كان للمرأة العربية حضور فاعل في مسارات العلم والثقافة والحضارة، لا بوصفها "ملهمة" فحسب، بل بوصفها شريكة في إنتاج المعرفة وتطويرها. فإسهاماتها في الأدب-شعراً ونثراً ونقداً- جزء أصيل من المدونة العربية، وليس عنصراً تجميلياً أو هامشياً يمكن الاستغناء عنه. ولو تجاهلنا ما كتبته النساء أو ما شاركن به في صياغة الذائقة الأدبية، لاختلّت صورة التراث نفسه؛ لأن المشهد الثقافي كان دائماً نتاج تفاعل بين أصوات متعددة، نسائية ورجالية على السواء.
ولم ينحصر دور المرأة في الثقافة العربية القديمة في الإلهام أو الحضور الرمزي، بل تعدّاه إلى المشاركة المباشرة في التأليف والتعليم والقيادة الفكرية. فقد عُرفت بينهن شاعرات وناقدات وكاتبات وعالمات، أسهمن في بناء المعرفة ونقلها.
ومن أبرز الأمثلة على ذلك الشفاء بنت عبد الله العدوية، التي تُعَد من أوائل النساء اللاتي مارسن الكتابة ودرّسنها قبل الإسلام وفي صدره. فقد قامت بتعليم النساء الكتابةَ، ومنهن حفصة بنت عمر بن الخطاب، كما يذكر الدكتور ناصر الدين الأسد في كتابه "مصادر الشعر الجاهلي". ويشير هذا المثال وغيره إلى أن المرأة لم تكن متلقية للثقافة فحسب، بل منتجة لها ومؤثرة في امتدادها.
قيثارةُ مكّة الحزينة
لا تكاد تُذكر امرأة حزينة على فقد أحبتها إلا ويتبادر إلى الأذهان اسم الخنساء، الشّاعرة المخضرمة التي عاصرت الجاهلية والإسلام، وحسُن إسلامها، تماضر بنت عمرو (الخنساء)، الشّاعرة المُلهمة وصاحبة أعمق وأعتق قصائد الرثاء، وقد يمكن القول إن الخنساء هي من وضعت أسس جماليات المرثيات العربية، ولها سابقة لا تنكر في الرثاء، كما كان للخنساء دور معروف في الحركة الشعرية قبل الإسلام وحضورها المتواصل في سوق عكاظ وقصة تفضيل النابغة الذبياني لشعر الخنساء على شعر حسان بن ثابت قصة معروفة جداً.
ومن منّا لا يحفظ بيتها الشّعري الذهبي الذي خلّدت به شقيقها صخر لآلاف السنين، وأصبح مثلاً عربياً تتناقله الأجيال على ألسنتها، وقد استحسن الرسول الكريم قولها:
وَإِنَّ صَخْراً لَتَأْتَمُّ الْهُدَاةُ بِهِ/كَأَنَّهُ عَلَمٌ فِي رَأْسِهِ نَارُ
كان للمرأة العربية حضور فاعل في مسارات العلم والثقافة، لا بوصفها ملهمة فحسب، بل شريكة في إنتاج المعرفة، حتى إنّ تجاهل إسهاماتها يخلّ بصورة التراث نفسه
ويرى كثير من الأدباء العرب أن هذا البيت الشعري للخنساء، من بين شعرها في رثاء أخيها، وهو من أكثر أبيات الشعر العربي بلاغة وجمالاً في التشبيه، بل قد يمكن القول إنه أمدح وأشعر بيت قالته العرب!
الشعر النسوي من عوامل النصر
ولا يتوقف الإبداع النسوي النّاعم عند الخنساء، بل هو سلسلة زمنية طويلة ضاربة بعمق التاريخ والأصالة. ومن الجدير بالذكر أنّه في العام 1934 أصدر الباحث والشاعر اللبناني بشير بن سليم يموت كتابه "شاعرات العرب في الجاهلية والإسلام"، وقد جمع فيه ما عثر عليه من الشّعر النسائي في بطون أمّهات الكتب التاريخية، حيث ينتقل بالقارئ من عصر ما قبل الإسلام إلى بعثة النبي الكريم وصدر الإسلام، معرّجاً على شعر ليلى الأخيلية التي تعد أشهر شاعرات الإسلام وأكثرهن شعراً، ثم شاعرات العصر الأموي في الشرق والأندلس، إلى شاعرات العصر العباسي وما يليه، خاتماً بشعر تقيّة الصّورية، من نساء العصر الهجري السّادس.
وكانت فاتحة الكتاب بالحديث عن الشّاعرة صفيّة بنت ثعلبة الشيبانية التي استجارت بها هند بنت النعمان. وكانت صفيّة المحرّض الأساسي لجمع شمل قبائل العرب لهزيمة الفرس بمعركة ذي القار، حيث استثارت حميّتَهم بأشعارها ومن كلماتها:
أحيوا الجوار فقد أماتته معاً/كل الأعارب يا بني شيبانِ
ما العذر قد لفّت ثيابي حرّة/مغروسة في الدار والمرجانِ
بنت الملوك ذوي الممالك والعُلى/ذات الحجال وصفوة النعمانِ
وفي مرحلة زمنية متقدمة نجد أنّ هند بنت عتبة سارت على درب صفيّة الشيبانية، حيث شكّلت في غزوة أُحُد، مع مجموعة من نساء قريش، جوقةً ورحن يضربن على الدفوف، ويغنّين، ليحرّضن الرجال على القتال وخوض غمار الحرب.
هند بنت عتبة تقدّمت سرايا الفرسان، وألهبت صدور المقاتلين واستثارت حميتهم، وهي تغنّي بصوتها خلال العزف، المقطوعات التالية الشّهيرة:
نحن بناتُ طارق/نمشي على النمارقْ
الدرُّ في المخانق/والمسك في المفارقْ
إن تُقبلوا نعانق/أو تُدبروا نفارق
فراق غير وامق
سيدات قريش بين نقد الشّعر ورعاية الغناء
يورد الدكتور إحسان النّص في كتاب "اختيارات من كتاب الأغاني لأبي فرج الأصفهاني"، قصة مهمة جداً، تدلل على الثقافة الباسقة والعميقة والذائقة الشعرية القوية لحفيدة النبي سكينة بنت الحسين، سيدة المال والجمال في الحجاز، التي ارتقت إلى منزلة عالية من الأدب والعلم والفهم. يذكر الأصفهاني أن الفرزدق بعدما قضى حجّه في مكة المكرمة، توجه نحو المدينة المنوّرة لزيارة سكينة بنت الحسين، وبعد أن ألقى عليها التحية؛ سألتهُ: من أشعر الناس؟ قال الفرزدق: أنا. قالت كذبت، أشعر منك الذي يقول:
بِنَفسِيَ مَن تَجَنُّبُهُ عَزيزٌ/عَلَيَّ وَمَن زِيارَتُهُ لِمامُ
وَمَن أُمسي وَأُصبِحُ لا أَراهُ/وَيَطرُقُني إِذا هَجَعَ النِيامُ
وكانت تقصد الشاعر جرير خصمه اللدود.
من الخنساء إلى سكينة بنت الحسين، ومن صفيّة الشيبانية إلى هجيمة بنت حيي، تتجلى صورة المرأة العربية كرافد حيوي للعلم والأدب والفن، فقد تحدّت حدود الزمان والمكان لتثبت أن حضورها في الثقافة ليس تقليدياً، بل تأثيره فاعل وعميق في صياغة الحضارة العربية
وعندما عاد في اليوم التالي، سألته ذات السؤال وأجاب بنفس الإجابة، وقال لها: "والله لو أذنتِ لي لأسمعتكِ أحسن منه. فردّت عليه، صاحبك جرير أشعر منك، حيث يقول:
لَولا الحَياءُ لَعادَني اِستِعبارُ/وَلَزُرتُ قَبرَكِ وَالحَبيبُ يُزارُ
وتكرر ذات السؤال ونفس الإجابة في اليوم التالي، وأسمعت سكينة الفرزدق ما يقول جرير:
إِنَّ العُيونَ الَّتي في طَرفِها حَوَرٌ/قَتَلنَنا ثُمَّ لَم يُحيِينَ قَتلانا
يَصرَعنَ ذا اللُبَّ حَتّى لا حِراكَ بِهِ/وَهُنَّ أَضعَفُ خَلقِ اللَهِ أَركانا
هذه الأبيات الشعرية اعتبرها النقاد من أجمل أبيات الشعر العذري، ومن الملاحظ الانحياز الكامل لسيدة المجتمع القرشي سكينة بنت الحسين لِشِعر جرير وتفضيلها له على الفرزدق أو أي شاعر آخر كالأخطل، فالثلاثة كانوا رؤوس الشعر في العصر الأموي.
من الخنساء إلى سكينة بنت الحسين، تتجلى صورة المرأة العربية كرافدٍ حيّ للعلم والأدب، حضورٌ لم يكن تقليديّاً بل تأثيرٌ عميق في صياغة الذائقة والثقافة العربية
ويذكر الأصفهاني في الجزء الأوّل من كتابه أن دار الثريا بنت علي بن عبدالله، وهي أمويّة النسب، ووالدها من أثرى أثرياء مكّة، تخرّج منها الكثير من المغنون والمغنيات، نذكر منهم على سبيل المثال لا التحديد: الغريض ويحيى قيل وسميّة المغنية.
أم الدرداء الصغرى تعلّم الخليفة الأموي
هجيمة بنت حيي أم الدرداء الصغرى وزوجة الصحابي أبو الدرداء (توفّيت في دمشق، 82هـ)، هي العالمة والفقيهة، ويذكر ابن كثير (ت. 774هـ) في الجزء التاسع من "البداية والنهاية" أنّ الرجال كانوا يتفقهون على يديها وينهلون من علمها في الحائط الشمالي بجامع دمشق، ومن أشهر طلابها كان الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان، الذي أخذ عنها العلم والفقه والأحاديث النبوية الشريفة، واستمر على حضور مجلسها العلمي بعد توليه الخلافة.
تأسيساً على ما سبق، يتجلى الدور الثقافي والعلمي المؤثّر للمرأة العربية أوّلاً، وثانياً انفتاح وحضارة المجتمع العربي، وينكشف لنا زيف الادعاءات عن النظرة السلبية للمجتمع العربي إزاء المرأة بشكل عام.
فالخنساء كانت تحضر سوق عكاظ وتخضع للتحكيم بين قصائدها وقصائد الشعراء الرجال من النابغة الذبياني، وهنا تظهر المنافسة الشعرية بين الشاعرات والشعراء، ومزاحمة النساء للرجال في هذا المجال، وربما كانت الشاعرات يتفوّقن على الشعراء، كما تفوقت الخنساء على حسان بن ثابت.
والخليفة عبد الملك بن مروان لا يجد عيباً أو غضاضة في حضور مجلس علم لامرأة، والشاعر المعروف، الفرزدق، يزور السيدة سكينة بنت الحسين، بينما هي تفاضل بين شعره وشعر جرير، ويتخرّج من دار الثريا بنت عبدالله المغنون والمغنيات؛ مما يظهر لنا الدورَ الفاعل والبارز لسيدات المجتمع العربي في الحركة العلمية والشعرية والغنائية، وتأثيرهن الجلي في الثقافة العربية بشكل عام.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



