، لعلها تقول كل شيء.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

سوريا ليست خبراً عابراً.

مسؤوليتنا أن نحكي عنها باستمرار.

بدعمكم، رصيف22 يبقى حاضراً.

Website by WhiteBeard
Popup Image