انتخابات العراق 2025… والاختبار

انتخابات العراق 2025… والاختبار "الصعب" للنفوذ الإيراني؟

سياسة نحن والحقوق الأساسية

الأربعاء 26 نوفمبر 202514 دقيقة للقراءة


تشكّل الانتخابات البرلمانية العراقية التي أُجريت في 11 تشرين الثاني/ نوفمبر 2025 منعطفاً محورياً، ليس فقط في مسار النظام السياسي العراقي، بل أيضاً في حسابات النفوذ الإقليمي، خصوصاً الدور الإيراني في البلاد. فبينما تطمح طهران إلى تثبيت موطئ قدم لها في العراق، يبدو أن تراجعها الإقليمي وانقسام القوى الموالية لها قد يجعلان من هذه الانتخابات اختباراً جديداً لقدرتها على البقاء لاعباً محورياً في بغداد.

منذ انتفاضة تشرين الأول/ أكتوبر 2019، عبّر الشارع العراقي عن أن رفضه لا يقتصر على الفساد، بل وصل إلى حد الرفض لوجود أي نفوذ خارجي عميق، وفي مقدمته النفوذ الإيراني. ومع التحديات التي تواجه إيران بعد عام 2023، من ضغوط عسكرية وسياسية على حلفائها الإقليميين، بات العراق ساحة مركزية للحفاظ على مواقعها الاستراتيجية.

داخلياً، ازدادت ثقة الإطار التنسيقي بعد غياب الجنرال قاسم سليماني، وتغيرِ موازين القوى لصالحهم بعد هزيمة "داعش" عام 2017 والانتصار على التيار الصدري، ما شكّل واقعاً مختلفاً تماماً لطهران مقارنةً بدورتي انتخابات 2018 و2021.

وفق هذه المعطيات، يحاول هذا التقرير الإجابة على تساؤلات أساسية للغاية لرسم خريطة مستقبلية محتملة لنفوذ طهران في العراق في السنوات القادمة: هل بلغت قدرة إيران على التأثير حدّها الأقصى؟ وهل تعكس انتخابات 2025 بداية انتقال من النفوذ المباشر إلى النفوذ البراغماتي؟ وهل ثمة احتمال لظهور تحالف انتخابي عراقي جديد يتجاوز الانقسام التقليدي بين القوى الموالية لإيران ومنافسيها؟ وما هي السيناريوهات المحتملة لمستقبل النفوذ الإيراني بعد هذه الانتخابات؟

تطور النفوذ الإيراني منذ الغزو الأمريكي 2003

منذ سقوط البعث العراقي ونظام صدام حسين، استثمرت إيران بذكاء في بناء نفوذ متعدد البعد في العراق. ففي المرحلة الأولى، من عام 2003 إلى عام 2014، ركزت طهران على دعم الأحزاب الشيعية التقليدية كحزب الدعوة، والمجلس الإسلامي الأعلى، وتيار الحكمة، ولاحقاً عصائب أهل الحق. وبلغ هذا النفوذ ذروته خلال فترتي حكومة نوري المالكي، حيث كانت طهران تملك حق الفيتو الفعلي على التشكيلة الحكومية، وعلى تعيين المناصب السيادية.

نقطة التحول الحقيقية في النفوذ الإيراني في العراق جاءت مع انتفاضة تشرين 2019. فلأول مرة منذ عام 2003 خرج مئات الآلاف من الشباب الشيعة إلى الشوارع، مرددين شعارات ضد النفوذ الإيراني: "إيران برّة برّة.. بغداد تبقى حرّة"

بدأت المرحلة الثانية مع ظهور "داعش" عام 2014. مهدت فتوى آية الله العظمى السيد علي السيستاني "الجهاد الكفائي" الطريق لتشكيل قوات الحشد الشعبي، إلا أن قاسم سليماني، قائد فيلق القدس، هو من حوّل قوات الحشد الشعبي، بفضل سلاحه ودعمه الاستشاري وقيادته إلى حليف وثيق وموثوق به لإيران.

وبين عامي 2014 و2019، أصبح الحشد الشعبي قوة عسكرية واقتصادية وسياسية لا مثيل لها، وأصبحت فصائل مثل كتائب "حزب الله"، وعصائب أهل الحق، ومنظمة بدر، وحركة النجباء، قوى مؤثرة في العراق.

إلا أن نقطة التحول الحقيقية جاءت في تشرين الأول/ أكتوبر 2019 مع انتفاضة تشرين. فلأول مرة منذ عام 2003 خرج مئات الآلاف من الشباب الشيعة إلى الشوارع، مرددين شعارات ضد النفوذ الإيراني: "إيران برّة برّة.. بغداد تبقى حرّة".

لم يكن إحراق القنصليات الإيرانية في النجف وكربلاء والبصرة مجرد فعل عفوي، بل كان رفضاً عميقاً للنموذج الإيراني بجميع جوانبه. وعمّق اغتيال قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس في كانون الثاني/ يناير 2020 هذا التحول. فقد افتقر خليفة سليماني، إسماعيل قاآني، إلى الكاريزما وشبكة العلاقات نفسها، لذا سعت الفصائل إلى استقلال نسبي، وقللت من اعتمادها المالي والعسكري المباشر على طهران.

تأثير السياق الإقليمي ما بعد 2023 على طهران

شكّل عام 2023 نقطة انهيار هيكلي للبنية الإقليمية التي شيّدتها إيران على مدى عقدين من الزمن. بدأت السلسلة بهجوم حركة حماس في السابع من أكتوبر على إسرائيل، ثم تتالت الأحداث بسرعة قياسية: إضعاف "حزب الله" في لبنان عبر ضربات إسرائيلية دقيقة شملت اغتيال قيادات عليا وتدمير جزء كبير من ترسانته الصاروخية، ثم سقوط نظام بشار الأسد في دمشق في كانون الأول/ ديسمبر 2024، وهو الحدث الذي قطع الجسر البري بين طهران وبيروت. وفي غزة، أُجبرت حركة حماس على قبول وقف إطلاق نار طويل الأمد بعد خسائر فادحة، فتحوّل دورها من ذراع هجومية إلى كيان دفاعي محدود التأثير على الأرض.

ما جعل انتخابات 2025 أكثر أهمية من أي استحقاق سابق هو أن إيران دخلتها للمرة الأولى منذ 2003 وهي في موقف دفاعي. فلم تعد تملك القدرة على فرض مرشح كما فعلت مع نوري المالكي أو عادل عبد المهدي.

لم تتوقف الضربات عند حلفاء إيران، بل انتقلت إلى قلب الجمهورية الإسلامية نفسها. ففي 13 حزيران/ يونيو 2025، شنّت إسرائيل هجوماً جوياً واسعاً أدى إلى مقتل عدد من كبار قادة الحرس الثوري وفيلق القدس، ثم تبعته الولايات المتحدة بعد أسابيع بضربات مباشرة استهدفت منشآت التخصيب في نطنز وفوردو، ما شكّل ضربة قاصمة للبرنامج النووي.

وفي آب/ أغسطس من العام نفسه، فعّلت دول الترويكا الأوروبية (بريطانيا وفرنسا وألمانيا) آلية "سناب باك" داخل الاتفاق النووي، فعادت العقوبات الأممية بكامل قوتها، فيما شددت واشنطن عقوباتها على عشرات الشخصيات والكيانات العراقية المرتبطة بإيران، من بينهم قادة فصائل، وشركات تُدار من بغداد.

بهذه التراتبية المتسارعة، خسرت طهران فعلياً "محور المقاومة" ككيان متماسك. لم يعد هناك ممر آمن من طهران إلى بيروت، ولا قواعد خلفية في دمشق، ولا قدرة على المناورة عبر "حزب الله" أو حماس. أصبح العراق، بموقعه الجغرافي وثقله الشيعي وموارده النفطية، الورقة الوحيدة المتبقية في يد إيران للحفاظ على أي عمق استراتيجي حقيقي، والمنفذ الوحيد تقريباً للالتفاف على العقوبات عبر تصدير الطاقة والتجارة غير الرسمية.

كان الصمت شبه الكامل للفصائل العراقية الموالية خلال المواجهات الإيرانية الإسرائيلية في 2024–2025 دليلاً صارخاً على هذا التراجع. ففي الوقت الذي كانت إيران تتعرض فيه لضربات مباشرة، لم تُطلق كتائب "حزب الله" أو النجباء أو عصائب أهل الحق سوى بيانات خجولة، ولم تشهد القواعد الأمريكية في العراق أو سوريا هجمات تُذكر. هذا السكوت لم يكن مجرد حسابات تكتيكية، بل جاء كتعبير عن "استقلالية نسبية" اكتسبتها الفصائل بعد سنوات من الاعتماد الذاتي على الاقتصاد غير الرسمي، وعن خوف حقيقي من العقوبات الأمريكية المباشرة.

استثنائية انتخابات 2025

أما ما جعل انتخابات 2025 أكثر أهمية من أي استحقاق سابق هو أن إيران دخلتها للمرة الأولى منذ 2003 وهي في موقف دفاعي. فلم تعد تملك القدرة على فرض مرشح كما فعلت مع نوري المالكي أو عادل عبد المهدي.

داخلياً، تُرجم هذا الواقع الإقليمي الجديد إلى سياسات محمد شياع السوداني الذي وقّع صفقات نفطية عملاقة مع كبريات شركات النفط في العالم، أمثال شيفرون وإكسون موبيل، وقلّص الاعتماد على الغاز الإيراني عبر بدائل خليجية وكازاخستانية، وحافظ على علاقات دافئة مع الرياض وأبو ظبي وواشنطن في الوقت نفسه.

تقارير نشرتها "فورين أفيرز" و"الإيكونوميست" في النصف الأول من 2025 تحدثت صراحة عن ظهور "جيل سياسي جديد" داخل الإطار التنسيقي نفسه، يفضّل التوازن الاستراتيجي على التبعية الكاملة لإيران، خاصة بعد أن طالت العقوبات الأمريكية عشرات الشخصيات والكيانات العراقية المرتبطة بطهران.

في هذا الواقع المأزوم، يتحوّل العراق إلى محور حيوي لطهران، ليس فقط للحفاظ على ما تبقّى من عمق استراتيجي، بل لأنه أصبح المنفذ الاقتصادي والسياسي الأخير الذي تستطيع من خلاله إيران أن تتنفس. لكنها لم تعد تدخل هذا الامتحان بنفس الثقة القديمة التي كانت تملكها قبل عام 2018.

ديناميات انتخابات 2025 الداخلية ودلالاتها على النفوذ الإيراني

شكّلت انتخابات البرلمان العراقي في 11 نوفمبر/ تشرين الثاني 2025 لحظة فارقة في مسار النفوذ الإيراني داخل البلاد، ليس لأنها أعادت ترتيب الأوراق السياسية فحسب، بل لأنها جرت في ظل تراجع إقليمي غير مسبوق جعل العراق بالنسبة إلى طهران خط الدفاع الأخير أمام الاستهداف الإسرائيلي والأمريكي، والمنفذ الوحيد المتبقي للالتفاف على العقوبات الدولية المشددة. فسجلت الانتخابات نسبة مشاركة قياسية تجاوزت 55% وفق إعلان المفوضية العليا المستقلة للانتخابات، مقارنة بـ41% فقط في دورة 2021، مما كسر اتجاه التراجع المستمر منذ عقد ونصف عقد.

حين خسرت طهران "محور المقاومة" ككيان متماسك من سوريا إلى لبنان فغزة، أصبح العراق، بموقعه الجغرافي وثقله الشيعي وموارده النفطية، الورقة الوحيدة المتبقية للحفاظ على أي عمق استراتيجي إيراني

جاء هذا الارتفاع نتيجة تفاعل عوامل متعددة، كبروز وجوه جديدة ومستقلة كثير منها من رموز انتفاضة تشرين، حملات رقمية مكثفة عبر "تيك توك" و"إنستغرام" استهدفت الشباب، عودة قوية للناخب السني بعد سنوات من المقاطعة، تحسن ملحوظ في الأوضاع الأمنية، وحضور نسائي لافت.

أما التعديل الأهم فكان تقسيم المحافظات إلى دوائر انتخابية أصغر، مما أضفى طابعاً محلياً أقوى وزاد من شعور الناخب بأن صوته بات فعالاً وحاسماً.

أما المتغير الأهم فكان في مقاطعة التيار الصدري للانتخابات بقرار مباشر من مقتدى الصدر، مما فتح الباب على مصراعيه أمام "الإطار التنسيقي" لتعزيز هيمنته البرلمانية. انقسم الإطار قبل الانتخابات إلى قوائم منفصلة لتعظيم المقاعد: ائتلاف "الإعمار والتنمية" بقيادة محمد شياع السوداني، "دولة القانون" لنوري المالكي، "بدر" لهادي العامري، "عصائب أهل الحق" لقيس الخزعلي، و"حقوق" لكتائب "حزب الله".

وقد أعيد توحيد الإطار بعد الانتخابات ليشكل الكتلة الأكبر، مما يضمن له تسمية رئيس الوزراء وفق العرف الدستوري. لكن الفارق الجوهري كان تفوق السوداني داخل الإطار نفسه على المالكي. فنجاح السوداني في بغداد والجنوب جاء مدفوعاً بإنجازات حكومته السابقة كاستقرار أمني نسبي، وانتظام الرواتب، وإطلاق مشاريع إعادة إعمار، وصفقات نفطية كبرى مع "شيفرون" و"إكسون موبيل".

هذا النجاح يعكس تحولاً عميقاً. فالخطر الأكبر على النفوذ الإيراني لا يكمن في الأرقام الإجمالية، بل في الانقسام الداخلي للكتل الموالية. تقارير من معهد "كريتيكال ثريتس" وغيره أشارت إلى شعور متزايد لدى قادة الفصائل بأن السوداني لا يخدم الأهداف الاستراتيجية الإيرانية بالشكل المطلوب، خصوصاً مع إصراره على دمج وحدات الحشد في الجيش، وإصلاح نظام المنافذ الحدودية، وتقليص الاعتماد على الغاز الإيراني. هذا التوتر قد يتجلى في الأشهر المقبلة في صراع خفي داخل الإطار نفسه حول توزيع المناصب السيادية والحقائب الاقتصادية.

في الوقت نفسه، تظل الولايات المتحدة وإيران تتقاسمان مصلحة أساسية واحدة رغم الخصومة: استقرار العراق السياسي. كلا الطرفين هنّأ رسميًا بإجراء الانتخابات وأشاد بتنظيمها. لكن الخلاف الجوهري يبقى حول "قوات المقاومة" الموالية لإيران. إذ ترى طهران أنها أداة ردع ضرورية وتدعم هجماتها على القوات الأمريكية، فيما تعتبر واشنطن وجودها تهديداً مباشراً وتطالب بحلّها أو نزع سلاحها بالكامل، وقد استهدفتها عسكرياً مرات عدة.

على الصعيد الاقتصادي، تتجلى المنافسة بوضوح أكبر. تسعى إيران إلى تعزيز الاعتماد العراقي على كهربائها وغازها، بينما تمارس الولايات المتحدة ضغوطاً صارمة لمنع ذلك: فيتو أمريكي ألغى مشروع استيراد الغاز التركماني عبر الأراضي الإيرانية، فرض قيود على المصارف العراقية، وإجبار بغداد على البحث عن بدائل أغلى مثل الغاز المسال. هذه الضغوط دفعت السوداني نفسه إلى توقيع صفقات مع الدول الخليجية وشركات أمريكية، مما يعزز موقفه داخلياً لكنه يزيد من توتر العلاقة مع الفصائل المحلية.

بهذا المعنى، لم تعد انتخابات 2025 مجرد استحقاق داخلي، بل أصبحت ساحة تقاطع مباشر بين نفوذ إيراني يتراجع لكنه لم ينهَر، ونفوذ أمريكي يتقدم بحذر لكنه لا يريد مواجهة مفتوحة. النتيجة الأولية هي براغماتية قسرية فرضتها الظروف على الطرفين، وانتصار نسبي لشخصيات شيعية متوازنة، وهو ما يشكل بداية تحول هيكلي في طبيعة النفوذ الإيراني داخل العراق.

سيناريوهات مستقبل النفوذ الإيراني في العراق بعد انتخابات 2025

في ضوء التحولات الإقليمية والداخلية التي أحاطت بالانتخابات وأعقبتها، يمكن رسم أربعة سيناريوهات رئيسية لمصير النفوذ الإيراني خلال الدورة البرلمانية القادمة 2026–2030، متدفقة في نص واحد متصل يعكس ترابطها واحتمال تداخلها:

تتراوح احتمالات النفوذ الإيراني في العراق بين ثلاثة مسارات، إما البراغماتية الهادئة تحت حكومة متوازنة، أو التراجع التدريجي في حال صعود قوى وطنية مدعومة خارجياً، أو -وهذا مستبعد حالياً- استعادة النفوذ.

أولاً… سيناريو النفوذ البراغماتي المستدام

وهو ما سيحدث إذا ظل محمد شياع السوداني رئيساً للوزراء. ستقبل طهران حتماً دور شريك غير مهيمن في إطار التنسيق، متخليةً عن فكرة السيطرة المطلقة التي مارستها بعد عام 2003.

تتحول البلاد إلى نموذج براغماتي مستدام يضمن منافع ضئيلة مقابل استقرار نسبي: استمرار تصدير الكهرباء والغاز بأسعار تفضيلية، عقود بنى تحتية كبرى كسكة حديد البصرة–شلامجة، بقاء الحشد كقوة ردع داخل المؤسسة الأمنية دون استفزاز مباشر لواشنطن، وتعزيز النفوذ الثقافي والديني الناعم عبر الزيارات المليونية والإعلام الشيعي. تماماً كما فعلت تركيا في إقليم كردستان؛ نفوذ عميق لكن القرار النهائي يبقى في بغداد لا في طهران، وهو ما يتيح لإيران استمرارية طويلة الأمد دون إثارة انتفاضة شعبية جديدة أو مواجهة أمريكية مفتوحة.

ثانياً… سيناريو التراجع النسبي التدريجي
يظهر في الاتجاه المعاكس تماماً إذا نجحت قوى شيعية وطنية مستقلة كتيار الحكمة أو شخصيات تشرينية في بناء تحالفات عريضة مع الكرد والسنة، وإذا استمر السوداني في سياسته التوازنية بدعم أمريكي وخليجي، فتدخل إيران مرحلة تراجع منظّم: دمج الحشد بالكامل في الجيش أو تقليص صلاحياته جذرياً، إصلاح القطاع المصرفي، توقيع اتفاقيات طويلة الأمد مع الغرب والخليج.

حينها تتحول إيران إلى داعم هامشي شبيه بدورها في أفغانستان بعد 2021 أو في اليمن بالنسبة إلى الحوثيين بعد 2018، موجودة لكن غير قادرة على توجيه السياسة الكبرى. وهو سيناريو يحتاج قيادة شيعية وطنية قوية لم تتبلور بعد بكامل قوتها لكنه ليس مستحيلاً.

ثالثاً… سيناريو استعادة النفوذ المكثف
هو الأبعد حالياً ويتطلب أزمة داخلية أو إقليمية كبرى تستغلها طهران للعودة بقوة: عودة "داعش" بقوة في المناطق السنية والمختلطة، فراغ أمني بعد انسحاب أمريكي مفاجئ، أو انهيار أسعار النفط إلى ما دون خمسين دولاراً. حينها قد تقدم إيران نفسها كالمنقذ عبر تزويد الكهرباء مجاناً وتمويل إعادة إعمار ودعم مرشح متشدد في انتخابات مبكرة. لكن هذا الاحتمال يبدو بعيد المنال في المدى المنظور نظراً إلى الاستقرار النسبي الحالي.

ختاماً، يمكن القول إن قدرة إيران على التأثير في العراق لم تنتهِ، لكن شكل هذا النفوذ تغيّر جذرياً. لم تعد طهران تملك نسبة الهيمنة التي كانت تتمتع بها بين عامي 2014 و2018، ولم تعد الفصائل العراقية مجرد أدوات في يدها. انتخابات 2025 كشفت عن واقع جديد: نفوذ إيراني مستمر لكنه أقل حدة، أكثر كلفة، وأشد حساسية للتوازنات الداخلية والإقليمية.

في السنوات الخمس المقبلة، سيحدد مستقبل هذا النفوذ ثلاثة عوامل رئيسية: قدرة الحكومة العراقية على الحفاظ على التوازن بين طهران وواشنطن، ومدى نجاح القوى الوطنية في توظيف الضغط الشعبي، وطبيعة الضغوط الأمريكية على الفصائل. الأرجح أن نشهد نفوذاً إيرانياً طويل الأمد، لكنه لن يعود أبداً إلى ما كان عليه قبل 2018. العراق لم يعد مجرد "عمق استراتيجي" لإيران، بل صار أيضاً مرآة تعكس حدود قوتها وضعفها في آن واحد.

في النهاية، يظل سيناريو النفوذ البراغماتي المستدام هو الأقرب إلى الواقع، لأنه ينسجم مع ضعف إيران الإقليمي ورفض الشارع العراقي للهيمنة ورغبة واشنطن في استقرار دون حرب. لكن هشاشته الشديدة تجعل أي تغير جذري في أحد العوامل الثلاثة كفيلاً بدفع الأمور بسرعة نحو أحد السيناريوهات الأخرى.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

منبر الشجعان والشجاعات

تكثُر التابوهات التي حُيِّدت جانباً في عالمنا العربي، ومُنعنا طويلاً من تناولها. هذا الواقع هو الذي جعل أصوات كثرٍ منّا، تتهاوى على حافّة اليأس.

هنا تأتي مهمّة رصيف22، التّي نحملها في قلوبنا ونأخذها على عاتقنا، وهي التشكيك في المفاهيم المتهالكة، وإبراز التناقضات التي تكمن في صلبها، ومشاركة تجارب الشجعان والشجاعات، وتخبّطاتهم/ نّ، ورحلة سعيهم/ نّ إلى تغيير النمط السائد والفاسد أحياناً.

علّنا نجعل الملايين يرون عوالمهم/ نّ ونضالاتهم/ نّ وحيواتهم/ نّ، تنبض في صميم أعمالنا، ويشعرون بأنّنا منبرٌ لصوتهم/ نّ المسموع، برغم أنف الذين يحاولون قمعه.

Website by WhiteBeard
Popup Image