بين قمباز عمّي وأزرار الكيبورد

بين قمباز عمّي وأزرار الكيبورد

مدونة نحن والتنوّع

الثلاثاء 23 سبتمبر 20256 دقائق للقراءة

نشرتُ قبل أيام على حسابي الفيسبوكي، نصّاً استعنت على كتابته ببرنامج الذكاء الاصطناعي. صحيح أنني كتبت النص كاملاً من دون الاعتماد عليه، وطلبتُ منه فقط رأياً نقدياً لما كتبته، إلّا أنه أثنى عليّ وامتدحني بطريقة مبالغ فيها، إلى حدّ جعلني أشعر أنني مخترع الذَرّة، ويبدو أنّ هذا أسلوبه في توريط "الزبائن"، حيث يُعطي المتعامل معه شعوراً بالعظمة والقوة والثقة بالنفس. 

ثم يأتي التدخل الحقيقي من خلال اقتراحات تنبثق أسفل النص يغريك فيها بإعادة صياغة النص ليخرجه لك على شكل مقال صحافي، أو قصة أدبية أو سيناريو لفيلم وثائقي... إلخ، فيدفعك فضولك لتجريب الأمر، فتقبل. وما هي سوى ثوانٍ حتى يُخرج لك النص الذي كتبته بشكل مختلف تماماً، وربما أفضل من النص الأصلي بعشرات المرّات.

أليس هذا حال الجديد دوماً؟

يوماً بعد يوم، تغوص التكنولوجيا أعمق وأعمق في أدق تفاصيل حياتنا، حتى بات الاعتماد عليها ضرورةً لا يمكن تفاديها أو تجاهلها. فأنت مربوط (بكل معنى الكلمة) إلى هذا العالم المعقّد بخيوط على شكل أمواج وترددات تُملي عليك تفاصيل حياتك، وكيف تتحرك، ومتى تأكل أو تشرب، أو متى تذهب إلى الطبيب. 

أحد أعمامي، كان يملك بنطالاً يُخفيه عن والده، وعن كبار القرية، وعندما يريد الذهاب إلى المدينة يتوقف في منتصف الطريق، وهناك يخلع قمبازه الريفي ويخفيه بين أغصان شجرة كبيرة، ثم يلبس بنطاله ويُكمل طريقه معتدّاً بنفسه كشاب متمدّن

أضحكني أحد الأصدقاء حين قال لي في معرض حديثنا عن هذا الأمر: "لو تعطّل نظام الخرائط العالمي GPS في دبي، سيتيه الكثيرون عن منازلهم". قد تكون هذه المقولة مضحكةً، لكنها واقعية وحقيقية، وعبثية في الوقت عينه. 

ولكن أليس هذا حال الجديد دوماً؟ ألا يلاقي الجديد رفضاً وانتقاداً في بداية ظهوره؟ أليس هذا ما عشناه وخبرناه مع كل ما يحيط بنا: من الملابس، إلى الديكورات، إلى التلفاز والسينما وغير ذلك من الاختراعات؟ حتى أجهزة الموبايل، حين ظهرت، كان يُنظر إلى من يستخدمها في الأماكن العامة نظرة استهجان، وكأنه يرتكب فعلاً غير لائق. وكان النقد جاهزاً، ساخراً، ومتحفّظاً، قبل أن يتحوّل الموبايل إلى حاجة حقيقية وامتداد طبيعي للجيب واليد والذاكرة.

تُروى في عائلتنا حكاية طريفة عن أحد أعمامي، مفاده أنه كان يملك بنطالاً يُخفيه عن والده، وعن كبار القرية، وعندما يريد الذهاب إلى المدينة يتوقف في منتصف الطريق (كنّا نمشي مسافة ثلاثة كيلومترات لنصل إلى الطريق العام)، وهناك يخلع قمبازه الريفي ويخفيه بين أغصان شجرة كبيرة، ثم يلبس بنطاله ويُكمل طريقه معتدّاً بنفسه كشاب متمدّن. في أوائل خمسينيات القرن الماضي، لم يكن هذا مجرد تغيير في اللباس، بل كان ثورةً صغيرةً، وتمرّداً رمزياً على التقاليد.  

قمباز في العلن بنطال في السر

وفي ثمانينيات القرن الماضي، غضب أبي حين اكتشف وجود تلفاز صغير في بيتنا. لا أذكر تماماً إن كان قياسه عشر بوصات أو أكثر، لكنه بدا لنا وقتها كنافذة سرّية على العالم.

في ثمانينيات القرن الماضي، غضب أبي حين اكتشف وجود تلفاز صغير في بيتنا. بعد أيام طلب وضعه في الصالون، كحال عشرات الحكايات عن رفض كل جديد في بداية الأمر. 

كنا قد جلبناه خلسةً، أنا وأختي، واحتفظنا به في غرفتنا الضيّقة، وكنا نشاهده بصمت لأكثر من شهر، تُشاركنا أمي التي اكتشفت أمرنا مبكراً، لكنها تواطأت معنا وآثرت الصمت. وبعد أيام من اكتشافه السرّ، طلب أبي وضع التلفاز في الصالون كي يستمع إلى البرامج الدينية والأخبار، كما قال، ثم بعد أيام صار يتابع وصرنا نتابع معه بعض المسلسلات والبرامج الترفيهية. وهناك عشرات الحكايات عن مقاومة كل جديد ورفضه في بداية الأمر. 

وفي العودة إلى أدوات الكتابة، فقد ظهرت الآلة الكاتبة عام 1829، كأول محاولة بدائية لتسريع الكتابة وتوحيد الحرف. لكن بعد سنوات تم تطويرها وبدأت تنافس القلم في الاستخدام. وكالعادة، في البداية استهجن بعض الكتّاب الكبار استخدام الآلة الكاتبة، وعدّوها تهديداً لطقوس الكتابة التقليدية بالقلم والورق. 

كان هذا الرفض جزءاً من مقاومة أوسع لكل جديد، خاصةً حين يتعلق الأمر بأدوات التعبير والخلق الإبداعي. كثير من الأدباء رأوا أن الكتابة اليدوية ليست مجرد وسيلة، بل طقس فكري وجسدي يربط بين العقل واليد. كانوا يعتقدون أنّ الضغط على مفاتيح الآلة الكاتبة يقطع هذا التدفق الطبيعي للأفكار. وصفها البعض بأنها آلة باردة، مقارنةً بحرارة القلم.  

كل شيء متقن جداً... يال الملل

وهناك مثال طريف عن إرنست همنغواي، الذي استهوته الآلة الكاتبة وكان يستخدمها، لكنه ظلّ يطبع بإصبع واحدة لسنوات، وكأنما كان يرفض، باللاشعور، أن تتحول الكتابة إلى عملية ميكانيكية.  

غابرييل غارسيا ماركيز لم يستخدم القلم تقريباً، بل كتب كل أعماله على الآلة الكاتبة. وطبعاً واجه استهجاناً من بعض النقاد الذين رأوا أنّ الكتابة يجب أن تكون بالقلم، لما فيها من دفء وصدق. هذا الرفض في الحقيقة كان جزءاً من نمط متكرر في التاريخ الثقافي، وليس رفضاً للآلة الكاتبة بحد ذاتها، حيث رُفضت الطباعة في بداياتها لصالح المخطوطات، وكانت هناك مقاومة للتصوير الفوتوغرافي باعتباره يسرق الروح. 

لا أخشى الجديد، بل أخشى أن تتحول الأفكار إلى قائمة خيارات يطرحها عليّ هذا البرنامج أو ذاك، فأكتفي بانتقاء ما يناسبني منها، كأنني أتسوّق في سوق الخضروات. أما التقنية، فمرحباً بها، ما دمتُ لن أُسلّم روحي للشيطان

في مطلع عصر التكنولوجيا، قوبل استخدام الحاسوب في الفنون برفض شديد، ووُصف بأنه أداة تخنق الإبداع. برغم أنّ هذا الاتهام جاء من خشية مبررة على روح الفن، لكن انظر اليوم إلى ما بلغته البرامج والتطبيقات من تطوّر، وكيف تحوّل الحاسوب من خصم مكروه، إلى شريك لا يُستغنى عنه ، في مجالات الحياة كلها.

المشكلة في هذه البرامج، خاصةً التي تُستخدم للكتابة، أنها تصبغ النصوص بصبغة واحدة: تراكيب متشابهة، أفكار نمطية، أخطاء شبه معدومة في النحو والإملاء (وهذا أمر جيد) حتى تكاد تظن أنّ الكاتب هو الشخص نفسه! ما يجعلنا نفتقد إلى الخصوصية وإلى روح الكاتب وأسلوبه، وتلميحاته وهفواته، وحتى زلّاته التي ربما تكون محببةً بالنسبة لمتابعيه. أي، قد نربح نصوصاً متقنة، لكنها بلا روح وبلا خصوصية. شيء يشبه إلى حد بعيد عمليات التجميل غير الضرورية -قبّحها الله- التي اغتالت الجمال الطبيعي، وجعلت النساء يتشابهن بطريقة تدعو إلى الضحك.

خلاصة القول: لا أخشى الجديد، بل أخشى أن تتحول الأفكار إلى قائمة خيارات يطرحها عليّ هذا البرنامج أو ذاك، فأكتفي بانتقاء ما يناسبني منها، كأنني أتسوّق في سوق الخضروات. أما التقنية، فمرحباً بها، ما دمتُ لن أُسلّم روحي للشيطان.



رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

فلنتشارك في إثراء مسيرة رصيف22

هل ترغب/ ين في:

  • الدخول إلى غرفة عمليّات محرّرينا ومحرراتنا، والاطلاع على ما يدور خلف الستارة؟
  • الاستمتاع بقراءاتٍ لا تشوبها الإعلانات؟
  • حضور ورشات وجلسات نقاش مقالات رصيف22؟
  • الانخراط في مجتمعٍ يشاركك ناسه قيمك ومبادئك؟

إذا أجبت بنعم، فماذا تنتظر/ ين؟

    Website by WhiteBeard
    Popup Image