غياب التماثيل التي تُجسّد شخصيات عامة أو رمزية يبرز كظاهرة لافتة في السودان، تعكس تداخلاً معقداً بين العوامل الاجتماعية والدينية، وسياسات حكومية غير مُعلنة تتسم غالباً بالتجاهل أو التساهل.
تمثال الجندي العائد
على الرغم من عدم وجود قانون يجرّم نحت التماثيل أو إقامة المنحوتات في الفضاء العام، لا بل ثمّة نصوص قانونية واضحة تُعنى بحماية الآثار والأعمال التاريخية، إلا أنّ الممارسات على الأرض تشير إلى واقع مختلف: تغضّ السلطات الحكومية الطرف عن عمليات تحطيم التماثيل أو الاعتداء على المجسّمات الفنية متى ظهرت، مدفوعة بحساسية اجتماعية وخطاب ديني رافض لتجسيد الأشخاص، مما يجعل المشهد الثقافي الحضري في البلاد خالياً تقريباً من أي حضور للنحت التشكيلي أو الرمزي.
القضية أُثيرت أخيراً عقب نصب تمثال على شارع النيل بمدينة أم درمان، إحدى المدن التي تشكل العاصمة السودانية.
تغضّ السلطات الحكومية الطرف عن عمليات تحطيم التماثيل أو الاعتداء على المجسّمات الفنية متى ظهرت، مدفوعة بحساسية اجتماعية وخطاب ديني رافض لتجسيد الأشخاص
يُجسد التمثال جندياً يعانق أحد أفراد أسرته، أو كما أطلق عليه البعض "تمثال الجندي العائد"، لكن بعد ليلة واحدة تمت إزالة التمثال إثر إنتقادات عديدة على وسائل التواصل الإجتماعي رأى بعضها أن التمثال يرمز لقائد الجيش السوداني عبدالفتاح البرهان، وهو الأمر الذي لم تعلّق عليه السلطات الحكومية.
حوادث مشابهة
الأمر لم يتوقف عند ذلك، بل أعيدت للذاكرة حوادث مشابهة حينما تم تحطيم تمثال "الشهيد عبد العظيم" بأم درمان، وهو أحد ضحايا عنف الأجهزة الأمنية حيال الاحتجاجات التي أدت للإطاحة بالرئيس السابق عمر البشير في 2019.
ففي أواخر العام 2019، قرّر رفاق عبد العظيم نحت تمثال يجسد شخصيته، ونُصب التمثال بالقرب من الموقع الذي تعرض فيه لإطلاق الرصاص، وذلك بمشاركة وزيرة الشباب والرياضة حينها، ولم تمض ساعات حتى عمل متطرفون دينيون على تحريض جزء من سكان المنطقة، ليتم بعدها تحطيم جزء من التمثال ومن ثم إزالته بواسطة صانعوه.
أيضاً في أواخر العام 2021 نصبت مجموعة من قوى الثورة في مدينة الاُبيّض غربي البلاد، تمثالاً لطالب يحمل حقيبة مدرسية، وذلك لتخليد ذكرى مجموعة من طلاب المدارس، أطلقت عليهم قوات الدعم السريع النار على خلفية خروجهم في تظاهرة احتجاجية وأصبحت تلك الحادثة تُعرف بـ "مجزرة الاُبيّض".
لكن مجهولين تسللّوا في وقت متأخر من الليل وحطموا جزءًا من التمثال، ليتم ترميم الجزء المحطم وتشديد الرقابة على التمثال، إلا أن الأشخاص المجهولين عينهم عادوا بعد ضعف الرقابة وحطموه مرة أخرى.
هذه الحوادث تمثل جزءاً يسيراً من تاريخ طويل مرتبط بتحطيم التماثيل التي تجسد الشخصيات في السودان، ربما تفاقمت تلك الحوادث مع وصول الحكومة الإسلامية بقيادة الجنرال عمر البشير للسلطة في العام 1989، لكن هنالك أيضاً حوادث سابقة لهذا التاريخ.
جدل الفقهاء حول تحريم التماثيل
"الرأي التقليدي أن جمهور الفقهاء من المذاهب الأربعة يميلون إلى تحريم التماثيل المجسمة للإنسان والحيوان استناداً إلى أحاديث نبوية تنهي عن التصوير والنحت خشية أن تُتخذ أصناماً"، هذا هو رد وزير الشؤون الدينية والأوقاف السابق، نصر الدين مفّرح، على سؤال عن الموقف الفقهي من التماثيل التي تُجسد الشخصيات الحقيقية أو الرمزية.
ويضيف لرصيف22: "علماء معاصرون وفقهاء يفرّقون بين التماثيل التي تُعبد وتُقدس وبين من تستخدم للتعليم أو تحف فنية ورمزية إذا كانت الغاية تكريم شخصية وطنية أو رمزية تكريمية لشخص".
ويوضّح مفّرح أن رفض التماثيل في السودان له أبعاد متعددة، إذ إن كثيراً من السودانيين ينظرون إلى التماثيل باعتبارها أصناماً أو مظاهر شرك خاصة في الأحياء الشعبية ذات الحس الديني القوي، وأن هذا ما حدث عند نصب تمثال شهيد الثورة عبدالعظيم أبوبكر؛ حيث رفض بعض الأهالي التمثال وعدّوه شركاً.
التحليل والتحريم
يرى الفنان التشكيلي بحر الدين آدم، أن فن النحت من الفنون البصرية التي تُطرح عليها أسئلة التحليل والتحريم في السودان، وأن هذا الأمر مقصود؛ وقد حدث في أوروبا قبل 500 أو 600 عام، مثلما يحدث في السودان حالياً.
وبحسب آدم، فإن السبب في ذلك يعود للسلطة الدينيّة التي لا تقبل النقاش أو النقد وذلك لأنها مبنية على المسلّمات الدينيّة، وحتى في المسلمات تميل لتأويل نصوص كانت من اجتهاد العلماء وليست مستمدّة من القرآن.
ويضيف لرصيف22: "استفادت من ذلك السلطات الدينيّة الشمولية التي تريد السيطرة على تفكير الناس وطريقة حياتهم، وكان لا بدّ لها أن تعادي الفن لأنه النشاط البشري الوحيد الذي يدعو الإنسان للتفكير ورفض كل أنواع المسلّمات سواء كانت دينيّة أو فكرية، وهنا يأتي العداء المُطلق من السلطات الشمولية سواء كانت علمانية أو إلحادية فهي في الأصل لديها عداء مع الفنون لا سيما السلطة الدينيّة الشمولية التي تستمد سلطتها من المُعتقدين وهنا نجد الخدعة".
ويُشير آدم إلى أن جزءاً كبيراً من رجال الدين على قناعة بأن الفن يُسيطر على الإنسان: "حتى يسيطروا على الإنسان بدورهم؛ لا بد أن يحاربوا الفن أو يتم توجيهه بالطريقة التي تخدم أغراضهم التحكميّة".
القانون لم يُجرّم نحت التماثيل
في سياق آخر، يؤكد المحامي عثمان صالح، وهو رئيس هيئة الاتهام عن الحق الخاص في قضية "مجزرة الاُبيّض"، بأنه لا يوجد قانون أو تشريع في السودان يُجرّم أو يمنع نحت التماثيل سواء كانت لشخصيات عامة أو رمزية، بل يوجد قانون "حماية الآثار" لعام 1999 الذي يتحدث عن حماية الآثار، وهي الأعمال التاريخية الموجودة لفترة زمنية طويلة، حيث هناك قانون يحميها ويمنع التصرف فيها باعتبارها ملكية عامة للدولة.
ويضيف صالح لرصيف22: "الآثار التاريخية تشمل التماثيل والرسومات ومنحوتات الشخصيات التاريخية والشخصيات الحقيقية، فالقانون يحمي هذه الآثار ويمنع التصرف فيها باعتبارها ملكية دولة، فالقانون لم يمنع النحت للشخصيات العامة أو الشخصيات الرمزية وإنما يحميها".
وتعليقاً على حوادث تحطيم التماثيل التي شهدها السودان، يرى صالح أن السودان شهد حالات عديدة، وكانت الدولة هي من تهدم في ظل حكومة عمر البشير، وكان هناك توجّه لهدم كل التماثيل والنحت الخاص بالأشخاص الحقيقيين والرموز التاريخية.
ويواصل: "الدولة هي التي كانت تعتدي على هذه الأعمال الفنية، وهناك تيار كبير من الإسلاميين يعترض على وجود نحت للشخصيات أو الرموز من منطلقات دينيّة، ويعتبر أن هذا منافٍ للدين، والدولة هي التي تشجع مثل هذه الآراء والتوجّهات الدينيّة؛ وفي غالب الأوقات تكون متواطئة مع ذلك، وإن لم تكن مشاركة بصورة مباشرة إلا أنها تغض الطرف عن أفعال هذا التيار".
ويُشير صالح إلى أن ذلك حدث حتى خلال الفترة الانتقالية التي أعقبت سقوط نظام عمر البشير، حيث قامت بعض الجهات بهدم تماثيل والدولة لم تتخذ موقفاً واضحاً حيال ذلك.
حوادث متكرّرة ضد الرموز التاريخية
هناك حوادث عدة شبيهة تكرّرت خلال العقود الماضية، حيث شهدت مدينة بورتسودان مطلع تسعينيات القرن الماضي، الاعتداء على تمثال الأمير عثمان دقنة – أحد قادة الثورة المهدية 1885 – 1899، بواسطة مجهولين وتشير أصابع الاتهام إلى أنهم من المتشددين الاسلاميين، ونفس الاعتداء تمّ لتمثال المهاتما غاندي الذي كان منتصباً بدوّار شارع المهاتما غاندي بوسط أم درمان، والذي كان قد شُيّد على نفقة الجالية الهندية بالبلاد.
كما تمت محاولة للاعتداء على تمثال الشيخ بابكر بدري، رائد تعليم المرأة في السودان، والذي كان موجوداً على واجهة مدرسة الأحفاد المطلة على دار حزب الأمة بأم درمان.
كذلك شهدت بعض الجداريات التجارية اعتداءات وتشويهات متعمدة، كما يحدث بين الفينة والأخرى لجدارية أحد الاعلانات التجارية والموجودة على ظهر الحائط الشمالي للمدرسة الأهلية بأم درمان والمطل على منزل زعيم الاستقلال من الاستعمار البريطاني إسماعيل الأزهري.
"الحكم العسكري مصيره الى زوال، ويبقى الفن"
يشير الروائي السوداني حمّور زيادة، إلى أنه ورغم الموقف السياسي والحقوقي من حكم الجيش وحكم البرهان، إلا أنه سعيد فنياً بنشر ثقافة فن التماثيل.
ويقول في منشور على منصة فيسبوك: "نتذكر أن محاولة مماثلة حدثت بعد الثورة (تمثال الشهيد عبدالعظيم) ولقيت اعتراضاً دينياً وسياسياً".
ويضيف: "قبل حكم الكيزان – حكومة الحركة الإسلامية بقيادة عمر البشير - لم يكن الناس يرفضون التماثيل الفنية؛ كنت طفلاً عندما وضعت الجالية الهندية تمثالاً نصفياً للمهاتما غاندي في مدخل شارع الدكاترة، ثم لما جاء الكيزان المهاويس أزالوه ومعه تمثال بابكر بدري وغيرهما".
ويعبّر زيادة عن سعادته بعودة فن النحت للشوارع؛ حتى لو كان على يد العسكر. قائلاً: "الحكم العسكري مصيره الى زوال، ويبقى الفن".
بدوره، يرى وزير الشؤون الدينية والأوقاف السابق، نصر الدين مفّرح، أن التماثيل في السودان كثيراً ما ترتبط بالسلطة أو الرموز الثورية، وأن المجتمع السوداني متأثر بالثقافة الإسلامية الشعبية حيث ينظر إلى التماثيل باعتبارها غريبة عن التقاليد المحلية؛ لذلك حتى لو كانت وطنية فلا تلقى القبول .
ويقول مفرّح: "في السودان الرفض ليس دينياً بحتاً بل هو خليط من التحفظ الديني والغرض السياسي والرفض الاجتماعي الذي يرى التماثيل دخيلة على الثقافة السودانية، مع أن التراث السوداني مليء بالتماثيل من قبل 7 آلاف عام قبل الميلاد تُجسّد عظماء الملوك والحكام الذين سطروا مجداً في هذا البلد".
ويعتقد الوزير السابق أن مشروع التماثيل في السودان يحتاج إلى حوار ديني اجتماعي يوضّح الغاية منها ويضمن عدم المساس بالحساسية الدينية، فيما نفى علمه بما حدث لتمثال الشهيد عبد العظيم خلال فترة وجوده على رأس الوزارة: "علمت به مؤخراً، ولم يتثنَّ لي معرفة ذلك في حينه".
تطرّف ديني وارتداد فكري
المحامي عثمان صالح، يعزو تلك الحوادث إلى تطرف ديني وليس إلى تطرف اجتماعي، ويعتقد أن المجتمع السوداني واعٍ جداً ولديه من الوعي والإدراك ما يجعله يرفض الاعتداء على مثل هذه الأعمال الفنّية.
وبالنسبة إلى ما حدث لتمثال "مجزرة الاُبيّض"، يقول: "تم تصميمه بعد صدور الحكم وإدانة المتهمين من قوات الدعم السريع، حيث فكر بعض الشباب في تخليد الذكرى بعمل تمثال لطالب يحمل حقيبة مدرسية على ظهره ويرفع يده في شكل علامة النصر، وقد كان معبّراً عن الحدث وتمّ حشد كبير من المواطنيين حيث كانوا مؤيدين تماماً لوجوده".
ويؤكد صالح، بأنه على المستوى الاجتماعي في مدينة الاُبيّض لم يكن هناك اعتراض على التمثال، وحتى من عملوا على تحطيمه لم يأتوا نهاراً حتى يتمكن الناس من معرفة هويتهم؛ وإنما جاؤوا خلال الليل أو الصباح الباكر وارتكبوا جريمتهم بالاعتداء على التمثال أو التحفة الفنية وهربوا.
ويضيف: "تم ترميمه مرة أخرى، وتم تشكيل حراسات لمعرفة هويتهم وهم علموا أن هناك رقابة لم يأتوا، بعد ذلك تراجعت الرقابة لأنه لا يمكن أن تستمر طوال الوقت، ليعودوا مرة أخرى ويحطموا التمثال".
من ناحيته، يعتقد التشكيلي بحر الدين آدم، أن موضوع تحطيم التماثيل في السودان قديم جداً، يعود لما بعد الاستقلال وأن هناك مشكلات بدأت في الظهور عقب سيطرة الإسلاميين على السلطة في السودان، وأول نشاط لهم في هذا الصدّد هو تحطيم تمثال "الجندي المجهول" الذي يعد، بحسب رأيه، من أهم التماثيل التي ورثتها البلاد من المستعمر.
ويوضح: "هنا كلمة مستعمر بين قوسين، فقط نحن نتعامل معها على أساس أن العمل الفني كان عملاً عظيماً ومن أجمل التماثيل التي تركها الإنجليز، والغريب في الأمر أنهم كانوا قد طالبوا بترحيل التمثال إلى بريطانيا ونحن من رفضنا ثم بعد ذلك حطمناه".
ويشير آدم إلى أن هناك أمثلة كثيرة جداً، منها تماثيل كانت موجودة في كلية الفنون الجميلة قبل دخولهم إلى الكلية في بداية التسعينات، جاء طالب "مهووس" كان طالباً بالكلية عينها وحطّم تماثيل عديدة كانت موجودة في الكلية كإرث للطلاب المتخرجين، وقد حطمها بكل بساطة لأنه كان قد حدث له ارتداد فكري.
تقاعس وتواطؤ
رغم وجود قانون يحمي الآثار والأعمال التاريخية في السودان، إلا أن هناك حالة لافتة من التراخي الرسمي تجاه حوادث تحطيم التماثيل والاعتداء على المجسّمات الفنيّة، إذ نادراً ما تتخذ السلطات إجراءات قانونية صارمة بحق المتورطين.
هذا التقاعس جعل من الاعتداء على التماثيل فعلاً بلا تبعات تُذكر وأسهم في ترسيخ مناخ يسمح بتكرار هذه الممارسات، الأمر الذي يطرح تساؤلات حول التزام الدولة بحماية الرموز الثقافية والحفاظ على الذاكرة الوطنية واتجاه الأطراف المتضرّرين للجوء إلى القانون.
يوضح المحامي عثمان صالح إنه لم يكن جزءاً من أي إجراءات تم اتخاذها في مواجهة الأشخاص مجهولي الهوية الذين حطّموا تمثال الطالب في مدينة الاُبيّض، وأنه لا أحد يستطيع تحديد هويتهم، ما عدا بعض الاستنتاجات.
ويضيف: "لا أذكر أن هناك من اتخذ إجراءات في هذه الواقعة، لكن من ناحية قانونية الواقعة تستوجب تدوين بلاغ حتى ولو ضد مجهول باعتباره قد ارتكب جريمة في تحفة فنية لا يمتكلها بالاعتداء عليها؛ ومتى ما ظهر هذا الشخص أو أعلن عن نفسه أو توصلت له التحقيقيات يمكن أن يُقبض عليه ويقدّم للمحاكمة".
"في السودان الرفض ليس دينياً بحتاً بل هو خليط من التحفظ الديني والغرض السياسي والرفض الاجتماعي الذي يرى التماثيل دخيلة على الثقافة السودانية، مع أن التراث السوداني مليء بالتماثيل"
وبحسب صالح، هذه واحدة من الخطوات المهمة التي يجب اتخاذها، حيث ينبغي تدوين بلاغ وتأكيد الواقعة إلى أن يتم التوصل للفاعل الحقيقي.
هذا ويؤكد بحر الدين آدم أن ما يحدث الآن في السودان سياسياً هو أمر معقد جداً، لكون السلطة تريد إعادة الناس إلى الأيام الأولى للإنقاذ، وهو الاسم الذي أطلقه الإسلاميون على انقلابهم العسكري، كثورة ضد الفن والفكر وكل ما هو مختلف، معتبراً أنه تم استغلال الحرب القائمة للتأسيس لعهد جديد مما أدى إلى ظهور مثل هذه الأحداث.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



