تشتهر مدينة "شفشاون" المغربية، أو "الشاون" في التعبير الدراج المغربي، الواقعة في شمال المغرب، بطبيعتها الخلابة وبعمارتها الأندلسية العتيقة المكسوة باللون الأزرق، ما يجعلها محجّاً للزوار من كل حدب وصوب.
كما تشتهر أيضاً بولع أهلها "الشفشاونيين" بالتصوف بحيث لا يُذكر اسم 'الجوهرة الزرقاء" كما يلقّبها أهلها ومحبّوها إلا ويُذكَر معه فن "الحضرة الشفشاونية"، وهو فن غنائي نسائي صوفي يقوم على قصائد المتصوفة، التي تصدح بذكر الله تعالى، ومدح نبيّه محمد عليه الصلاة والسلام، ويُعدّ "فن الحضرة الشفشاونية" من أهم الموروثات الثقافية لـ"شفشاون"، دأبت نساء شفشاون على إحيائه من خلال الأفراح والمناسبات الدينية، من داخل بيوتهن العتيقة وتمريره وتلقينه للأجيال الصاعدة.
ذو جذور وأصول صوفية
يستمد فن "الحضرة" أصوله الروحية من فنون السماع الصوفي، وتعود بدايته في المغرب حسب العديد من الباحثين المتخصصين في فنون الموسيقى الصوفية والروحية إلى القرن السابع للهجرة، عندما استحدثت أسرة "العزفيين" التي كان رجالها من أعلام مدينة سبتة ورؤسائها عادة الاحتفال بالمولد النبوي.
فن "الحضرة الشفشاونية"، فن غنائي نسائي صوفي يقوم على قصائد المتصوفة، التي تصدح بذكر الله تعالى، ومدح نبيّه محمد عليه الصلاة والسلام
وقد ازدهر هذا الفن ازدهاراً كبيراً في عهد الدولة المرينية ثم الوطاسية فالسعدية وصولاً إلى الدولة العلوية الشريفة التي دأبت على إحياء عيد المولد النبوي، ليتّسع نطاق الاحتفال وينتقل في ما بعد إلى الأوساط الشعبية داخل الفضاءات العائلية والزوايا.
الزاوية البقالية مركز "الحضرة الشفشاونية"
يتوقف الكثير من المختصّين في تاريخ الفنون الصوفية في المغرب، عند الدور الذي اضطلعت به الزوايا التي انطلق منها الإنشاد الديني، حيث عرف المغرب أول "زاوية" (دار الكرامة)، في عهد الموحدين على يد المنصور الموحدي في مراكش، وبعدها توالت الزوايا فيه.
وتعرّف "الزاوية" حسب المتصوفين بأنها المكان الذي اتخذه الصوفية لتدريس طرقهم وإيواء تلاميذهم ومريديهم، وتتأسس على يد أحد شيوخ الصوفية والأخير يتخذ من المكان هذا مقراً له في حياته أو يحوّلها أتباعه بعد وفاته لتكون مركز الطريقة التي أنشأها هذا الشيخ.
وتنتمي الحضرة الشفشاونية باعتبارها فنّاً صوفياً إلى "الزاوية البقالية"، لمؤسسها الوالي الصالح سيدي علال الحاج البقالي، وهي موجودة في دوار الحرائق في إقليم شفشاون، وقد تأسست الزاوية في القرن العاشر الهجري/السادس العاشر الميلادي، حسب تصريحات إعلامية للفنانة أرحوم البقالي، رائدة فن الحضرة الشفشاونية وحفيدة شيخ الزاوية البقالية.
لعبت الزاوية "البقالية" إلى جانب زوايا أخرى في إقليم شفشاون، منها الزاوية "الريسونية"، على مدى قرون، دوراً مهماً في الحفاظ على موروث الحضرة الصوفية المغربية، إذ كانت تلتقي النساء "الشاون" فيها، من أعمار مختلفة، في ما بينهنّ بصفة أسبوعية للقيام بطقوس الحضرة بين صلاتي العصر والمغرب من كل يوم جمعة، وقد تشكلت أولى الفرق النسائية في الزوايا، وشرعت في تنشيط حفلات المولد النبوي الذي يمثّل أبرز مناسبة دينية لقيام فن الحضرة الشفشاونية.
"الحضرة الشفشاونية"... حضور القلب
ويُقصد بالحضرة عند الصوفية، جلسة الذّكر الجماعي الذي تقوم به الطرق الصوفية، بهيئة محددة وشروط وآداب مخصوصة، يقرؤون فيها الأذكار والأوراد والأحزاب الخاصة بالطريقة. ولو نظرنا إلى مدلول الكلمة "الحضرة"، فهي مشتقّة من الحضور وهو "قرب الشيء"، فالحضور شرط أساسي عند مجالس المتصوفة في سائر الطاعات والتقرب إلى الله والمقصود بالحضور هنا حضور القلب.
ويعرّف كتاب معلمة المغرب فن "الحضرة الشفشاونية"، بأنه تظاهرة احتفالية تحييها النساء اللواتي يطلَق عليهنّ اسم "الحضرات"، تشغل فترات مجتزأة من حصص إنشاد قصائد الذكر الذي يجري على أسلوب الحضرة. وترتبط الحضرة أساساً بالإيقاع، وذلك باعتبارها مناسبةً يجتمع فيها عدد من الآلات التي تحتضنها الأنماط الغنائية الشعبية، بالإضافة إلى تصفيق الأكفّ.
فيما تعرّفها لنا العازفة على آلة القانون في فرقة نساء شفشاون للموسيقى الروحية، وأستاذة آلة القانون في المعهد الوطني للموسيقى والفن الكوريغرافي، بسلا يسرى شهواد، على أنها نوع من أنواع الذكر والإنشاد والحضور القلبي الجماعي الذي ارتبط أساساً بنساء شفشاون اللواتي يقمن بها داخل بيوتهنّ في مناسبة المولد النبوي الشريف، ويتقرّبن ويتوسلن إلى الله ويمدحن ويصلّين على رسوله وتتشوق النفوس إلى زيارة مقام الحرام الشريف والمدينة المنورة وأولياء الله الصالحين.
"من حضر لحضرتنا يبرا يمشي بقلبه مطمئن يجي نحاس ويمشي نقرا"؛ هكذا تصف لنا الفنانة هالة بنسعيد، الحضرة الشفشاونية باعتبارها طب النفوس وعلاجاً وغذاءً للروح. ففي مجالس الذكر والسماع تناجي الروح والقلب وتزرع في نفوس المترددين عليها السكون والطمأنينة، ففي الحضرة يأتي العبد بقلب متعب وروح مرهقة وبضغوط نفسية، ويعود من الحضرة بقلب وروح نقيين جديدين صافيين شافيين طاهرين من الشوائب وأعباء الحياة وشقائها.
ومن قصائد "الحضرة الشفشاونية" الصوفية الشهيرة، نجد قصيدة "الرحيم الله":
اللهم صلِّ على النبي/صلّوا على الهادي
ما يشفع في هذا العباد/إلا محمد سيدي وهيا سيدي
إيه يا ودي ورحيم الله/ياودي ورحيم الله
وقصيدة "راني عوالة":
راني عوالة راني عوالة/ عوالة نمشي للنبي ما نحتاج عوين
أسيادي أحبابي حب النبي فيا/خلاني هبلة بلا عقل ودموعي مجرية
أسعدات من شاف النبي ويعاود صفاته/عيونو كحلة مهذبة والفلجة وتاتو
وقصيدة "يالاه نقيمو زيارة":
يالاه نقيمو زيارة مع رجال الله/يحضر فيها النبي سيدي رسول الله
يالاه نقيمو زيارة في وقت الزيتون/يحضر فيها سيدي محمد بن ريسون
يالاه نقيمو زيارة أنا باغا نزور/يحضر فيها الوالي مولاي علي شاقور
من الزوايا والبيوت الشفشاونية إلى المسارح
ظلت قصائد فن الحضرة الشفشاونية في مدينة شفشاون لمدة طويلة، ومنذ ظهورها، حبيسة شفشاون والبيوت والزوايا الصوفية، تقتصر فقط على مناسبة ذكرى المولد النبوي الشريف وتشكل مناسبةً لصلة الرحم وتجمّع النساء في ما بينهن في جلسات الذكر، لتهذيب النفوس والذوق، والتقرب إلى الله ومدح نبيه بابتهالات ارتجالية صوفية خالية من الآلات الإيقاعية ومن قوالب وأسس علمية ترقى بهذا الفن وتعرّف به، بحيث لم تتعدَّ حدوده الجغرافية شمال المغرب إلى أن شهد نقلةً وقفزةً نوعيتين على يد رائدته الفنانة أرحوم البقالي، التي ساهمت في تطوير وتجديد هذا الفن بقواعد وأسس وإيقاعات دقيقة ومتفردة تستمد خصوصيتها من الموسيقى الأندلسية، موسيقى "الآلة"، وذلك من خلال تأسيسها أول فرقة للحضرة الشفشاونية سنة 2004، تحت اسم "أخوات الفن الأصيل"، التي أخرجت من خلالها هذا الفن من عزلته ونفضت عنه الغبار وسافرت به من البيوت إلى مسارح المغرب وخارجه.
أرحوم البقالي رائدة فن الحضرة الشفشاونية
بعد تأسيس فرقة أرحوم البقالي، التي يمكن أن نقول إنها أعطت بعداً ونفساً جديدين لهذا الفن التراثي الذي كان دفين البيوت والزوايا، وشجعت الأجيال الصاعدة على الإقبال عليه، توالى انطلاق وتأسيس فرق نسائية أخرى أبدعت فيها النساء وتنافسن في ما بينهن، على تجديد هذا الفن الأصيل والارتقاء به، كما هو الشأن بالنسبة إلى "فرقة الحضرة الشفشاونية للموسيقى الروحية"، برئاسة الفنانة الشابة هالة بنسعيد.
وهي تلميذة الأستاذة أرحوم البقالي، وقد تشبعت الفنانة هالة على حد تصريحها بأسلوب معلّمتها أرحوم البقالي، وسارت على نهجها وحملت المشعل على عاتقها لمواصلة التجديد والاجتهاد بلمساتها الخاصة الشبابية، وقد أسست فرقتها الشبابية سنة 2017، وتضم 15 فتاةً شابةً يوصفن بأنهنّ هاويات ومولعات بهذا الفن، وهنّ خريجات معاهد الموسيقى شعبتَي السماع والموسيقى الأندلسية.
وحول أسباب ودواعي تأسيس الفرقة، تصرّح الفنانة هالة بنسعيد، رئيسة فرقة الحضرة الشفشاونية للموسيقى الروحية، لرصيف22، فتقول: "فكرة تأسيس الفرقة نابعة من عشق وحب هذا التراث الأصيل الذي تذوقت حلاوته، ما دفعني إلى محاولة تجديده ووضع بصمتي الشابة والخاصة عليه والتي تواكب العصر والهدف هو استقطاب جمهور الفئة الشابة".
إدخال الآلات الموسيقية على فن الحضرة الشفشاونية
أدخلت فرق الحضرة الشفشاونية على فن الحضرة بعض الآلات الموسيقية، حتى أصبح الإيقاع أهم ميزة يتميز بها ويتفرد عن غيره من فنون الحضرة الصوفية الأخرى، ومن خلال هذه الإضافة وهذا التجديد الذي أضفى على هذا الفن رونقاً وجمالاً وسحراً خاصاً، نجحت المجموعات الشفشاونية النسائية في تقديمه بأبهى حلّة ما جعله ناجحاً ومقبولاً ومحبوباً لدى الجمهور سواء من داخل المغرب أو خارجه.
وتتمثل الآلات الموسيقية الموظفة في فن الحضرة الشفشاونية أساساً في الآلات الموسيقية الإيقاعية: "الدف أو البندير"، و"التعريجة"، و"الدربوكة"، و"الطبل"، و"الطار".
فيما تفردت وتميزت فرقة هالة بنسعيد الشبابية بإدخال الآلات الوترية الروحية وتتمثّل أساساً في آلة العود، وآلة القانون، وآلة الكمان.
وفي هذا الصدد تقول الفنانة هالة بنسعيد، لرصيف22: "حاولنا من خلال فرقتنا الشبابية أن نعطي للحضرة الشفشاونية روحاً خاصةً في إطار التجديد من خلال إدخال تقنيات جديدة مع المحافظة طبعاً على التراث، حيث نسعى إلى المزج بين فن الحضرة والموسيقى الروحية من خلال إدخال بعض الآلات الموسيقية الروحية تتمثل في آلة العود الذي لم يسبق له أن كان في فنّ الحضرة بالإضافة إلى آلة القانون والدف الإيراني.
وتقول يسرى شهواد، أستاذة آلة القانون، وهي عضوة عازفة على القانون في فرقة هالة بنسعيد الشبابية، إن آلة القانون أضافت قيمةً جماليةً لهذا الفن ولقيت إعجاباً من قبل الجمهور المستمع والمشاهد، الذي يستمتع بنغمات آلة القانون التي تسافر به إلى عوالم روحية خاصة فتتمايل معها الرؤوس والأجساد، وتضيف أنها في إطار التجديد، تحاول في عزفها أن تمزج بين الموسيقى التراثية الأندلسية والشرقية من خلال المزج بين نوبة رمل الماية الأندلسية والمقام البياتي الشرقي.
لوحة فنية مليئة بالجمال
تشكل مجموعات الحضرة الشفشاونية لوحةً فنيةً متكاملةً مليئةً بالجمال والتفاصيل التي تسحر الأذن والعين والقلب معاً، فجمالها ينطلق من سحر قصائدها الصوفية التي تقدّمها هؤلاء النسوة مصحوبةً بالإيقاع والحركات الصوفية التي تسبح بك إلى عوالم الروحانية والإيمان والخشوع، بالإضافة إلى عنصر الفرجة والمتعة وذلك من خلال وضعية الجلوس وترتيب جوقة الحضرة فوق الخشبة بدقة وبمهارة عاليتين.
يُعدّ "فن الحضرة الشفشاونية" من أهم الموروثات الثقافية لـ"شفشاون"، دأبت نساء شفشاون على إحيائه من خلال الأفراح والمناسبات الدينية، من داخل بيوتهن العتيقة وتمريره وتلقينه للأجيال الصاعدة
تضم فرقة "الحضرة الشفشاونية" فوق خشبة المسرح، صفّين من النساء يتراوح عددهم بين 11 و15 امرأةً، حيث يشترط أن يكون العدد فردياً، فتحتل فيه رئيسة الفرقة مكان الصدارة في الصف الأول الأمامي في وضعية الجلوس، بحيث تقود الفرقة وتتوسطها، حتى يتسنى لها النظر إلى أعضاء الفرقة بكل سهولة، وتجلس إلى يمنيها ويسارها عازفات الحضرة بالتساوي؛ 3 إلى اليمين و3 إلى اليسار، فيما يضم الصف الثاني من الحضرة 4 نساء يقفن خلف المجموعة الجالسة، ويؤدّين دورهن بتصفيق إيقاعي وتمايل الأكتاف إلى الجانبين والمشاركة في الكورال.
وقد اقتضى خروج فن الحضرة الشفشاونية إلى العلن والوقوف على خشبة المسارح والتعريف به أيضاً خروج الزيّ التقليدي الشمالي التراثي القديم، والذي كان قد انقرض وبقي حبيس الصناديق وخزانات الجدّات والأمهات، ومن خلال فن الحضرة عملت الفرق على إعادة هذا اللباس التقليدي إلى الواجهة من خلال إحيائه والتعريف به أيضاً مع فن الحضرة الشفشاونية الذي أصبح يرتبط بها ارتبطاً وثيقاً بما يتميز به من عناصر الجمال والإجلال، ولكونه عاملاً من عوامل التمسك بالهوية المغربية الضاربة في عمق التاريخ.
ويتكون زي نساء "الحضرة الشفشاونية"، من قطع تراثية عدة تتمثل في القطعة الأساسية، وهي القفطان المغربي من نوع الخريب أو ما يُطلق عليه عند الشماليين "قفطان الحاج عمر"، وهو نوع من أنواع القفاطين المغربية التاريخية العتيقة، ثم "حزام البروكار" المزخرف بدقة واحترافية عاليتين من طرف الصانع التقليدي المغربي، ويطلَق عليه اسم حزام "دقّ الميغنا" أو الساعة، ثم نجد قطعة "السبنية"، وهي عبارة عن منديل مربع الشكل من الحرير الصافي أو المندمج مع الكتان أو القطن ويُطوى على مصراعين على شكل مثلث وتغطي به المرأة شعرها ويأتي منسدلاً بشعيرات الحرير من جانبي الوجه، ثم نجد قطعة الحراز الذي يأتي على شكل عمامة على جبين المرأة، ثم الطاكون الذي يأتي فوق الرأس وجوهر" فرصان"، ثم الحلي والأكسسوارات المغربية التي تتمثل في قطعة عقد الجوهر الحرّ الخالص.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...