كل شيء حول الفنان الصيني المعارض، "آي وي وي"، كان حتى وقت قريب في أحسن حال؛ حديقة النحت في بيلاني (غرب مدينة غوتنبرغ السويدية) كانت تنتظرنا، فنحن طلاب الفن المستدام في المدرسة الشعبية العليا، كنَّا على موعد مع وي وي ومجموعة من الفنانين الآخرين من جنسيات مختلفة، لنشاهد أعمالهم في الهواء الطلق تحت عنوان "الجذور". ولكن الهمس كان يدور من حوله هو تحديداً، أما الآخرون وعلى أهميتهم، فلم يكونوا في الحسبان، أقله لإدارة الحديقة ممثلةً في بيتر لينبي الذي ما انفك يدلي بتصريحات عن الفنان المعارض المثير للجدل للصحافة المحلية.
بينالي النحت الضخم ليس حديقةً تقليديةً في الواقع؛ لا يشبه أياً من الحدائق التي يمكن استدعاؤها من الذاكرة. هي منطقة رعي حيَّة، يمكن للزوار التحرك فيها بحرية أو على مسارات محددة فوق المروج والجبال، ومن هذه المنطقة الجبلية يمكن الاستمتاع بإطلالة فريدة على بحر الشمال وأرخبيل بوهيسلين.
من قاع الوادي يمكن مشاهدة "آنا"، من تصميم النحات الإسباني الشهير جامي بلينسا. هي واحدة من أضخم المنحوتات في العالم وأجملها، بارتفاع يبلغ 14 متراً، وقد أصبحت علامةً بارزةً من علامات الساحل الغربي بأكمله، واستقرت بشكل دائم هناك.
بعض السحليات العملاقة التي صنعها وي وي من جذور أشجار في طريقها نحو الانقراض، اكتسبت مظهراً طبيعياً على شكل صدأ، فهي ترشح من الكوابيس الآدمية، فَوِي وي أقام لفترة في غابات البرازيل، وتعرف على كوابيسه هناك
بعض السحليات العملاقة التي صنعها وي وي من جذور أشجار في طريقها نحو الانقراض، اكتسبت مظهراً طبيعياً على شكل صدأ، فهي ترشح من الكوابيس الآدمية بحسب المدير لينبي، فـَوي وي أقام لفترة في غابات البرازيل، وتعرف على كوابيسه هناك، وصارت شغله الشاغل قبل أن ينتقل إلى مصنع جعة في برلين، ويحوله إلى مشغل ضخم بطريقته، ثم يكتشف أن ألمانيا تحدّ من إلهامه، ولا تشكل ثقافةً منفتحةً بالنسبة له، فانتقل إلى إنكلترا.
في أيار/مايو المنصرم، وبعد مرور عشرة أيام على افتتاح معرض "واحد من أهم الفنانين الأحياء في عالمنا المعاصر"، كما جاء في بروشور التعريف الخاص به، سافرنا في ثلاث باصات كبيرة إلى بحيرة شيورن الواقعة على الساحل الغربي لبحر الشمال، وعندما وصلنا إلى حديقة بيلاني التي كانت تنتظر آي وي وي، بفارغ الصبر، قبل جائحة كورونا بكثير، تأجَّل موعد اللقاء به، وبدا واضحاً أن السويديين ليسوا متأكدين من حضوره المعرضَ شخصياً، ولكنهم يتحرَّقون لذلك كما فهمنا من "المعلم" يواكيم ستامبه، المشرف على مشاريعنا، لأن اللقاء به سانحة قد لا تتكرر، فالعالم هنا في الغرب مشغول بكل نأمة تصدر عنه: "إنه المعارض الكبير الذي يقف على حافة الكرة الأرضية شاهراً اصبعَه الوسطى لسلطات الصين الشيوعية المتحجرة أنى حلَّ وارتحل".
من هو آي وي وي؟
في عواصم الدول الغربية التي تحتفي به، غالباً ما تسبقه سيرته الذاتية الحافلة بنضاله ضد الحكم الشيوعي في الصين، فهو ابن الشاعر آي تشينغ، المغضوب عليه من ماوتسي تونغ، الذي نفاه مع عائلته إلى أحد معسكرات العمل الإجباري سنة 1958، وكان عمر وي وي وقتها سنةً واحدةً. لم تتمكن عائلة الشاعر المعارض من العودة إلى بكين إلا مع رحيل ماوتسي تونغ نفسه سنة 1976.
كان وي وي في التاسعة عشرة من عمره، وبعد عامين التحق بأكاديمية بكين للسينما، ودرس فن الرسوم المتحركة. بعد مرور خمسة أعوام على استقرار عائلته مجدداً في العاصمة الصينية، تمكّن الشاب من تأمين منحة دراسية جامعية له خارج الصين. لا أحد يعرف كيف تمكّن أبوه من فعل ذلك، ولكن هناك إشارات عن ثمن مقبوض "دفعه" حتى يمكّن ابنه من منحة تعليمية لا أحد يعرف عنها شيئاً حتى هذا اليوم.
مع عودته إلى بلاده بعد تخرجه، أسس إستوديو الفن الطليعي مع مجموعة من الفنانين الصينيين المعارضين، وصار هذا التجمع الفني موضع شدّ وجذب مع السلطات التي أولاها الغرب جلَّ اهتمامه بالرغم من مشاغله الكثيرة التي لا تُعد ولا تُحصى، وكان وي وي على قائمة اهتماماته، فلم تتوقف عاصمة أوروبية أو غربية واحدة عن الاحتفاء به، وبفنه الحديث، وهو للمناسبة لديه ما يقوله بالفعل، ولم يكن مجرد "فزَّاعة" فنية -على غرار كثيرين- أرادوا الاتكاء عليها من أجل استخدامها في حربهم ضد الصين الشيوعية.
تمكنت السلطات الصينية بجرأتها المعهودة من تفكيك إستوديو الفن الطليعي سنة 1983، لكن وي وي واصل مشاركاته الفنية في الكثير من المعارض، وعاش عقداً ونصف عقد متنقلاً بين بكين وسان فرنسيسكو وفيلادلفيا، ودرس اللغة الإنكليزية في جامعة بنسلفانيا ومدرسة بيركلي للكبار، وتعرَّف عن قرب إلى أعمال مارسيل دو شامب، آندي وارهول، وجاسبر جونز، وبصفته ابناً لشاعر صيني مرموق يمتلك أنفاساً معارضةً في قصائده، ارتبط بصداقة خاصة مع الشاعر الأمريكي آلن غينسبرغ، الذي قرأ شعراً عن الصين في إحدى الأمسيات، ثم سافر إلى بكين للقاء والد وي وي. حياته الأمريكية الصاخبة دفعت به لإنشاء وحدة الفن المفاهيمي من خلال تغيير الأشياء الجاهزة.
عاد وي وي إلى بلاده حين اشتد المرض على أبيه، سنة 1993، وشارك وقتذاك في تأسيس قرية للفن التجريبي شمال شرق العاصمة بكين، وقام ببناء إستوديو، وهو أول مشروع معماري له. لكن الحياة لم تطب له، إذ ألقي القبض عليه في سنة 2011 بتهمة التهرب الضريبي، وسُجن ثلاثة أشهر، قبل أن يُطلق سراحه، وصادرت السلطات الصينية جواز سفره، ورفضت منحه أي أوراق أخرى خاصة بالسفر، ومن ثم أعيد له جواز سفره في سنة 2015، ويتذكر السويديون هنا كيف بقي كرسي وي وي فارغاً في مهرجان ستوكهولم السينمائي عندما عُيّن من بعيد رئيساً للجنة التحكيم في ذلك العام الذي غادر فيه الصين إلى الأبد.
بعد محنة كورونا التي أثرت على نجوميته، انتقل وي وي للعيش في البرتغال، وقال إنه سيبقى فيها دائماً، ما لم يحدث شيء. في الواقع إنه لم يقل أي شيء عما يمكن أن يحدث، فالرجل مدلل، ولديه مقعد في كامبردج، وقاعدة تقنية لأعماله الفنية الضخمة في برلين، بالرغم من نقده العلني لتزمتها كعاصمة غير منفتحة على الفن الحديث، وابنه يدرس في الجامعة، ويكفيه أن يشير باصبعه فتنقل السفن الضخمة أعماله من مكان إلى مكان، ومن بينالي إلى بينالي، والسويديون الذين كانوا يمنّون أنفسهم بلقائه في ملتقى أيار/مايو الفائت، خيَّب ظنهم، ولم يأتِ، لكثرة مواعيده وانشغالاته وارتباطاته.
الفنان الصيني غرَّد متعاطفاً مع غزة، وغمز من بوابة واحدة مفتوحة للكل، لكن لا أحد في هذا العالم يريد أن يدخل منها، فقامت الدنيا ولم تقعد، واتُّهم الرجل بمعاداته للسامية، وألغيت كل معارضه في العواصم الغربية
ولكن ما الذي حدث بالفعل مع وي وي، بعد أن أشار أكثر من مرة إلى أنه يمكن أن يحدث شيء ما؟ الذي حدث هو أن الفنان الصيني غرَّد على X (تويتر سابقاً) متعاطفاً مع غزة، وغمز من بوابة واحدة مفتوحة للكل، لكن لا أحد في هذا العالم يريد أن يدخل منها، فقامت الدنيا ولم تقعد، واتُّهم الرجل بمعاداته للسامية، وألغيت كل معارضه في العواصم الغربية، ولم يعد ذلك الفنان المدلل الذي يشير لسلطات بلاده القمعية المتسلطة باصبعه الوسطى، فيتحرك العالم أمامه ويستمع إلى شكواه ونقدياته.
حاول وي وي أن يتدارك وحشةَ التغريدة المباحة بحذفها بعد أن طالته الاتهامات بما لم يكن يفكر فيه. أراد أن يشعر مثل كل البشر الآخرين الذين تضررت أرواحهم من حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل على الشعب الفلسطيني منذ عقود، لكن العالم الذي انتظره على طول الساحل الغربي في ذلك اليوم الطويل (الماطر) من أيار/مايو الماضي، لم يعد هو نفسه بعد تغريدته. لا نعرف ما الذي سيحل بـ"سحلياته" العملاقة التي تغرق في صدأ الأزمنة، وهي في طريقها إلى الانقراض، لكن كثراً ممن كانوا متحمسين لتجاربه الفنية الطليعية، لم يعودوا كذلك.
ولا أحد يعرف ما إذا كان وي وي سيخسر امتيازاته كلها دفعةً واحدةً، أم أنها مجرد عقاب عابر، فالرجل لن يتوقف عن المجاهرة بعدائه للسلطات الشيوعية في بلاده، وهو قد دفع عقدين من عمره في معسكر للعمل الإجباري برفقة عائلته، لكن شيئاً كبيراً لم يحدث، فالمعسكر قد توسع وأصبح بمثابة ملحفة كونية وإياك أن تغرد، ولو بسطرين عابرين، فأنت تفل الخيوط، وسوف يبدأ البعض من أصحاب الاصبع الوسطى بعمل "كبكوبة خيطان" لا أحد يعرف إلى أين تتجه!
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...