تُنشَر هذه المادة ضمن ملف "عام على ماذا؟... وإلى أين؟"، الذي ينشره رصيف22 بعد عام على سقوط نظام الأسد، وبكل ما عناه هذا العام للسوريين والسوريات من أمل وخذلان ومحاولات للنجاة.
لم أكن أصدق ما أراه، كان كل شيء يبدو كحلم. دخول الفصائل المسلحة إلى دمشق، هروب بشار الأسد بالتزامن مع مشاهد عناصر الجيش وحراسة القصر الجمهوري يخلون مواقعهم ويرمون ملابسهم العسكرية في الطرقات. صدح صوت المذيع يعلن سقوط النظام السوري.
بعد أربعة عشر عاماً من الصراع الذي فتك بكل السوريين، من الاعتقال والقتل تحت التعذيب والقذائف والاختفاء في المعتقلات الوحشية، مروراً بالنزوح والهجرة والشتات، وليس انتهاءً بالفقر المدقع الذي عصف بعامة الشعب مع تزايد مظاهر البذخ بين الشرائح المقربة من السلطة. الوحشية الأسدية انتهت بعد أربعة وخمسين عاماً. توهجت عبارة سحرية نشرها موقع الجمهورية: "سقط الأبد". نعم هو كذلك، لقد سقط الأبد. سقط بسردياته ووحشيته وتعقيداته، سقط الأبد.
من أسقطه؟
الفرح بالسقوط جعلنا نغفل (طوعياً) عن حقيقة موجعة، من الذي أسقط هذا الأبد؟
وبالطبع سنغفل، فقد كان، ولا يزال، سقوط الأسد ضرورة تاريخية وإنسانية لا بد منها، انتصاراً للحق وللعدالة. نهاية لا بد منها لحقبة سوداء، يقودها نظام عسكري يستخدم القمع والإبادة للبقاء. عقود من المجازر الطائفية والأسلحة الكيماوية والقنابل المحرمة دولياً، والقبضة الأمنية والحصار، واستباحة البلد بأكملها، سقطت يوم الثامن من كانون الأول. لم نكن نعلم أن الحلم قد سقط معها.
أذكر أني يومها، في جلسة لمجموعة أصدقاء مصريين وسوريين، خضت نقاشات حادة مع الأصدقاء المصريين الذين لاموا علينا تغافلنا هذا. كانوا ينظرون بقلق إلى "المحرر" الجديد، أبو محمد الجولاني، المؤسس السابق لـ"الدولة الإسلامية في الشام"، وسبب تمددها إلى سوريا لتصبح (الدولة الإسلامية في العراق والشام)، والقائد السابق لـ"جبهة النصرة"، فرع القاعدة في سوريا.
سقوط الأسد ضرورة تاريخية وإنسانية لا بد منها، انتصاراً للحق وللعدالة. نهاية لا بد منها لحقبة سوداء، يقودها نظام عسكري يستخدم القمع والإبادة للبقاء
كان من الصعب أن يفهم أحدنا (أقصد مجموعة الأصدقاء المصريين والسوريين) الآخر. أعتقد أننا لم نمتلك رفاهية واقعيتهم في تلك اللحظة، وبالطبع هم لم يحملوا فورة غضبنا وحقدنا المتراكم على نظام الأسد.
بالنسبة لي، كانت العودة إلى بيتي في جبال طرطوس حلماً بعيداً. فقد كانت خسارتي لبيتي ومدينتي ومجتمعي ثمناً لموقفي من بشار الأسد ونظامه، وكلما طال بقاء الأسد طال معه الحلم بالعودة إلى البيت. لهذا كانت لحظة سقوطه صادمة، فالآن لم يعد للحلم معنى، البيت أصبح قريباً، أقرب من الحلم بكثير.
بالطبع، لم نستطع التغافل لوقت طويل، فبعد احتفالات النصر والتحرير، ووعود بالمستقبل المشرق لبلد منهك اقتصادياً وطائفياً وعسكرياً ومؤسساتياً، بدأت ملامح الدولة الجديدة بالظهور: العدالة الانتقالية غائبة، بينما يحضر الخطاب الطائفي بوضوح، مع محاولات لأسلمة البلد، وانتشار السلاح في أيدي فصائل عسكرية متنوعة ومختلفة التوجهات، ومؤتمر وطني صوري، وحكومة نُقلت من إدلب إلى دمشق لتحكم بلداً معقداً كسوريا بأسلوب حكم فصيل مسلح لمدينة عاشت على الدعم التركي اقتصادياً وعسكرياً لسنوات، وجيش غير وطني يحوي جهاديين عالميين ومتشددين إسلاميين، وتعويم لشخصيات عسكرية واقتصادية دعمت الأسد وساهمت بترسيخ حكمه، ومن بينها أفراد تورطوا معه بسفك الدم السوري بشكل مباشر. ولم يطل الأمر كثيراً حتى وقعت الكارثة.
حين تحولنا "كلنا" إلى فلول
في ليل السادس/ السابع من آذار 2025، وبعد انتشار خبر مفاده أن فلولاً للنظام القديم أعدّوا كميناً لقوات الأمن، قامت فصائل مسلحة تابعة للجيش السوري الجديد، رفقة مجموعات مدنية مسلحة "فزعت" لقتال "الفلول والكفار" بعد حملات تحريضية على منابر الجوامع ووسائل التواصل، بالدخول إلى مناطق سكن العلويين السوريين في الساحل وحمص وريفها وريف حماة.
في الأيام التالية، أرتنا المقاطع المصورة ما لم نكن نريد رؤيته.لعنف طائفي، تعذيب وتنكيل وسرقة، حرق ممتلكات وأراضٍ، وأطفال ونساء ورجال يختبئون في جرود الجبال هاربين من الموت. متطرفون سوريون وأجانب قتلوا بدم بارد عائلات علوية. كانت الفيديوهات تظهر سخرية القاتل من القتيل قبل قتله. أحد العناصر المسلحة كان يضحك بسخرية وهو يقتل شاباً أمام والدته، ضحكته هذه هزّتني. هو لم يكن فقط يسخر من الأم ومعاناتها، ولم يكن يسخر من طائفة بكاملها وبلد بأكمله.
هذه الضحكة كانت رداً قاسياً على حلم، على أملنا بوطن، ببلد حقيقي نبنيه ويبنينا. كسرت ضحكته هذه كل أمل بالعودة إلى البيت. كنت أشاهده وأنا أفكر أنه يسخر من سذاجتي، من تعلقي بوهم العدالة والحق والمنطق والحرية. عند هذه الضحكة، أدركت أن بشار الأسد قد سقط، لكن "الأبد" لم يسقط.
تثبّت حكم الأسدين على الصراع الطائفي بين العلويين والسنّة، مستفيداً من ومذكراً بالأحداث الطائفية التي شهدتها سوريا في الثمانينيات أثناء الصراع بين حافظ الأسد والطليعة المقاتلة، هذا الصراع الذي انتهى بواحدة من أسوأ المجازر المسكوت عنها، مجزرة حماة 1982، حين قتل الجيش السوري بقيادة رفعت الأسد عشرات آلاف المدنيين من سكان المدينة بتهمة حماية الإخوان المسلمين المتمردين على حكمه.
استغل الأسد هذا التمرد ليعمم سردية استهداف العلويين، واستحضر مظلوميتهم منذ اضطهادهم من قبل الاحتلال العثماني، ليعزز ارتباط الطائفة به، وليربط بقاءها باستمراره في الحكم.
سرديات البعث المقدسة إلى اليوم
ومع اندلاع الثورة السورية، عزز هذا الصراع بتعميم سرديات طائفية قائمة على المظلومية والخوف، من خلال سعيه إلى أسلمة الخطاب المعارض ضده، وإطلاقه سراح متشددين ومتطرفين إسلاميين وجهاديين من السجون السورية لينخرطوا في الصراع المسلح ضده. زادت هذه العوامل من الالتفاف الطائفي العلوي حول نظام بشار الأسد خلال سنوات الثورة السورية، ورغم وجود أصوات معارضة علوية في الثورة السورية، ورغم نزوح بعض سكان المناطق (السنّية) المستهدفة من جيش بشار وحلفائه إلى مناطق العلويين الأكثر هدوءاً واستقرارهم فيها، إلا أن الخطاب الطائفي ظل حاضراً بوضوح في السنوات الأخيرة، وتعزز بعد سقوط بشار الأسد، وتُرجم إلى ضحكة ساخرة من جهادي يقتل شاباً أعزل.
كنت أشاهده وأنا أفكر أنه يسخر من سذاجتي، من تعلقي بوهم العدالة والحق والمنطق والحرية. عند هذه الضحكة، أدركت أن بشار الأسد قد سقط، لكن "الأبد" لم يسقط
لم يتوقف الأمر عند مجزرة 6 آذار، استمر التحريض والعنف والتمييز ضد العلويين. فصل تعسفي من وظائفهم، حالات قتل طائفي متفرقة في مناطق وجودهم، قنابل على البيوت والمدارس، اغتيالات لسكان آمنين من على شرفات منازلهم، وعمليات اختطاف ممنهجة لسيدات علوية من مناطق سكنهن وعملهن وترحيلهن إلى إدلب ومعاملتهن كسبايا وغنائم حرب، وسط إنكار رسمي وصل إلى حد أن يصرّح المتحدث باسم وزارة الداخلية أن معظم حالات الاختفاء هذه هي لنساء هربن مع عشاقهن! في إهانة صريحة لنساء دولته وأمام وسائل إعلام محلية وعالمية. استمر النظام الجديد في الاعتماد على خطابات إعلامية تحريضية، مدعوماً بكوكبة من الإعلاميين والصحفيين المأجورين والمعروفين بانحيازاتهم الطائفية منذ الثورة السورية والحرب الأهلية.
حين تخلى عنا الأصدقاء
لكن الصادم كان موقف أصدقاء ورفاق درب، مناضلون ومناضلات، حقوقيون وناشطون ونسويات، مثقفون ونخب اختاروا الصمت أو التبرير. يساريون وليبراليون وجدوا من أبو محمد الجولاني رجل المرحلة، وفي أحسن الأحوال طالبوه بإصلاح الحال، وطالبونا بالنقد البنّاء وإعطاء فرصة لقيام الدولة الجديدة.م لوهلة، عادت سنوات الثورة الأولى إلى المشهد: خلافات طائفية، صدمة من نخب كنا نحترمها ثم خذلتنا بانحيازات طائفية وقحة. قتل على الهوية، غليان وعنف وسلاح منفلت، الفرق فقط أن الضحية هذه المرة ليست الأكثرية.
ومع توسع دائرة العنف والقتل لتطال محافظة السويداء بهجمات وفزعات عشائرية مسلحة ضد الدروز، ومجزرة دامية في تموز/يوليو 2025، ترسخت الانقسامات الطائفية في البلاد، وأطل خيار التقسيم ليكون حلاً شبه أوحد لينتشل البلاد من دائرة الدم هذه.
قبل أيام قليلة من كتابة هذا المقال، اندلعت أحداث عنف طائفي في حمص، فزعت بعض العشائر في حمص لتهاجم أحياء العلويين بعد انتشار صور جريمة قتل عائلة من العشائر، كتب القاتل فيها بالدم على أحد الجدران "يا علي يا حسين". كانت هذه الجملة شرارة منتظرة للهجوم على أحياء العلويين.
خرج بعض العلويين في أنحاء سوريا باعتصامات سلمية، طالبوا الدولة الجديدة بحماية حقوقهم. طالبت بعدها الحكومة مباشرة جموع الشعب السوري بالخروج إلى الشوارع للاحتفال بذكرى بدء معركة "ردع العدوان" التي أسقطت بشار الأسد.
بالطبع لم تكن هذه الدعوة بريئة، إذ خرج الجموع بعدها من مؤيدي أحمد الشرع بعبارات طائفية ودعوات جهادية. هاجم بعضهم أحياء العلويين وبيوتهم، دون أي تعامل للسلطة مع مطالب العلويين، بل بالعكس، أخرجت لهم جموع مؤيديها كتهديد واستعراض قوة.
في تعليق له على اعتصام العلويين السوريين، تساءل أحد الأصدقاء: أين كان العلويون حين رُفعت نفس المطالب التي يرفعونها اليوم في عموم سوريا في 2011؟ قد يبدو التساؤل بريئاً، لكنه ضمنياً، وبتوقيته وأسلوب طرحه، يبدو أنه يبرر ما يحصل للعلويين بسبب تاريخ التفافهم حول نظام الأسد، ويحملهم مسؤولية استمراره وبقائه، متناسياً أن الأقلية العلوية لم تكن لتثبت نظام حكم كنظام الأسدين لولا دعم سنة دمشق وحلب، المدينتين المفصليتين في حكم سوريا، ومتجاهلاً الخوف الطائفي الذي أصبح مبرراً، خاصة بعد ارتكاب ثوار الأمس لمجزرة بحق الدروز، الطائفة التي وقفت بحق ضد بشار الأسد، ودعمت الثورة، وحمت أبناء المدن الأخرى في السويداء وآوتهم.
سقط بشار الأسد، أتخيله اليوم يراقب من منفاه الفاخر في موسكو ما يحصل في سوريا من بعده، أراه شامتاً بنا وبأحلامنا، بينما تغرق البلاد في الدم الذي بادر نظامه في إراقته
بعد مجزرة العلويين، تصاعد خطاب من أبناء الطائفة المكلومين يرى أن الدماء التي سالت في الساحل وحمص وريف حماة ربما كانت ضرورية لغسل الحقد وبناء دولة جديدة. وإن كان الثمن دماء أبنائهم وأشقائهم فليكن. كان هذا طرف خيط يمكننا من بناء عقد اجتماعي حقيقي. لكن المجزرة التي لحقت بالدروز أكدت أن الدم وحده يغسل الدم، وأن "العقد الاجتماعي" الآن ما هو إلا طيف ساخر.
عام على إراقة دماءنا
مع مرور عام على سقوط بشار الأسد، نفتقد اليوم قيَم الثورة الأولى، نفتقد عقداً اجتماعياً يحمي السوريين كلهم، نفتقد عدالة انتقالية ومحاسبة حقيقية. نراقب بعجز السواد وهو يطمس أحلامنا ومستقبلنا. نشاهد دائرة العنف تعود لتتشكل من جديد، بينما نغرق نحن في دمائنا أكثر فأكثر.
سقط بشار الأسد، أتخيله اليوم يراقب من منفاه الفاخر في موسكو ما يحصل في سوريا من بعده، أراه شامتاً بنا وبأحلامنا، بينما تغرق البلاد في الدم الذي بادر نظامه في إراقته.
كنت أريد من خلال هذا المقال أن أشرح كيف أن هذا كان عاماً أسود على العلويين، لكن وعلى ما يبدو، كان هذا العام أسود على كل من آمن بالحرية والحق والعدالة والمساواة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



