رغم انتشار الموحدين/الدروز في بقاع مختلفة من العالم العربي، يظل الغموض يحيط بعقائدهم لما تميل إليه من طابع السرية والكتمان. ويتسع هذا الغموض ليشمل شخصيات مقدسة في الطائفة الدرزية في فلسطين، من أبرزها النبي سبلان الذي يُحتفل بعيد زيارته رسمياً في العاشر من شهر أيلول/سبتمبر من كل عام. نلقي الضوء في هذا المقال على السرديات المختلفة التي نُسجت حول هذه الشخصية، لنرى كيف طُوّعت سيرة هذا النبي المجهول لخلق حالة من الوئام بين المخيال التاريخي والواقع الديموغرافي، وكيف أضفت هذه السيرة عمقاً وثراءً على المُتخيل الفلسطيني الدرزي والذاكرة الجمعية الدرزية على مرّ السنين.
الدروز بين الماضي والحاضر
في سنة 386هـ تولى المنصور بن نزار، المعروف بلقب الحاكم بأمر الله، عرش الخلافة الفاطمية في القاهرة. وخلال أواخر عهده، قدِم عدد من الدعاة الإسماعيليين من فارس طمعاً في النفوذ، كان أبرزهم نشتكين الدرزي وحمزة بن علي الزوزني. سرعان ما تنافس الرجلان على قيادة التيار الجديد الذي غالى في تعظيم الحاكم، خاصة بعد أن قرّب الأخير (الزوزني) وقلّده منصب الإمامة. في سنة 408هـ نشب الصراع حين طلب الزوزني من الدرزي الطاعةَ، لتنتهي المواجهة بمقتل الدرزي وأتباعه.
بذلك انفرد الزوزني بقيادة الدعوة حتى سنة 411هـ، حين اختفى الحاكم بأمر الله في ظروف غامضة، ليتعرض الموحدون بعدها للاضطهاد. بعد فترة قصيرة، اختفى الزوزني عن الأنظار، ويُقال إنه رحل إلى الشام ومات فيه. بشكل عام، تركت أفكار الزوزني أثراً بالغاً في تكوين عقائد الطائفة التي عُرفت لاحقاً بالموحدين أو بني معروف، كما نُسبت أيضاً إلى نشتكين الدرزي، فاشتهروا باسم الدروز.
حالياً، يعيش الدروز في مناطق متعددة من المشرق العربي، حيث يتركزون أساساً في جبل الدروز (جبل العرب) جنوب سوريا، الذي يُعدّ معقلهم الأكبر تاريخياً وسكانياً. كما ينتشرون في لبنان، خصوصاً في جبل لبنان ومنطقة الشوف وعاليه، حيث لعبوا دوراً بارزاً في التاريخ السياسي والاجتماعي للبلاد. ويوجد حضور مهم لهم في فلسطين المحتلة، خاصة في الجليل والكرمل والجولان المحتل. كذلك توجد أقلية درزية في الأردن، لاسيما في شمال البلاد بالقرب من الحدود السورية. إلى جانب ذلك، هاجر بعض الدروز إلى الأمريكيتين وأوروبا، لكن مركز ثقلهم لا يزال في بلاد الشام.
زبولون بن يعقوب أم سلامة السامري؟
يحيلنا السؤال المطروح حول الهوية الغامضة للنبي سبلان إلى مجموعة من الفرضيات التي ظهرت عبر السنين. الفرضية الأولى، ترى أن سبلان هو نفسه زبولون بن يعقوب، وهو أحد أبناء النبي يعقوب (إسرائيل) الاثنا عشر الذين ورد ذكرهم في كل من التناخ/العهد القديم والقرآن الكريم.
بحسب الموروث الكتابي انحدرت قبيلة كبيرة العدد من نسل زبولون، وعقب دخول بني إسرائيل إلى فلسطين، نجح سبط زبولون في استيطان الاراضي الواقعة في الطرف الجنوبي من الجليل. ظل هذا السبط على تلك الأرض حتى وقعت أحداث السبي الأشوري في القرن الثامن قبل الميلاد، وهي الأحداث التي شهدت تهجير عشرة أسباط -ومنهم سبط زبولون- خارج الأراضي الفلسطينية.
الذاكرة الدرزية ترى في النبي سبلان شخصية محورية قادت الدعوة التوحيدية، ويُبرز اسمه التحوّلَ من الصلابة إلى الليونة، ما يعكس حكمة وقدرة على التأقلم مع الأحداث
مؤخراً، وبالتزامن مع محاولة خلق حالة من حالات التصالح بين اليهود والدروز، ظهرت بعض الآراء التي حاولت أن تجمع شخصيتي زبولون بن يعقوب والنبي سبلان، وذلك من خلال التوفيق بين الخلفية التاريخية اليهودية من جهة، والحالة الديموغرافية السائدة في منطقة شمالي فلسطين من جهة أخرى. من ذلك الرأي الذي قال به بعض أعضاء الكنيست الإسرائيلي عندما رجحوا أن جماعات الدروز تنحدر من نسل سبط زبولون المفقود. الأمر الذي أوجد في شخصية النبي سبلان رمزًا مشتركًا تجتمع فيه الأصول العرقية اليهودية والدرزية معاً.
على الجانب الأخر، وبعيداً عن المُتخيل اليهودي الكتابي، تقدم الذاكرة الدرزية طرحاً مختلفاً في تعريفها لهوية النبي سبلان. بحسب ما يذكر الشيخ الدرزي سلمان يوسف غانم في كتابه "مقام ووقف النبي سبلان" فإن هناك رأيين معتبرَين في تفسير معنى اسم النبي سبلان؛ يميل الرأي الاول للاعتماد على أن الاسم مشتق من بعض المواقف التي عُرفت عن هذا النبي واشتهر بها بين الناس. بحسب هذا الرأي فإن الاسم الأصلي للنبي كان سابا، وأنه كان معروفاً بقوته وشدته في الحق في بداية حياته، ثم لان بعد ذلك وتحول رأيه من الصلابة الى الليونة فقيل فيه "سابا لان"، وهو الوصف الذي سرعان ما تحول إلى اسم "سبلان" وثبت بعدها بعدما انتشر على ألسنة الناس.
أما الرأي الثاني فيعتمد على المعنى اللغوي للاسم. يفسر غانم كلمة "سبلان" بكونها تشير إلى الشيخ الطويل النحيف ذي اللحية الطويلة. تأسيساً على ذلك، يعتقد البعض أن النبي سبلان كان واحداً من بين قادة الدعوة التوحيديّة/الدرزية التي انتشرت في النصف الأول من القرن الخامس الهجري. انطلاقاً من تلك الفرضية ربط الشيخ الدرزي أبو نعيم نسيب بدر في مقاله "مقام النبي سبلان" بين شخصية سبلان الغامضة والداعي المعروف أبي الخير سلامة بن عبد الوهاب السامري، والذي كان أحد أركان الدعوة التوحيدية في أيام الحاكم بأمر الله. ويُعدّ أحد "الحدود الخمسة"، ويُرمز له باللون الأبيض في علم الدروز. كما يُطلق عليه "الباب الأعظم" في كتب الدروز المقدسة.
بموجب هذا الاعتقاد، قيل إن سلامة قد خرج من مصر إلى مدينة الخليل لكي يبشر بدين التوحيد عقب غياب الحاكم بأمر الله. ولكن لمّا رفض أهل الخليل الدعوةَ، اضطرّ سلامة أن يترك تلك المنطقة وتوجه إلى منطقة الجليل، وعاش فيها تحت اسم سبلان، قبل أن يغادر المنطقة ويتوجه إلى السويداء في جنوب سوريا، حيث عاش الفترة الأخيرة من حياته، ودُفن بها بعد وفاته.
في الفلكلور الشعبي
بشكل عام، وعلى الرغم من الاختلاف حول هويته، اعتاد الدروز على زيارة مقام النبي سبلان في الثامن عشر من شهر أيلول/ سبتمبر من كل عام. في سنة 1969م، تم تغيير هذا الموعد للعاشر من أيلول/سبتمبر، كما رسّم هذا العيد كعيد رسمي للطائفة الدرزية في دولة إسرائيل.
يقع المقام على قمة جبل سبلان جنوب قرية حرفيش الواقعة في الجليل الأعلى، ويرتفع عن سطح البحر 900م. ويُعدّ واحداً من أهم المزارات الدينية والروحية عند الدروز في فلسطين.
في بدايات القرن التاسع عشر الميلادي، بدأ تعمير المقام، ليصبح المكان في ما بعد مقصداً رسمياً للجماعة الدرزية. وترجع الروايات الدرزية المحلية تعمير المقام لحكاية تفوح منها رائحة الأسطورة والخيال؛ إذ تذكر أن بناء القبة قد وقع بسبب رؤيا حلم بها ضابط عسكري في الجيش المصري يدعى سليمان البحيري. تكررت الرؤيا ليالي متواصلة فترك الضابط وطنه في مدينة الإسكندرية وبدأ في رحلة البحث عن الجبل الذي شاهده مراراً في منامه. بعد طول بحث عثر البحيري على مراده عندما وصل لجبل سبلان شمالي فلسطين، فبنى القبة الأولى على المغارة التي اعتاد سبلان التعبد داخلها، وتبعها بعد ذلك بثلاث قباب متجاورة. ثم سكن البحيري مع أسرته المقامَ وجاوروه وتعهدوه بالصيانة والرعاية وخدمة الزوار.
مقام النبي سبلان يرتبط في الفلكلور بالمعجزات والحماية الإلهية للمنطقة، وأصبح رمزاً للحرية والأمان، كما يُعتقَد أنه حارس للقرى المحيطة به
وفقاً للمعلومات الواردة في الموقع الرسمي للمجلس الديني الدرزي الأعلى في إسرائيل فقد ارتبط مقام النبي سبلان بالعديد من المعجزات والكرامات التي انحفرت في الوجدان الدرزي الجمعي على مر السنين. من أشهر تلك الكرامات أن النبي سبلان قد هرب ذات مرة من ملاحقيه من الكفار الذين تعقبوه وحاولوا قتله. فلما وصل إلى مغارته جاءت سحابة عظيمة وأمطرت. ففاض الوادي بالمياه وعجز الملاحقون عن الوصول إليه. من هنا عُرف الوادي الذي يحوط جبل النبي سبلان باسم "وادي الحبيس"، لأنه حبس الكفار اللذين لاحقوه ليقتلوه. ووفقًا لموقع "فلسطين في الذاكرة" فإن سيرة النبي سبلان قد ارتبطت بالعديد من المعجزات التي لا تزال تتردد أصداؤها بين جنبات منطقة الجليل، ومنها أن مقامه محاط بعدد كبير من ينابيع المياه، والتي يعتقد السكان المحليون أن لمياهها خاصية فريدة من نوعها.
وكان من عادة المرضعات، إذا شحَّ حليب إحداهن، أن تغسل ثدييها بماء هذه العين، فتدران ويكثر حليبهما. كذلك، انتشرت بعض القصص التي صورت النبي سبلان باعتباره حارساً أميناً للمنطقة. ومن ذلك ما روي أنّ سكان قرية حرفيش كانوا يسلقون القمح على عين وادي الحبيس، وينشرون الحب المسلوق (البليلة) على صخور تنتشر هناك، حتى يجف. وفي إحدى الليالي، تمكن أحد اللصوص أن يتسلل ويملأ كيساً بالحب ويحمله على ظهره ويهرب وظل يسير طول الليل، فلمّا بزغ الفجر وجد نفسه يدور ويحوم في نفس المكان لا يستطيع الابتعاد عنه. وكان أصحاب الحب قد استيقظوا فقبضوا على السّارق، وأُعيد الحب لأصحابه. في السياق نفسه، قيل إن حريقاً كبيراً قد اندلع ذات يوم في الجبل الذي يوجد فيه المقام. وسرعان ما انتشرت النيران في الأشجار السفلية، حتى إذا ما وصلت للأشجار التي كان سبلان يستظل بها في حياته، فإن النار انطفأت من تلقاء ذاتها.
من جهة أخرى، لا يزال اسم النبي سبلان مستعمَلاً في العديد من الأمثال المشهورة التي درج سكان منطقة الجليل على ترديدها. من ذلك قولهم "هل عنزاتك مثل عنزات سبلان"، أي هل تترك قطيع ماعزك دون راعٍ ولا تخاف عليه وكأنه قطيع النبي سبلان الذي لا راعي له. كذلك، شهد مقام النبي سبلان على العديد من الأحداث المؤثرة في الحاضر الدرزي، بما يؤكد على قيمة وأهمية المكان في العقل الدرزي المعاصر. على سبيل المثال اجتمع الآلاف من الدروز في المقام لتأبين ضحايا أحداث العنف الذي طال الطائفة الدرزية في السويداء السورية منذ شهور.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.