محمد عبد الكريم ومقام المريومة والبحث عن هوية سورية جامعة

محمد عبد الكريم ومقام المريومة والبحث عن هوية سورية جامعة

رأي نحن والتنوّع

الأربعاء 8 أكتوبر 20259 دقائق للقراءة

"أنا أغنى رجل في التاريخ لأنني ملكت قلوب الناس وعقولهم وأرواحهم، وهذه أعظم الثروات، ولسوف يذكرني الناس كلّما سمعوا ألحاني أو ذُكر اسمي أو كلّما شاهدوا غجرياً يتشيطن على بزقه ببراعة". محمد عبد الكريم


تبحث سوريا منذ نشأتها بحدودها الحالية قبل قرن من الزمن عن هوية وطنية جامعة تعكس أفكار مواطنيها ومواطناتها وأحلامهم وآمالهم، لكن غالباً ما طغت الانقسامات والروايات الجزئية، وغاب السرد المشترك الذي يمكن أن يبني هذه الهوية، وها نحن اليوم نعيش واحدةً من فصول هذه الانقسامات التي تكاد تخلق خرائط وطنيةً جديدة.

في مثل هذه اللحظات، يبحث الناس عن شخصيات استثنائية ليتحلّقوا حولها، وأكاد أقول إن سوريا الحالية تخلو من هذه الشخصيات (وهو قول قد يكون مجحفاً بحق الكثير من السوريين والسوريات)، لكن الأكيد أنّ تاريخ سوريا القريب يعجّ بشخصيات نستطيع أن نبني عليها هويتنا.

محاولات بناء هذه الهوية بدأت منذ زمن طويل ولم يَصِر لها أن تعيش، وأرى من وجهة نظر شخصية، أن نعود إلى هذه الشخصيات لنبني عليها سرديةً تجمعنا. 

فكرتُ قبل أن أهمّ بالكتابة في الشخصيات التي يُمكن أن يجتمع حولها السوريون والسوريات. أشخاص كثر مروا بذهني وكانوا في أغلبهم شخصيات ثقافية وفنية واجتماعية، لا شخصيات سياسية أو عسكرية (إلا في ما ندر). شخصيات قادرة على أن تبني بإرثها نواة لهوية ثقافية سورية تتجاوز الانقسام، وتمنحنا شعوراً بالانتماء إلى مشروع أكبر من تفاصيل الطوائف والمناطق.

في بلد مثل سوريا؛ بلد يبحث عن هوية وشكل، يصبح ظهور شخصيات استثنائية أكثر من مجرد حدث فردي، بل فرصة لتأسيس ذاكرة مشتركة مبنية على حكاية هذا الشخص. وأريد اليوم أن أحكي حكاية محمد عبد الكريم، ليس كعازف عبقري فقط، بل كعلامة فارقة تتيح لنا، نحن السوريين والسوريات، أن نتعرف إلى أنفسنا من طريق موسيقاه وأثره.

وهذه هي حكاية محمد عبد الكريم، أحد أشهر وأهم الموسيقيين السوريين في القرن العشرين، والذي اشتهر بلقب "أمير البزق". ويُقال -في رواية غير مؤكدة- إنّ الملك فيصل، ملك العراق آنذاك قد منحه إياه بفرمان رسمي، بعدما سمعه يعزف على آلة البزق بـ"عبقريّة".

لا نعرف الكثير من المؤكد عنه، لكن في المقابل ثمّة كثير من الروايات غير المؤكدة عن حياته وعن موسيقاه، وذلك لقلة التوثيق، رغم أنّه ينتمي لجيل أسّس لما يُمكن تسميته بموسيقى بلاد الشام، جيل حاول أن يعوض غياب وطن متفق عليه بالفن، وكأن الفن الذي قدموه اقترح علينا صورة لبلاد ممكنة، لا بلاد ممزقة مثل حالنا اليوم.

طفولة هشّة وعالم واسع

ولد عبد الكريم سنة 1911 في مدينة حمص لأسرة غجرية تحبّ الموسيقى وتتقنها، قبل أن ينتقل في سن العاشرة إلى دمشق، ليتابع من هناك رحلة تنقلاته في مدن العالم المختلفة.

أشهر ما ميّز عبد الكريم، إلى جانب عبقريته الموسيقيّة، هو شكله الخارجي. كان ذا جسد نحيل بحجم صغير، حتى قيل إنّه يعزف على بزق أكبر منه. يعود سبب ضمور جسده إلى إصابته أثناء طفولته إصابة بليغة تركت حدبة وانحناءً في ظهره. هذه الإصابة لم تمنعه من فعل الشيء الذي خُلق من أجله: العزف على آلة البزق، والتأليف الموسيقي.

منذ قرن وسوريا بحدودها الراهنة تبحث عن هوية وطنية جامعة، لكن الانقسامات والسرديات الجزئية عطّلت تشكّل سرد مشترك. لذا فالعودة إلى الشخصيات الثقافية والفنية المُجمع عليها لبناء هوية تتجاوز الطوائف والمناطق، هو كنز سوري، ولعل النموذج الأجمل هو محمد عبد الكريم

تخيّلوا طفلاً هشّ الجسد، محني الظهر، يحمل بزقاً أثقل منه، لكن كلّما وضع أصابعه على الأوتار، استقام الكون ليستمع له. كأن الموسيقى كانت الجسد الذي لم يملكه.

بدأ العزف صغيراً في الحفلات والسهرات الخاصة في مدينة حمص، ومن ثمّ انتقل إلى دمشق ليعزف مع أحد الحكواتيّة المشهورين في المدينة آنذاك، لتتوالى بعدها الحفلات في دمشق ومن ثمّ في حلب، وليتتلمذ على يد أساتذة الموسيقى في ذلك الزمان، من أمثال الشيخ عمر البطش والأستاذ سامي الشوا، وغيرهم ممن تركوا أثراً في الموسيقى العربيّة بشكل عام، وموسيقى بلاد الشام خصوصاً.

من دمشق وحلب، انتقل إلى مصر، عاصمة الثقافة العربية في القرنين التاسع عشر والعشرين، فتعرّف إلى أعلام الموسيقى فيها، مثل زكريا أحمد ومحمد القصبجي ومحمد عبد الوهاب وأم كلثوم. ومن بعدها أقام عدداً من الحفلات الموسيقيّة في العديد من العواصم الأوروبيّة، إضافة إلى تسجيل اسطوانات موسيقيّة في العاصمة الألمانيّة، برلين، بدعوة من شركة "أوديون" للأسطوانات الموسيقيّة.

ففي بدايات القرن العشرين، سجّل عدد كبير من الموسيقيين العرب أسطواناتهم الموسيقيّة في برلين، لعدم وجود شركات تسجيل ذات تقنية متقدمة في مدن الشرق من ناحية، وبسبب سهولة تصدير هذه الأسطوانات إلى باقي أنحاء العالم، ولا سيما إلى المهاجرين من سوريا ولبنان وفلسطين في دول أمريكا الشماليّة وأمريكا الجنوبيّة من ناحية أخرى.

في كل مدينة مرّ بها، ترك شيئاً من روحه. في دمشق كان صبياً يحاول أن يُسمع صوته بين الكبار، في حلب صار تلميذاً نجيباً، وفي القاهرة صار اسماً يعرفه عمالقة الموسيقى. لكن ربما ظلّ في داخله دائماً ذاك الغجري الصغير الذي لا يعرف مدينة إلا مدينة موسيقى البزق.

بزقٌ رنّان يبحث عن مقام المريومة

كان عبد الكريم من أوائل العازفين في إذاعة القدس عند تأسيسها سنة 1936، قبل أن يتولى رئاسة فرقتها الموسيقيّة، كما ساهم في تأسيس إذاعة الشرق الأدنى في مدينة يافا، ولاحقاً في تأسيس إذاعة دمشق، التي بثّت الموسيقى التي ألفها كافتتاحية ساعات البث لعشرات السنوات.

وُلد في حمص لأسرةٍ غجرية محبّة للموسيقى قبل أن ينتقل إلى دمشق. وبدأ العزف باكراً رغم إصابته التي ستلازمه طوال حياته، ليتتلمذ على يد عمر البطش وسامي الشوا.

هكذا ساهم محمد عبد الكريم، كنتيجة لعمل موسيقيين سبقوه -مثلاً لا حصراً: أبو خليل القباني وعمر البطش وسامي الشوا- في تشكيل هوية موسيقيّة خاصة ببلاد الشام، مؤثراً في موسيقيين لاحقين، على سبيل المثال لا الحصر: صباح فخري والأخوين رحباني، نجاح سلام، وموسيقيي ومغّني/ يات إذاعات القدس والشرق الأدنى ودمشق، ليكون من المساهمين الرئيسيين في تأسيس جانب من تراث المنطقة غير المادي. 

وكما يعتبر الموسيقي الإيطالي نيكولو باغانيني (1782-1840) أبرز عازف كمان في التاريخ، بسبب تطويره لآلة الكمان وأخذها إلى أماكن لم يسبق الوصول إليها، فضلاً عن ألحانه الصعبة والسريعة والتي تحتاج تدريباً طويلاً حتى يستطيع عازف الكمان المحترف أن يتقنها، يُعتبر محمد عبد الكريم، سيّد آلة البزق وأكثر من طوّر فيها واستخدمها في مساحات جديدة لم تُعرف من قبل.

يُحكى كثيراً عن سرعة يدَي عبد الكريم في أثناء العزف، فمثلاً تُعدّ بعض المقاطع الموسيقيّة من مقطوعة "رقصة الشيطان" التي ألّفها، واحدة من أسرع المقاطع اللحنيّة التي عُزفت على آلة البزق حتى يومنا هذا. كما اشتهر خصوصاً بعزفه مع عازف آلة القانون التركي الشهير إسماعيل شانشلر، والتي تعدّ، بحسب الدكتور سعد الله آغا القلعة "مناظرةً موسيقيّةً لما تتضمّن عملياً من تنافس واضح" بين العازفَين، أظهر فيها عبد الكريم تفوقه وقدرته على التحكّم بآلته الموسيقيّة في السرعة والمهارة في التنقّل بين المقامات الموسيقيّة وفي حركة الريشة.

لم يتوقف عبد الكريم عند مهارة العزف على آلة موجودة بالفعل، بل سعى إلى تغيير الآلة لتناسب أفكاره الموسيقيّة، فأضاف وترين إلى آلة البزق، وغيّر جَسد الآلة، مستعملاً أنواعاً أخرى من الخشب في صناعتها، كما جدّد عُقَد البزق مضيفاً إلى الآلة إضافات تساعد عبقريته الموسيقيّة على البزوغ.

بالإضافة إلى كلّ ما سبق، ألّف مقاماً موسيقياً جديداً، أسماه: مقام المريومة. والمقام في تعريفه هو تركيب شكلي موسيقي، يشكّل سير عمل قطعة لحنيّة ما من طريق تتال لعلامات موسيقيّة وفق أبعاد مضبوطة بدقة. 

ما قام به محمد عبد الكريم في مقام المريومة هو استخدامه لأجناس معينة بطريقة مختلفة، غير معتادة في الموسيقى العربيّة، حيث جمع مجموعة من المقاييس الموسيقيّة مع بعضها ليشكّل مقام المريومة بشكله الكامل.

لم تكن المريومة مجرّد مقام جديد. كانت أشبه برسالة حب أودعها في النوتات، كأنّه يقول لنا: هذا أنا. هذه بصمتي. هذا اسمي.

قدرات عجائبية ورحيل في عزلة

هناك الكثير من الروايات عن قدرة محمد عبد الكريم العجيبة على العزف. لا يُمكن التأكد من أي من تلك الحكايات، لكن واحدة من أشهر تلك الحكايات تقول: 

"صعد محمد عبد الكريم إلى خشبة المسرح في باريس فسخر منه الحاضرون بسبب شكله. أراد أن يبهرهم، فعزف على آلته الحبيبة بأصابع رجليه". 

تُروى عنه حكاياتٌ غريبة، كعزفه بأصابع قدميه في باريس، لكن الأهم من القصص أنّه طوّر من البزق، وأن موسيقاه فتحت "باباً سحرياً" لعالم أجمل. وتوفي عام 1989 شبهَ وحيد في دمشق، لتبقى موسيقاه قادرة على جمع السوريين حولها

في رواية أخرى، وفي مقابلات عديدة قال سعيد يوسف (توفي سنة 2020)، الموسيقي السوري الكردي والذي لُقّب بأمير البزق بعد وفاة محمد عبد الكريم، إن عبد الكريم وقبل موته أعطى آلة البزق الخاصة به ليوسف وقال إن هذه الآلة لن تموت ما دام سعيد يوسف حياً.

لكن لا يهم إن عزف بأصابع يديه أو رجليه؟ لا يهم إن صدّقنا الروايات أو لم نصدّقها؟ ما يهم أن الرجل، حين وضع ريشته على وتر البزق، فتح باباً سحرياً نطل منه على عالم آخر، لا يشبه عالمنا المُوحش في شيء.

في العام 1989 مات محمد عبد الكريم شبه وحيد، بعد سنوات قضاها العبقري الموسيقي في شبه عزلة، في بيته في دمشق، بعد ثمانية وسبعين عاماً عاشها في بحر من الألحان.

مات محمد عبد الكريم وحيداً في دمشق. لكن أي عزلة هذه؟ هل يُمكن لرجل عاش نحو ثمانين عاماً محاطاً بألحانه أن يكون وحيداً؟

وأيّ موت هذا؟ ربما لم يمت أبداً. ربما ما زال صوته يتردّد كلّما لمس أحدهم بزقاً في بلدنا الذي تتنازعه الانقسامات. ربما يأتي يوم على سوريا يكون فيه صوت بزق محمد عبد الكريم قادراً على جمع ما تفرّق منها. 



رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

صوت التغيير يجب أن يبقى حاضراً. 

ليستمرّ، نريد دعمكم.

Website by WhiteBeard
Popup Image