شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
ظاهرة التلاعب بالتاريخ وبالإرث الثقافي...لماذا يتم تحطيم وتشويه أنوف التماثيل المصرية؟

ظاهرة التلاعب بالتاريخ وبالإرث الثقافي...لماذا يتم تحطيم وتشويه أنوف التماثيل المصرية؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الثلاثاء 2 أبريل 201907:05 م

 "لماذا يتمّ كسر أنوف التماثيل؟" هذا السؤال هو من أكثر الأسئلة شيوعاً التي تلقّاها أمين متحف بروكلين "إدوارد بليبيرغ"، من الزوّار المهتمّين بالتعرّف أكثر على الحضارة المصريّة.

من المقابر العابقة بالتاريخ وصولاً إلى الأهرامات الضخمة، تشتهر الحضارة المصريّة بمنحوتاتها الرائعة والدقيقة، وفي حين أن التماثيل تصوّر أشخاصاً ينتمون إلى طبقاتٍ مختلفةٍ، إلا أنه هناك قاسم مشترك بين معظمها: أنوف مكسورة ومشوّهة.

فهل تحطّم أنوف التماثيل هو نتيجة حوادث عشوائيّة ناجمة عن الطبيعة أم أن عمليات التشويه متعمّدة؟

تآكل طبيعي أم ممارسات متعمّدة؟

يعتبر معرض Striking Power: Iconoclasm in Ancient Egypt (القوّة الضاربة: الأيقونات في مصر القديمة) الأوّل من نوعه لناحية الكشف عن الجوانب السياسيّة والدينيّة للمصنوعات المصريّة القديمة، وإبراز ثقافة الأيقونات الراسخة التي تسبّبت في تشويهها.

من خلال التركيز على ميراث بعض الفراعنة، مثل حتشبسوت وإخناتون، وحملات التدمير والتشويه التي تفاقمت في أواخر العصور القديمة، يقدّم المعرض مجموعة من التماثيل المتضرّرة، إلى جانب تماثيل أخرى سليمة، وذلك بهدف إظهار كيف أن التدمير المتعمّد للأشياء، مستمدٌّ من الإدراك الحسّي للصورة، والتي هي ليست عبارة عن وسيلةٍ لتصوير شيءٍ معيّنٍ، إنما يُنظر إليها كحاويةٍ للطاقة الروحيّة، وعليه يُثير المعرض في ذهن الزوّار مجموعةً من الأسئلة المتعلّقة بالملكيّة، الذاكرة والثقافة البصريّة.

ولكن هل عمليات تشويه التماثيل هذه تأتي عن سابق تصوّرٍ وتصميمٍ؟ ولماذا الأنوف هي المستهدفة بالتحديد؟

في السابق اعتقد بعض علماء الآثار أن التآكل الطبيعي لعب دوراً رئيسيّاً في تشويه المنحوتات والتماثيل المصريّة القديمة، نتيجة الرياح القويّة وتدفّق المياه وتغيّر التربة، وغيرها من العوامل التي قد تُحدث ضرراً كبيراً للأطراف في الجسم، مثل الذراعين، الساقين والأنوف، غير أنه من خلال الاستناد إلى الدوافع السياسيّة والدينيّة والشخصيّة والجنائيّة، يؤكّد "إدوارد بليبيرغ" أن أعمال التخريب متعمّدة ونُفِّذَت من أجل غرضٍ ما، خاصّة وأنه اعتبر أن كسر الأنف البارز لتمثالٍ ثلاثي الأبعاد هو أمرٌ مفهوم، ولكنه استغرب في المقابل تحطَّم أنوف النقوش المسطّحة أيضاً.

في الحقيقة، كان المصريّون القدماء يعتقدون أن التماثيل هي مسكن القوّة، إذ كانوا يعتبرون أنّ جوهر الإله يمكن أن يسكن في صورته، أما بالنسبة إلى البشر، فكانوا يؤمنون بأن جزءاً من روح الإنسان المتوفّى، يمكن أن تسكن تمثالاً منحوتاً لهذا الشخص بالذات.

من هنا اعتبر "بلييبرغ" أن حملات التخريب كانت تهدف إلى إبطال مفعول قوّة الصورة عند الحاجة، وهو رأي وافقت عليه "أديلا أوبنهايم"، أمينة في قسم الفنّ المصري في متحف متروبوليتان للفنون، بالقول: "إذا أردنا تعطيل قوّة معارضة، فإن أفضل طريقة للقيام بذلك هي قطع أنف التمثال".

وبالرغم من أن المصريين القدماء لم يفكّروا بأن التماثيل قادرة على النهوض والتنقّل، نظراً لكونها مصنوعة من الحجر والمعادن، مسلِّمين الجدل بأنها لا تتنفس وتستنشق الهواء عبر أنوفها، إلا أنهم اعتبروا أن مصدر قوّتها يأتي من أنفها، وبالتالي في حال أراد الخصوم القضاء على تلك القوّة، فإنهم كانوا يقومون بقطع أنف التمثال، لكي يتوقّف عن "التنفس" والعيش.

إذا أردنا تعطيل قوّة معارضة، فإن أفضل طريقة للقيام بذلك هي قطع أنف التمثال

تعطيل القوة

كانت المقابر والمعابد بمثابة مستودعاتٍ لمعظم التماثيل والنقوش التي صُنعت لأغراض ممارسة الطقوس الدينيّة، فقد كان من المعتاد إجراء عدّة مراسم دينيّة على التماثيل، بما في ذلك طقوس "فتح الفم"، حيث يتمّ مسحه بالزيوت من أجل إعادة إحياء التمثال وإعطائه القوة اللازمة.

واعتبر "بلييبرغ" أن الطقوس الدينيّة كانت كلّها مرتبطة بالاقتصاد القائم على تقديم القرابين للقوّة الخارقة، إذ كان الملوك يقدّمون القرابين للآلهة مقابل أن تعتني هذه الأخيرة بمصر، وعليه كانت التماثيل والنقوش بمثابة "نقطة التقاء بين القوّة الخارقة والعالم الحقيقي"، وتصبح مسكونة أو تتمّ إعادة إحيائها عندما تمارس الطقوس الدينيّة عليها، في حين أن تخريب الأيقونات أو الاستخفاف بالمعتقدات الدينيّة كلّها عوامل من شأنها أن تعطّل هذه القوة: "لا يعود بمقدور الجزء المتضرّر من الجسم أداء وظيفته" على حدّ قول "بلييبرغ"، فمن دون الأنف تتوقّف روح التمثال عن التنفس، وهكذا يكون الشخص المخرّب قد قتله بطريقةٍ فعّالةٍ، كما أن تحطيم أذني التمثال يجعله غير قادرٍ على سماع الصلوات.

وخلال الحقبة الفرعونيّة، كان هناك رهبة كامنة وراء المنحوتات والتماثيل المصريّة، حتى أن اللصوص الذين كانوا يبحثون عن سرقة الأشياء الثمينة، كانوا يشعرون بالقلق من أن يقوم الشخص المتوفّى بالانتقام منهم في حال تمّ تشويه ملامحه.

من دون الأنف تتوقّف روح التمثال عن التنفس، وهكذا يكون الشخص المخرّب قد قتله بطريقةٍ فعّالةٍ

أما الممارسة السائدة في تشويه صورة الإنسان والقلق المُتعلّق بالانتهاك والتدنيس، فتعود إلى بدايات التاريخ المصري، إذ أن الأضرار المتعمّدة التي اعرّضت لها المومياوات في فترة ما قبل التاريخ مثلاً، تعود إلى اعتقاد ثقافي بدائي مفاده، أنّ تخريب الصورة يضرّ بالشخص الذي تمثّله، الأمر الذي دفع الفراعنة إلى إصدار مراسيم تنصّ على فرض عقوبات بالغة على أي شخص يجرؤ على أذيّة التماثيل التي تجسّدهم.

هذا وقد قدّمت رموز الهيروغليفيّة تعليماتٍ للمحاربين الذين همّ على وشك الانخراط في المعركة: اصنعوا دميةً من الشمع للعدوّ، ومن ثمّ قوموا بتدميرها.

الدوافع السياسيّة والثقافيّة

حاول الشعب المصري القديم اتخاذ عدّة تدابير لحماية المنحوتات، سواء كان ذلك عن طريق وضع التماثيل في فتحةٍ داخل المقابر أو المعابد لحمايتها من ثلاثة جوانب، إلا أن هذه الطرق باءت بالفشل، خاصّة وأن الأشخاص الذين أقدموا على التلاعب بالتماثيل لم يكونوا مجرّد "مخربين" على حدّ تأكيد "بليبيرغ، إذ أن الدقّة في النحت بالإزميل تؤكد أنهم كانوا عمّالاً مهرة، ومدرّبين لهذا الغرض بالذات، (ففي العصر الفرعوني غالباً ما كان يُنقش فقط اسم المُستهدف من عملية التخريب، ما يعني أن الشخص الذي قام بأعمال التشويه يُجيد القراءة).

يؤكّد "ادوارد بليبيرغ" أن تحطيم الأيقونات على نطاقٍ واسع هو في الواقع أمرٌ دافعه سياسي في المقام الأول، خاصّة وأن تشويه التماثيل قد ساعد الحكّام الطموحين على إعادة كتابة التاريخ لصالحهم، ومن أبرز الأمثلة على ذلك هو الإقدام على محو إرث الملكة حتشبسوت والملكة نفرتيتي من الثقافة البصريّة، عن طريق القضاء على كافة الأعمال الرمزيّة والمحفورة المتعلّقة بهما.

وبالإضافة إلى العامل السياسي، لعب الشقّ الثقافي دوراً مهماً في كيفية النظر إلى هذه التماثيل وتطوّر فهمها مع مرور الوقت.

تشويه التماثيل قد ساعد الحكّام الطموحين على إعادة كتابة التاريخ لصالحهم

ففي الفترة المسيحّية المبكّرة في مصر، بين القرنين الأول والثاني الميلادي، كان المصريّون القدماء يخشون الآلهة التي تسكن التماثيل، باعتبارها أرواحاً شيطانيّة وثنيّة، وبالتالي من أجل القضاء على الوثنيّة، تعرّضت التماثيل التي تقدّم إليها القرابين للتشويه.

أما بعد الغزو الإسلامي في القرن السابع الميلادي، لاحظ الباحثون أن هؤلاء المصريين قد فقدوا أي شعورٍ بالخوف من هذه الطقوس القديمة، وأثناء هذه الفترة، تمّ قطع التماثيل الحجريّة على نحوٍ منتظم إلى مستطيلات واستخدامها كقوالب في مشاريع البناء.









رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image