يحدث أن يُبشّر أحد المسؤولين المغاربة في مناسبة ما، بقرب إقامة نصب تذكاري لشخصية تاريخية وطنية في مكان على مستوى المملكة، لكن سرعان ما يتبين أن الأمر لم يكن سوى كلام عابر في لحظة انتشاء تواصلي سرعان ما تذروها الرياح، على غرار كلام المندوب السامي لقدماء المقاومين وجيش التحرير (مؤسسة رسمية)، مصطفى لكثيري، خلال لقاء مفتوح قبل خمس سنوات.
حينها، أعلن المسؤول عن الملفات الخاصة بالمقاومة وتاريخها، عن قرب تشييد نصب تذكاري للمجاهد المغربي محمد بن عبد الكريم الخطابي، قائلاً: إن "المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير، بدأت بالتنسيق مع عائلة محمد بن عبد الكريم الخطابي من أجل تشييد نصب تذكاري له في مسقط رأسه في أجدير".
هذه البلدة الواقعة بالقرب من مدينة الحسيمة في منطقة الريف شمال المغرب، كانت مسقط رأس زعيم حرب الريف ضد الإسبان، محمد بن عبد الكريم الخطابي، وقد اتُخذت أيضاً مقراً للقيادة التاريخية للمقاومة الريفية، إذ استطاع الخطابي، أو "مولاي موحَند" بالنطق المحلي، أن يقود من هناك حركة مقاومة هزمت الإسبان في معارك عدة، خصوصاً في معركة أنوال الشهيرة في 21 تموز/ يوليو 1921.
حصار رسمي للذاكرة
إلى يومنا هذا، لم يتحقق شيء مما وعد به المندوب السامي للمقاومة وجيش التحرير في لحظة ارتباك من تاريخ محاصر، خصوصاً أن إعلانه تزامن حينئذ مع "حراك الريف"، وكان النصب التذكاري لمحمد بن عبد الكريم الخطابي، المدفون إلى يومنا هذا في مصر حيث نُفي، مطلباً ملحاً لأبناء منطقة الريف منذ سنوات، في إطار المصالحة ورد الاعتبار لتاريخ المنطقة وذاكرتها.
يرى المؤرخ المتخصص في تاريخ الريف، ميمون أزيزا، أن "عبد الكريم زعيم وطني كبير، ورمز من رموز النضال الوطني ضد الاستعمار، لكن شخصيته طالها التهميش، وفُرض عليها الحصار لمدة طويلة من طرف الجهات الرسمية، إذ يحاول المجتمع المدني بإمكاناته المحدودة الحد من هذا الحصار، والتخفيف من التوتر الذي يميز إلى حد الآن علاقات الجهات الرسمية بسيرة الخطابي".
بدو أن هناك توجهاً عاماً في المغرب يتحفّظ على إحداث نُصب تذكارية، تتضمن منحوتات لشخصيات تُعدّ رموزاً وطنيةً وتاريخيةً للمملكة، في كبريات الساحات
لهذا، كانت هناك دعوات في أكثر من مناسبة، إلى "الانفتاح على عائلة محمد بن عبد الكريم الخطابي، بقصد تحويل مقر القيادة التاريخية للمقاومة الريفية في أجدير، إلى مركب ثقافي متعدد الخدمات، يتضمن متحف الخطابي (...)، مع مطالبة السلطات المحلية بوضع نصب تذكارية للتعريف بهذه المآثر التاريخية، لكنها تنتهج سياسة الآذان الصماء"، يورد أزيزا في حديثه إلى رصيف22.
تابع مُؤَلِّف كتاب "الريف زمن الحماية الإسبانية"، قائلاً: "إلى حد الآن لم يجرؤ أحد على المطالبة بتشييد منحوتة للزعيم الخطابي، على شاكلة تمثال الزعيم عبد القادر الجزائري الموجود في قلب الجزائر العاصمة، أو تمثال الحبيب بورقيبة في تونس".
تماثيل بين الجدران
إذا كان الأمر "صعباً" مع الخطابي، بالنظر إلى حساسية هذا الاسم في المغرب سياسياً، إلا أنه يبدو أن هناك توجهاً عاماً في المغرب يتحفّظ على إحداث نُصب تذكارية، تتضمن منحوتات لشخصيات تُعدّ رموزاً وطنيةً وتاريخيةً للمملكة، في كبريات الساحات في عدد من المدن الكبرى، وهو ما فسره أزيزا بكون الأمور "ربما تعود لأسباب دينية، إذ يسود الاعتقاد بأن هذه المنحوتات مخالفة لتعاليم الإسلام"، خاصةً أن عقيدة المغرب مالكية تحرّم "التماثيل".
لكن كيف نفسر عدم الاعتراض على وجود بعض المنحوتات في الفضاءات العامة، مثل التماثيل النصفية البرونزية لجوبا الثاني وكاتون وتمثال الشاب المتوّج، المعروضة في متحف التاريخ والحضارات في العاصمة الرباط؟. بل أكثر من ذلك وجود تمثال "محارب الماساي" أمام مدخل متحف الفن الحديث في الرباط، وهو تمثال ضخم يصل ارتفاعه إلى أكثر من ثلاثة أمتار أنجزه النحات السنغالي عثمان سو الذي توفي عام 2016؟
فتوى لتمثال ابن بطوطة
بالعودة إلى كلام المسؤولين المغاربة ووعودهم في هذا المجال، لسبب أو لآخر، قبل خمس سنوات من الآن، وفي فترة تحمّله مسؤولية عمدة مدينة طنجة شمال المغرب، كشف محمد البشير العبدلاوي، في ندوة حول تراث المدينة، أنه راسل المجلس العلمي المحلي (هيئة علمية دينية رسمية)، للحصول على فتوى حول نصب "تمثالين" في المدينة لكل من الرحالة الطنجي ابن بطوطة، وللشخصية الإغريقية هرقل الذي توجد مغارة تحمل اسمه تطلّ على البوغاز.
أثار هذا الإعلان ساعتئذ المشتغلين بتراث المدينة، إذ تساءل بعض المتخصّصين حول سبب لجوء العمدة إلى استصدار فتوى شرعية، بالرغم من أنه رئيس جماعة، أي أنه يُعدّ رئيساً للشرطة الإدارية في المنطقة، ما يمنحه صلاحيات واختصاصات واضحة في هذا الشأن لتزيين المدينة وفضاءاتها كيفما شاء، باستثناء طبعاً الأمور التي تدخل صراحةً في خانة السياسة العامة للبلاد؟
في تبريره لخطوته المثيرة، رأى عمدة طنجة السابق، في تصريحات للصحافة، أن "تخصيص تمثال لواحد من رجالات المدينة يُعدّ قضيةً ترتبط بالرأي العام وتثير نقاشاً كبيراً، لأن المغرب لا يوجد فيه أي تمثال لرمز من الرموز"!
جاسوس بني مكادة
الواضح أن العمدة السابق للمدينة التي كانت دوليةً، لم يكن على دراية كافية بتاريخ مدينته التي كانت تحتضن إحدى ساحاتها تمثالاً لرمز غير وطني. يحكي الناقد والروائي، شعيب حليفي، أنه "في يوم من أيام سنة 1943، والعالم يحترق بنيران حرب كونية لا أحد يعرف نهايتها (...)، اختار فرع البنك العقاري التجاري-الإسباني في طنجة، ساحة بني مكادة في طنجة لوضع تمثال حجري كبير لرجل ملتحٍ بلباس شرقي. (...) كُتب لتعريفه بحروف لاتينية: علي باي العباسي".
في ما بعد، تبيّن أن "علي باي العباسي"، لم يكن سوى الجاسوس المغامر الإسباني "ضومينكو باديّا"، الذي حل في المغرب بنوايا استعمارية في بداية القرن الـ19 متنكراً في شخصية عربية. و"خلال حرب الخليج الثانية (17 كانون الثاني/ يناير-28 شباط/ فبراير 1991)، اختفى تمثال علي باي أو ضومينكو باديّا"، كما يؤكد حليفي لرصيف22.
"التماثيل أو النصب غير مسموح بها لأسباب دينية بالتأكيد، ولعل الجواب يكون عند وزارتي الأوقاف والشؤون الإسلامية والداخلية، حتى لا تصبح كل الساحات مرتعاً لها"
يذكر حليفي، أنه في ذلك السياق، أشار "عبد العزيز بن الصديق، وهو أحد العلماء المشهورين، إلى التمثال، مستغرباً كيف يوجد بين المسلمين تمثال لجاسوس إسباني. فشاع الخبر متزامناً مع خروج ساكنة طنجة، وعلى رأسها حي بني مكادة، في مسيرة احتجاجية تضامنية مع الشعب العراقي، فصبّ المتظاهرون جام غضبهم على تمثال علي باي، فهدموا أجزاء كبيرةً منه من جهة الرأس رشقاً بالحجارة، فسارعت السلطات المحلية ليلاً إلى حمل ما تبقّى من ملامح ضومينكو باديّا، إلى مكان مجهول".
لهذا، انتهى حليفي إلى أن "التماثيل أو النصب غير مسموح بها لأسباب دينية بالتأكيد، ولعل الجواب يكون عند وزارتي الأوقاف والشؤون الإسلامية والداخلية، حتى لا تصبح كل الساحات مرتعاً لها".
تحريم صريح للتماثيل
بالعودة إلى التاريخ المغربي الحديث، تحديداً مع الحكومة السادسة التي ترأسها العاهل المغربي الراحل الملك الحسن الثاني عام 1961، مباشرةً بعد وفاة والده الملك محمد الخامس، طُرحت مسألة نصب التماثيل للرموز الوطنية، وقوبلت بالإيجاب متبوعة بقرار مباراة عالمية من أجل نحت تمثال لمحمد الخامس، يقام في حواضر المغرب الكبرى اعترافاً بدوره الرائد في "ثورة الملك والشعب" (نضال المطالبة بالاستقلال).
لم يعارض الجالس على العرش حينذاك القرار الحكومي الذي كان سيجد طريقه إلى التنفيذ ويصبح عملاً جمالياً متّبعاً، لو لم يبادر الفقهاء في رابطتهم في طنجة إلى مناوأته والإفتاء بتحريم التماثيل شرعاً بنسبة غالبية توقيعاتهم، ما جعل ملك البلاد يقبل الفتوى ويطاوعها. ثم بعدها سنة 1975، طلب من جديد مستشار الملك، أحمد رضا كديرة، من الملك إعطاء تعليمات إلى السلطة لكي تُقام تماثيل له فرفض من جديد.
غياب إرادة سياسية
يعتقد الباحث في الجماليات والمتخصص في الفنون البصرية المغربية، محمد الشرقاوي، أن استمرار "غياب التماثيل في الأماكن العامة لشخصيات مغربية ليس دينياً فقط"، مستدلاً بوجود سابق "لتمثال المقيم العام هوبير ليوطي في الدار البيضاء وتمثال الجاسوس الإسباني ضومينغو باديّا في طنجة، من دون أن تصدر فتاوى دينية بتحطيمهما مع خروج المستعمر وتحرير البلاد، بالرغم مما يحملانه من استفزاز صريح لمشاعر المغاربة".
في تصريحه لرصيف22، يقول الشرقاوي: "تمثال المارشال ليوطي بملابسه العسكرية، هو الآن داخل أسوار القنصلية الفرنسية ليس بسبب فتوى دينية، بل نتيجة سياق سياسي يعرفه الجميع، الشيء نفسه بالنسبة إلى التمثال الذي يجسد الجاسوس الإسباني بملابسه العربية، فقد خُرّب في خضم الاحتجاجات على غزو العراق التي شهدها المغرب في تلك الفترة".
"تمثال المارشال ليوطي بملابسه العسكرية، هو الآن داخل أسوار القنصلية الفرنسية ليس بسبب فتوى دينية، بل نتيجة سياق سياسي يعرفه الجميع"
يسجل المتحدث ذاته، أن "منحوتات الرموز المغربية غائبة في المغرب، لأنه بكل بساطة لا توجد رغبة سياسية في إقامة نصب لهذه الشخصية أو تلك، زد على ذلك أنه تنقصنا ثقافة الاعتراف بالجميل والامتنان والتقدير"، مضيفاً أن "للتمثال المجسّم حمولةً رمزيةً عميقةً تحوّل الشخصية المجسّمة إلى أيقونة خالدة، وإلى قدوة ورمز؛ وتالياً يكون موقعها في الشارع العام معرّضاً في ذاته للتقييم وللمحاسبة، التي يمكن أن تظهر على شكل كتابات غرافيتي شاتمة أو تشويهات".
لكن، يردف: "لا شك أن للمنحوتات المنصوبة في الأماكن العامة دوراً أساسياً في تهذيب الذوق العام، وفي تنمية الحس الفني للمواطن، وفي دمقرطة الفن؛ إذ يصبح الاستمتاع به من حق الجميع، وليس فقط حكراً على الفئة المثقفة الميسورة، وبالطبع عندما تكون هذه المنحوتات تمثل شخصيات مغربيةً الشعب متفق على عظمتها وعلى وطنيتها، فإن ذلك لا يمكن إلا أن ينمّي ثقافة الاعتزاز والفخر بالانتماء"، يستدرك الشرقاوي.
صمت وتحفظ وتأمل
اللافت في الموضوع، أن الوزراء المسؤولين عن قطاع الثقافة والتراث في البلاد، لم يلمّحوا إطلاقاً، في أثناء تحمّل مسؤولياتهم، إلى أي مبادرة للنظر في إحداث التماثيل ونصبها في الفضاءات العمومية في المملكة، باستثناء وزير الثقافة الأسبق والروائي، بنسالم حميش، الذي أثار الموضوع في عام 2014، أي بعد سنتين تقريباً من انتهاء مهمته الوزارية، في رسالة مفتوحة إلى الفقهاء يدعوهم فيها إلى التفاعل الإيجابي مع دعوته إلى إقامة تماثيل ونصب منحوتة في فضاءات عمومية حتى يعمّ إمتاع الناس برمزيتها وفنية إبداعها، فتُسهم في ترقية ذائقتهم البصرية وحسّهم الجمالي.
"منحوتات الرموز المغربية غائبة في المغرب، لأنه بكل بساطة لا توجد رغبة سياسية في إقامة نصب لهذه الشخصية أو تلك، زد على ذلك أنه تنقصنا ثقافة الاعتراف بالجميل والامتنان والتقدير"
يقول مؤلف رواية "مجنون الحكم"، في رسالته تلك: "إلى هذا السعي كنت دعوت، وأنا وزير للثقافة، وذلك خلال كانون الأول/ ديسمبر 2010، بمناسبة ندوة للوكالات الحضرية، نظمتها وزارة السكنى والتعمير. وبالرغم من أن كلامي في الموضوع كان، لضيق الوقت، إشارةً وجيزةً، فإني قد وجدت بين زملاء نصحاء من نبهني إلى أن وجودي في موقع المسؤولية يقتضي مني التحفظ على إثارة شأن حساس، من صنف ما أثرت. ومع أني لم أقتنع بحجية التنبيه فقد لزمت الصمت، لكن من دون أن أحجم عن متابعة التأمل والبحث"! ولعلّ صمت الوزير هذا صمت الكثير من المثقفين والنخب الذين يخشون أن يتحول أي مشروع تمثال إلى "مشنقة" سياسية تقضي على مسيرتهم بسبب تحالف الفقهاء، ورغبة السلطة في "إخفاء" أي شخص يصبح رمزاً، خارج الدوائر الضيقة للسلطة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون