المفكر الشاعر الدكتور… رحلة البحث عن الصدق في عالم الألقاب

المفكر الشاعر الدكتور… رحلة البحث عن الصدق في عالم الألقاب

ثقافة نحن والحرية

الاثنين 17 نوفمبر 202511 دقيقة للقراءة

تطالعك الحسابات الشخصية للبعض، في وسائل التواصل الاجتماعي، بألقاب تدعو إلى الإشفاق والرثاء. تعريفات تخلو من التواضع، وفي الوقت نفسه تؤكد تواضع مواهب أصحابها: "المفكر والشاعر"، "الأديب الأستاذ الدكتور"، "الشاعر والروائي والناقد الدكتور". التعريف مصحوب دائماً بصورة رسمية. أحدهم صادفني في مهرجان المربد الشعري في البصرة. لم أسمع به طوال ثلاثين عاماً من وجودي في هذه الأوساط. اتهمت نفسي بالتقصير، وسألت الشعراء المصريين المشاركين في المربد، فلم يعرفوه، فاطمأننت على نفسي. في الدنيا فصيل حريص على أن يسبق اسمَه تعريف ثلاثي "الأستاذ الدكتور الشاعر".

عدت من البصرة، وبحثت عن اسم "الشاعر الدكتور"؛ ولم أبلغ شيئاً مما فاتني من مُنجزه. وبعد شهرين عقد ملتقى القاهرة للرواية العربية، ولم أجد "الشاعر الدكتور" بين الحضور، فاطمأننت هذه المرة على دقة اختيار المشاركين. وقلت في إحدى الجلسات إن في مصر نحو خمسين جامعة، تضم المئات من مدرسين للنقد، لا نكاد نعرف أسماءهم، ولا نصادف لأحدهم كتاباً منشوراً يستهدف القارئ العام. في حين لا يجد ثلاثة نقاد شبان مبشرين مكاناً في أي جامعة. ذكرت أسماءهم، ولا يزال المجلس الأعلى للثقافة يتيح تسجيلاً للجلسة على يوتيوب. هم أيضاً دكاترة، يدرِّسون في جامعات خارج مصر المحكومة بالبيروقراطية، ومشاركاتهم البحثية خارج مصر مشرّفة: محمد الشحات، ممدوح فراج النابي، أيمن بكر. آنذاك نسيت حمزة قناوي.

ربما نسيت آخرين يستحقون الإشادة، وتضيق بهم صدور رؤساء الأقسام وعمداء الكليات. أحدهم نشر كتباً، ومقالات ودراسات في مجلات محكّمة، وفي مناقشة أطروحته للدكتوراه، بدت غيرة المشرف ولجنة المناقشة من الطالب المشهور، حتى إن عضواً باللجنة نطق بما لا تحتمله نفسه، وقال للطالب: لا تغترّ بأنهم مهمٌّ، لأنك تنشر في الحياة اللندنية، وفي غيرها. يبدو أن غاية الأستاذ أن ينشر، مثل الطالب، مقالاً في "الحياة". ومات دون بلوغ المراد.

حمزة قناوي، الذي نسيت أن أذكره في ملتقى الرواية عام 2019، ترحب بدراساته الصحف والمجلات، ويشارك بأبحاث نقدية محكمة، في مؤتمرات دولية علمية، بعيداً عن مصر. ويدعى إلى معارض الكتب في العواصم العربية إلا القاهرة. مساء 11 تشرين الأول/أكتوبر 2025، قابلته في نقابة الصحافيين بالقاهرة، مشاركاً في تأبين صنع الله إبراهيم، وقد حرر كتاباً تذكاريّاً عنوانه "صنع الله إبراهيم في مرايا محبيه". قال لي إنه حضر إلى مصر ثلاثة أيام، ثم يسافر إلى الجزائر ومنها إلى المغرب مباشرة، للمشاركة ببحث محكّم عن رواية "أمريكانلي"، في مؤتمر تنظمه كلية اللغة العربية بجامعة القاضي عياض.

في حفل التأبين رأيت حمزة، للمرة الأولى، متحدثاً. لا يختلف إيقاعه وأداؤه الشفاهي وانضباط لغته عن كتاباته النقدية. يأخذ الأمور بجدية، ففي حين تكلم معظم المشاركين عن وقائع شخصية وحكايات وذكريات ثنائية، اهتم حمزة قناوي بالتجريب والخصوصية الروائية في الشكل والبنية والدلالة عند صنع الله إبراهيم، بعنوان "استقراء المجتمع الإنساني في مقاربة اليسار وتفكيك سؤال الرفض والهزيمة".

في كتاب "صنع الله إبراهيم في مرايا محبيه"، حرص حمزة قناوي على تعريف نفسه بأنه "كاتب مصري مقيم في الخارج". ثنائية الداخل والخارج، مصر المرتحلة معه والغربة المختارة، ربما توجب إعادة قراءة عمله الأكبر حجماً "من أوراق شاب مصري" المصنف باعتباره رواية. وأراه رواية تسجيلية فيها اسم المؤلف صريحاً، وأسماء أشقائه وشخصيات عامة، فضلاً عن وقائع واحتجاجات في فترة الغليان السابقة على ثورة 25 كانون الثاني/يناير 2011. في إيهام بالتخييل، لم يذكر المؤلف اسم "الدكتور"، المفكر ذي التاريخ النضالي الماركسي. المؤلف عمل معه مساعداً علميّاً، يرتب أوراقه، ويصحبه للقاء دبلوماسيين ومثقفين، ويجمع معلومات يريدها في مشاريع كتب ودراسات، وينصت إليه وهو يفكر ويملي عليه مقالات تنشرها صحيفة "الأهرام" ومجلة "الهلال". مهام كثيرة "تكفيني حتى الشيخوخة"، كما يقول الشاب للدكتور في نوبة تمرد مكتوم.

العمل اليومي مع مفكر يستند إلى رصيد من النضال الوطني، ويتمتع بذهن متوقد يصهر ترسانة من الأفكار والفلسفات، يجد هوى في نفس الشاعر الشاب الشغوف بالمعرفة، المتابع للنظريات الفكرية والنقدية، الطموح إلى مواصلة الدراسات العليا التي لا يتحمس لها المفكر كثيراً، رغبة في الاستئثار بجهود الشاب، فلا يريده مثلاً أن يذهب إلى مكان، أو يقابل أصدقاء، قبل بدء العمل معه؛ للاحتفاظ بطاقته وقدرته على التركيز. سلوك أناني يستنسخ الاستعباد القديم، يعيد إنتاجه في صورة حديثة تضمن امتلاك الوقت والجهد وخلوّ البال، حتى إنه يستنكر تفكير الشاب في عمل يؤمّن مستقبله: "يعني ايه تشتغل في الحكومة؟ ولما أشوف لك شغل في الحكومة مين هيشتغل معايا؟".

تكشف الرواية جانباً من سيكولوجية المثقف المؤمن بنهضة مجتمع لا يعرفه. يطلّ من شرفته على حديقة المريلاند في مصر الجديدة، ولا يلمس حذاؤه غبار الأرصفة، ولا يعرف شيئاً عن أساليب الحياة في مناطق شعبية تواصل الزحف والتوحش، وتشكل حزاماً من الفوضى والتطرف الديني والإجرامي يطوّق المدينة. المثقف الأرستقراطي ينتبه إلى الحضور الفاعل لحركة "كفاية"، وجسارتها على رفع شعار "لا للتمديد لا للتوريث"، ويفكر في الانضمام إليها، ثم يتراجع حفاظاً على استمرار نشر مقاله الأسبوعي، يخشى إنهاء عقده مع الأهرام وعضويته في هيئات ثقافية حكومية... يتدبر حساباته وتوازناته، ويقرر الصمت.

هذا شأن الصقور المخصية. ما هكذا فعل مثقفون استغنوا عن الأهرام، وغير الأهرام، أمثال جمال حمدان ومحمود أمين العالم وفاروق عبد القادر. البعض استبدل بجنة الأهرام مشاريع بحثية مهمة، مثل عبد الوهاب المسيري الذي استبعدوه من مركز الدراسات السياسية في الأهرام، فتفرّغ لمشروعه الفكري، ثم انتخب منسقاً عامّاً لحركة "كفاية" خلفاً لجورج إسحاق. أي عزاء أو مسوّغ لحرص "المفكر" على مقال عن صعود الصين في الأهرام، والشارع يغلي باحتجاجات تتواصل؛ لخلخلة القبضة البوليسية؟

تضم "من أوراق شاب مصري" سيرة ذاتية للمؤلف وسيرة فكرية غيرية للدكتور، وشهادة على مصر في سنوات إنضاج ثورتها، فضلاً عن اختلاف الرؤى للحراك الشعبي ونتائجه بين جيلين. الأصغر يمثله شاعر حالم وغاضب. والأكبر يمثله الدكتور الموقن بحتمية تاريخية نظرية، ويقول للشاب "إنك تشبهني منذ خمسين عاماً".

الشاعر المثقف جاهز للمشاركة في نهضة بلده، لكنه "لم يجد نهضة ولا بلداً". المشهد قبل الثورة يؤكد وقوع انفجار وشيك. للمرة الأولى تشهد مصر "شهداء العيش"، في الصراع أمام المخابز. ومن ثمانين مليون مواطن يوجد 25 مليوناً مرضى بالاكتئاب. وفي عام 2008 انتحر أكثر من 15 ألفاً، معظمهم من الشباب. توارث الناس البطالة والفقر. وفي الإحباط وابتعاد الأمل، سادت اللامبالاة. وتآكلت الطبقة الوسطى. واحتمى الأثرياء بمعازل سكنية شيّد إحداها رجل دخل السجن متهماً بقتل مغنية. والنظام الحاكم يتجاهل مشكلات الشعب، ويخاف ثورته؛ فيرفع عدد جنود الشرطة إلى أكثر من مليون و400 ألفاً.

الشاعر الشاب يقول للدكتور إن السلطة "تريد إنساناً ميتاً بلا عقل، يأكل وينام... يظل لاهثاً في تأمين احتياجاته". يرى أن "مصر دولة تنهار"، ولا تنتظر كارثة؛ لأن الكارثة "نعيشها بالفعل يوميّاً". لا يعوّل على إصلاح، فأوانه فات، ولم تعد له جدوى. يراقب رهاناً شعبيّاً على الجيش "لإحداث التغيير المرتقب... كثورة مسلحة يقوم بها ويدعمها الشعب". ثم يستبعد الفكرة، ويؤمن بالتغيير عن طريق "ثورة شعبية" تثمرها الاحتجاجات المتواصلة.

الشاب الغاضب، الذي كلما رأى حجراً في الطريق ركله وإن لم يجده بحث عنه ليركله، يقرأ بتمهل حقائق عجز الميزانية والديون والتفاوت الطبقي وخرق الدستور وتزوير الانتخابات والقبضة الحديدية، في مقال "هل تبقى مصر دولة مستقرة؟" للدكتورة ماري شهرستان التي تتساءل: "فهل هناك من ضابط طموح يقوم بانقلاب آخر؟". أما الدكتور الذي جرّب العمل السري، واعتقل بسببه في خمسينيات القرن العشرين، فيعنى بالتحليل، ويعيد الانهيار العمومي إلى أسبابه، إلى تاريخ "يبدأ من 26 آذار/مارس 1979 يمثل التأسيس الثاني للدولة الصهيونية واحتجاب مصر!". في ذلك اليوم وقّعت مصر ما يسمى معاهدة السلام، وبدأ تطبيع "أضفى الشرعية على الدولة العنصرية الصهيونية"، ومنذ ذلك الوقت بدأ "احتجاب مصر".

للتنبيه، وإبراء الذمة، فإن أحداث الرواية تنتهي عام 2010. كأنها كشف حساب ختامي لمصر المستعدة لانفجار كبير. مخاض نضجت على مهل مقدماته؛ فاستعصت الأزمات على الإصلاح. لا بدّ من ثورة، فكانت لحظة كانون الثاني/يناير 2011. قبلها توجه بطل الرواية إلى المطار، في مشهد تُفتتح به الرواية وبه تنتهي، وما بين القوسين غليان غضبٍ يزيد على 400 صفحة.

لا نهاية للتاريخ. حتى الثورة الفرنسية انتهت بانقلاب نابليوني عاصف. الجنرال الشاب الطموح نصّب نفسه إمبراطوراً، وأعاد إنتاج الأسوأ من سياسات لويس السادس عشر. وفي مصر تتحول الثورة إلى كابوس، إلى حين. يظل الرهان على الوعي، ومواصلة الكتابة، إبداعاً ونقداً. هذا ما اختاره حمزة قناوي. من موقعه المختار، خارج مصر، يطل على الثقافة العربية باتساع دوائر فضائها الجغرافي والإبداعي. وفي الفترة الأخيرة أصدر كتاب "سبعة فضاءات... الرواية العربية الآن". يتناول بالتحليل النقدي والثقافي جانبًا من التجليات الأخيرة للمشهد الروائي العربي. بالتطبيق على روايات منها "1970" لصنع الله إبراهيم و"يوم الثبات الانفعالي" لسهير المصادفة. ومن الجزائر "الملكة" لأمين الزاوي، و"حنين بالنعناع" لربيعة جلطي. ومن تونس "طتوجان" لآمنة الرميلي. ومن السعودية "عقل سيئ السمعة" لزينب حفني.

هل يمكن للألقاب الكبيرة أن تخفي ضعف الموهبة، أم أن الامتحان الحقيقي هو العمل نفسه، فيفضح صاحبه مهما زيّن تعريفه؟

مقدمة الكتاب تثير أسئلة لا تجيب عنها الروايات السبع وحدها. مقدمة تشبه بياناً نقديّاً مفتوحاً على نصوص، وإجابات، أخرى. تمنيت ألا يحدد عنوان الكتاب عدداً (سبعة)؛ لكي يتسع الأفق لإضافات في طبعات تالية، مع ثبات المقدمة أو تعديلها، حسب إيقاع الأعمال المضافة لاحقاً.

وفي نهاية العام الماضي، 2024، نشر حمزة قناوي كتاباً جديداً عنوانه "آليات النقد بين سلطة القارئ وهيمنة النص ونظريات السرد". عنوان طويل، تمنيت لو اقتصر على كلمتَي "آليات النقد"، مع الإبقاء على مثلث "سلطة القارئ وهيمنة النص ونظريات السرد" عنواناً فرعيّاً إيضاحيّاً. وليس من سلطتي تقديم مثل هذا الاقتراح لكاتب تعجبني اختيارات عناوين كتبه، وانتقاؤه للنصوص الإبداعية. وقد وضع للـكتاب عنواناً فرعيّاً هو "دراسة في إنتاج المعنى ومحاورة الرواية المعاصرة". وبمحاورته الرواية العربية، يثبت من جديد اختلافه عن كثيرين تحكمهم الشوفينية المصرية؛ فما يستهويه هو النصوص لا جنسية المؤلف ولا جنسه.

في هذا الكتاب يحاور نصوصاً روائية يدرجها في ثلاثة مسارات: الطابع التاريخي، والسرد النسوي، والتجريب السردي. كما يحقق معنى أن يكون النقد نصّاً إبداعيّاً موازياً "وليس ملحقاً سطحياً للأدب، وإنما هو قرينه الضروري" كما قال تودوروف.

مؤلف "من أوراق شاب مصري" (دار الآداب بيروت 2012) طوى تلك الأوراق، وأغلق تلك الصفحة، ولا يريد إعادة طبع تلك الرواية. أكرر "تلك" متعمداً الإشارةَ إلى ماضي فتى غاضب، لم يتسع له صدر مصر، وقد كبر وصار الدكتور حمزة قناوي الكاتب والمحاضر الذي ينظر وراءه بغضب أقل، ويفكر في قفزات تالية، وينضم إلى ثلاثة نقاد شبان (محمد الشحات وممدوح النابي وأيمن بكر) تؤهلهم قدراتهم للمشاركة في ملتقيات علمية لا يبلغها "الأستاذ الدكتور الشاعر". هذا الأخير، الذي قابلته في المربد، أصرّ على أخذ وثيقة بالمشاركة في المهرجان، لينشرها في الفيسبوك، ويضعها في ملفه الوظيفي المتخم بالزبَد، أما اللؤلؤ ففي الأعماق، يصوغه موهوبون يتساءلون: كم تبعد مصر؟


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

وراء كل تقرير في رصيف22، أيام من العمل: من التفكير والتحرير إلى التحقق والإنتاج البصري.

نحن نراهن على النوع، والصدق، والانحياز إلى الحقيقة والناس.

وحتى يستمرّ هذا العمل، نحتاج إلى من يؤمن بأنّ الجودة والحرية تستحقان الاستثمار.

Website by WhiteBeard
Popup Image