يشهد العراق في السنوات الأخيرة تحوّلاً جيوسياسياً واقتصادياً لافتاً، يسعى من خلاله إلى إعادة صياغة موقعه في منظومة التجارة الإقليمية والدولية. فبعد عقود من الاعتماد شبه الكامل على صادرات النفط، تتجه بغداد إلى بناء اقتصاد متنوع قائم على البنية التحتية والنقل والخدمات اللوجستية. في هذا السياق، برز مشروع "طريق التنمية" بوصفه مبادرة استراتيجية طموحة تهدف إلى جعل العراق محوراً لوجستياً يربط الخليج بأوروبا. إلا أن هذا المشروع لا يمثل مجرد خطة اقتصادية، بل يشكل تحولاً جيوسياسياً واسع الأثر، إذ يضع إيران أمام مفارقة استراتيجية عميقة: هل تنخرط في الممر الجديد لتعزيز حضورها الاقتصادي، أم تتوجس من تقليص نفوذها كممر تقليدي بين الشرق والغرب؟ من هنا، تحاول هذه الدراسة تحليل الموقف الإيراني من المشروع من خلال تتبّع المواقف الرسمية والإعلامية، ثم استشراف السيناريوهات المستقبلية الممكنة.
مشروع طريق التنمية... رؤية اقتصادية أم رهانات جيوسياسية؟
يُعدّ ممرّ طريق التنمية مشروعاً استراتيجياً ضخماً يهدف إلى ربط ميناء الفاو الكبير في أقصى جنوب العراق بالحدود التركية، ومن ثم بأوروبا، عبر شبكة متكاملة من الطرق السريعة وخطوط السكك الحديد بطول يقارب 1200 كيلومتر. وتُقدَّر كلفته بنحو 17 مليار دولار، ومن المقرر تنفيذه على ثلاث مراحل تمتد حتى عام 2050، بما يحوّل العراق إلى مركز لوجستي وتجاري رئيسي يربط آسيا بأوروبا.
أطلقت الحكومة العراقية المشروع رسمياً في أيار/ مايو 2023 خلال مؤتمر "التعاون الإقليمي في بغداد"، معتبرة إياه أحد أهم المشاريع التنموية في تاريخ البلاد الحديث. ويهدف المشروع إلى تقليص زمن نقل البضائع والمسافرين من خلال ربط ميناء الفاو بمعبر أوفاكوي على الحدود التركية، ومنه إلى شبكة النقل التركية وصولاً إلى ميناء مرسين على البحر المتوسط.
"طريق التنمية" العراقي يشكّل حالة فريدة من الارتباك الإستراتيجي لإيران حيث تجد طهران نفسها أمام خيارين متناقضين: الانخراط في المشروع للاستفادة من عوائده الاقتصادية أو الوقوف في وجهه حفاظاً على أهميتها الجيوسياسية كممر رئيسي بين آسيا وأوروبا
حتى أيلول/ سبتمبر 2025، أُنجز نحو 60% من التصاميم والخطط الإستراتيجية تمهيداً لبدء التنفيذ، فيما تواصل اللجان الفنية العراقية، بالتعاون مع تركيا والإمارات وقطر، متابعة مراحل المشروع وتنسيق الجهود لضمان سير العمل وفق الجداول الزمنية المحددة.
يُمثّل طريق التنمية ممراً جيوستراتيجياً متعدد البعد؛ فهو يتيح للعراق التحرّر من الانغلاق الجغرافي، ويعزّز مكانته في منظومة التجارة العالمية، مما يجعله محوراً رئيسياً في سلاسل الإمداد الدولية. ومع ذلك، يعتمد نجاح المشروع على معالجة التحديات البنيوية والإدارية، وتحقيق حوكمة فاعلة، ورفع مستوى الشفافية والاستثمار الأجنبي، إلى جانب التنسيق بين الدولة والقطاع الخاص والشركاء الإقليميين والدوليين.
إقليمياً، يعزّز المشروع دور العراق في النظام الجيوسياسي للمنطقة، ويمكّنه من السيطرة على ممرات الترانزيت الحيوية وتعميق التكامل الاقتصادي مع الجوار. أما دولياً، فيعيد تموضع العراق في سلاسل التجارة والطاقة العالمية، ويزيد من تفاعله مع القوى الكبرى مثل الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، والصين، وروسيا، فاتحاً الباب أمام استثمارات واسعة ونقل تكنولوجيا متقدمة.
الموقف الرسمي الإيراني من مشروع طريق التنمية
يتّسم الموقف الرسمي للجمهورية الإسلامية الإيرانية تجاه مشروع طريق التنمية العراقي بمزيج من التحفّظ والدعم المشروط. فعلى الرغم من رغبة دول عدة في المنطقة في الانضمام إلى هذا الممر الحيوي خلال العامين الماضيين، اتخذت طهران خطاباً دبلوماسياً متوازناً يهدف إلى تجنّب الصدام المباشر مع بغداد، مع الحرص على إبراز رؤيتها تجاه مستقبل الممرّات الاقتصادية الإقليمية. فقد أعلن مستشار رئيس الوزراء العراقي لشؤون النقل، ناصر الأسدي، أنّ سلطنة عُمان وأرمينيا قدّمتا طلبين رسميين للانضمام إلى المشروع، مؤكداً الاهتمام الدولي المتزايد به، وأنّ رؤية الحكومة العراقية تقوم على إشراك الدول المجاورة كشركاء حقيقيين في مشروع طريق التنمية، لا سيما تركيا وقطر والإمارات العربية المتحدة التي أعربت جميعها عن حرصها على دعمه وبناء رؤية اقتصادية مشتركة لتطوير اقتصاد المنطقة.
في المقابل، حرصت المؤسسات الإيرانية الرسمية على تبني موقف براغماتي قائم على مبدأ "التكامل لا التنافس" بين الممرّات الإقليمية. فقد أكّد مسؤولو وزارة الطرق والتنمية الإيرانية في أكثر من مناسبة أنّ المشاريع الترانزيتية في المنطقة لا ينبغي أن تُطرح كبدائل متنافسة، بل أن تشكّل تكاملاً في ما بينها، بما يخدم المصالح المشتركة. وفي هذا السياق، صرّح وكيل وزارة النقل الإيرانية، شهريار أفندي زاده، خلال مؤتمر وزراء النقل الإقليمي في بغداد عام 2023، بأن مشروع طريق التنمية يمثل فرصة لجميع دول المنطقة، مشيراً إلى الإمكانات الكبيرة لممرّات السكك الحديد شمال–جنوب وشرق–غرب، والتي يمكن أن تستفيد منها إيران، والإمارات، والعراق، والسعودية، وتركيا، وعُمان، مؤكداً الدور المحوري للمشروع في حركة نقل البضائع. وأضاف أفندي زاده أنّ المشروع المشترك بين إيران والعراق لربط سكك الحديد بين الشلامجة والبصرة سيبدأ قريباً مرحلته التنفيذية، لكونه حلقة أساسية تتيح لإيران والعراق التكامل في مشاريع النقل الجديدة، ولا سيما في اتجاه أوروبا عبر كلا البلدين.
كما شدّد المسؤولون الإيرانيون على أنّ طهران تعمل بالتوازي على تطوير ممر النقل الدولي شمال–جنوب (INSTC) الذي يربط الهند بروسيا وأوروبا، معتبرين أنّ هذا الممر يمكن أن يتكامل مع مشروع العراق بدل أن ينافسه. وفي هذا الإطار، أكّد السفير الإيراني في العراق، محمد كاظم آل صادق، في أيلول/ سبتمبر 2024، أنّ طهران تشكر الحكومة العراقية على دعوتها للمشاركة في المشروع، وترحب بأي مبادرة تُسهم في تعزيز النمو الاقتصادي والتبادل التجاري بين دول المنطقة.
أما أمين مجلس الأمن القومي الإيراني، علي لاريجاني، فقد شدَّد خلال زيارته الرسمية إلى بغداد على رغبة طهران في توسيع التعاون الثنائي في مختلف المجالات، وخصوصاً في الربط الحديدي الذي يربط حركة المسافرين والبضائع بـ"طريق التنمية" والممرات الإقليمية الكبرى. كما صرّح سعيد خطيب زاده، معاون وزير الخارجية الإيراني، بأن العلاقات بين إيران والعراق وثيقة ومتينة على جميع المستويات، مؤكداً دعم إيران للمشروع لكونه قادراً على تحقيق مكاسب واسعة لجميع دول المنطقة.
غير أنّ هذا الدعم المشروط لا يخفي القلق الإيراني من البُعد الجيوستراتيجي للمشروع، إذ إن الممرّات الكبرى ليست خطوطاً اقتصادية فحسب، بل أدوات نفوذ سياسي وجيوبوليتيكي. وفي هذا السياق، يرى علي حسيني، رئيس لجنة النقل واللوجستيات في غرفة التجارة الإيرانية، أنّ ميناء الفاو العراقي قد يتحوّل إلى منافس رئيس لإيران مستقبلاً، مما قد يؤثر في مسارات العبور الإيرانية نحو تركيا وأوروبا. ويضيف أنّ المشروع يمنح تركيا منفذاً مباشراً إلى الخليج عبر العراق، متجاوزاً الأراضي الإيرانية، مما يقلّص من دور إيران كممر ترانزيت إقليمي، ويشكّل تحدياً لميناء تشابهار كمركز بديل للعبور الإقليمي، خصوصاً مع العقوبات الاقتصادية وضعف البنية التحتية في إيران.
وبناءً عليه، تُبدي طهران مخاوف حقيقية من أن يؤدي صعود العراق كممر بديل إلى إضعاف مكانتها في تجارة الترانزيت الإقليمية. وفي هذا الإطار، انتقد الأمين العام لغرفة التجارة الإيرانية–العراقية المشتركة، حميد حسيني، موقف الحكومة العراقية عبر منصة «إكس»، مؤكداً أنّها رصدت أموالاً لمشروع سكة حديد الفاو باتجاه تركيا، لكنها لم تُبدِ رغبة حقيقية في التعاون بخصوص ربط خط الشلامجة–البصرة القصير. ويرى بعض الخبراء الإيرانيين، مثل علي حسيني الرئيس السابق للجنة النقل في غرفة التجارة الإيرانية، أنّ العراق وضع لنفسه هدفاً استراتيجياً جديداً يتمثل في جعل ميناء الفاو محوراً رئيسياً لممر يمتد نحو تركيا، موازٍ لممر الشمال–الجنوب الإيراني، مما يعكس تحوّلاً استراتيجياً في أولويات بغداد وتراجعاً نسبياً لدور طهران. وفي المحصّلة، يتّسم الموقف الإيراني من مشروع طريق التنمية بسياسة الانتظار والمراقبة، مع رغبة في المشاركة المشروطة، بما يتوافق مع مصالحها الإستراتيجية وتوازناتها الإقليمية.
موقف الإعلام الإيراني من مشروع "طريق التنمية"
تنوّعت مواقف وسائل الإعلام الإيرانية تجاه مشروع "طريق التنمية" العراقي، وانقسمت بين تيارين رئيسيين: تيار رسمي مقرّب من الحكومة، وآخر ناقد يمثل الأصوات المستقلة أو المعارضة نسبياً. فمن جهة، ترى الصحف والمواقع المقرّبة من الحكومة أن المشروع يمثل فرصة للتعاون الإقليمي، وليس تهديداً لإيران. فهي تعتبره مكمّلاً للممرات الترانزيتية الإيرانية، وتؤكد على أهمية مشاركة طهران فيه لضمان مصالحها الاقتصادية والجيوسياسية. ويذهب هذا التيار إلى أنّ العلاقات العراقية–الإيرانية تختلف عن علاقات العراق مع الدول العربية الأخرى، نظراً للروابط التاريخية والمذهبية والاقتصادية بين البلدين. ومن هذا المنطلق، يمكن لإيران أن تستفيد من المزايا الجيوسياسية للعراق لتوسيع نفوذها، وأن تجعل من ربط ميناء الفاو بأوروبا هدفاً يخدم استراتيجيتها الإقليمية على المدى البعيد.
في مقابل التيار الذي يرى المشروع فرصة للتعاون الإقليمي، تتعدّد المخاوف الإيرانية من "طريق التنمية" العراقي، وفي مقدمتها الدعم الأمريكي والتركي للمشروع، ومنح العراق الأولوية المطلقة لطريق التنمية، بينما ترى إيران خط سكة حديد الشلامجة–البصرة هو المسار الحيوي لمصالحها الإقليمية
وتشير بعض التحليلات الإيرانية إلى أن ميناء الفاو قد يقدّم مكاسب مهمة لإيران في مجال العبور التجاري، ويسهّل تصدير السلع منها وإليها. فاستكمال خط سكة الحديد من تشابهار إلى زاهدان يمكن أن يُربطه بخط الشلامجة–البصرة، مكوّناً بذلك شبكة حديدية شرق–غرب تربط شرق آسيا بالعراق ومنه إلى أوروبا. وبذلك، يُمكن للمشروع العراقي أن يُكمّل الممر الإيراني الشمالي – الجنوبي الذي يصل ميناءي تشابهار وبندر عباس جنوباً بمدينة أستارا شمال غرب إيران وعشق آباد شمال شرقها. كما تتطلع طهران إلى ربط السكك الحديد العراقية، الأمر الذي يتيح تصدير النفط الإيراني من ميناء البصرة نحو تركيا ضمن إطار التعاون الثلاثي بين إيران والعراق وتركيا.
إلا أن قطاعاً واسعاً من الإعلام الإيراني ينظر إلى المشروع العراقي بوصفه منافساً مباشراً للمصالح الإيرانية. فإقامة ميناء الفاو الكبير وتحويله إلى ممر دولي رئيس سيجعل العراق مركزاً تجارياً بين الخليج وأوروبا، وهو ما قد يؤدي إلى إضعاف الموقع الجيوسياسي لإيران وتعزيز مكانة تركيا كمحور بديل في شبكات النقل الإقليمي. ويرى هذا التيار أن العراق، عبر مشروع "طريق التنمية"، يسعى إلى إعادة توجيه طرق التجارة بعيداً من الأراضي والموانئ الإيرانية، مما يهدد مشاريع طهران الترانزيتية، وعلى رأسها ممر الشمال – الجنوب. كما أن دور المشروع في نقل الطاقة إلى أوروبا قد يقلّل من اعتماد أوروبا المستقبلي على إيران كمصدر للطاقة.
وفي هذا السياق، حذّر الخبير الإيراني في النقل علي ضيائي، في مقابلة مع صحيفة "شرق"، من أن مشروع "طريق التنمية" "ليس مبادرة عراقية خالصة"، بل "أودعته الولايات المتحدة وتركيا في حضن العراق"، مضيفاً أنّ تنفيذه سيجعل العراق محوراً بديلاً بين الشمال والجنوب على حساب إيران، وبذلك يُتجاوز الممر الإيراني رسمياً.
أما صحيفة "شرق"، فقد أشارت إلى أن العراق كشف عن الممر البديل لإيران خلال قمة إقليمية، موضحة أن المشروع الذي تُقدّر كلفته بـ17 مليار دولار – وتشارك في دراسته شركات إيطالية وفرنسية – يهدف إلى تقصير مسار البضائع من جنوب آسيا إلى أوروبا عبر الخليج وتركيا. وأضافت الصحيفة أنّ العراق لم يُنهِ منذ عقدين خط السكك الحديد البسيط الذي يربطه بإيران عبر البصرة–الشلامجة، بطول 30 كيلومتراً وتكلفة لا تتجاوز 250 مليون دولار، وهو ما يعكس فتور الرغبة العراقية في التعاون الترانزيتي مع طهران.
وفي الاتجاه نفسه، يشير موقع اقتصاد 24 إلى أن العراق، رغم موافقته على ربط سككه الحديد بإيران، يؤكد أنّ الخط لن يُستخدم إلا لنقل الركاب لا البضائع، مما يضعف من جدوى الربط الاقتصادي بين البلدين. أما موقع دبلوماسية إيرانية فكتب أن الأولوية القصوى للعراق حالياً هي "طريق التنمية"، لا أي مشروع بديل أو موازٍ. إذ يسعى العراق إلى ربط حدوده مع السعودية والإمارات ضمن هذا الإطار، وقد افتتح معبرين جديدين مع السعودية وبدأ بإنشاء طرق وطنية لربطها بالمشروع، فيما دعا شركات أوروبية من إيطاليا وفرنسا وألمانيا للاستثمار فيه. ويضيف الموقع أن تركيا تعد من أكبر الداعمين للمشروع، وتعتبره وسيلة لترسيخ نفوذها الاقتصادي والسياسي في المنطقة. وتبقى إشكالية الخلاف الإيراني–العراقي حول خط سكة حديد الشلامجة–البصرة تجسيداً لاختلاف الرؤى الإستراتيجية بين البلدين، إذ يمنح العراق الأولوية المطلقة لطريق التنمية، بينما ترى إيران خط سكة حديد الشلامجة–البصرة هو المسار الحيوي لمصالحها الإقليمية.
ويخشى بعض المحللين الإيرانيين من الانعكاسات الأمنية للمشروع، إذ إن تكثيف الحركة الملاحية مع افتتاح ميناء الفاو قد يتيح فرصاً لاستخبارات دولية معادية لإيران، بما فيها الولايات المتحدة وإسرائيل، ويصعّب على الحرس الثوري مراقبة المنطقة. كما تُثار مخاوف بيئية تتعلق بأنشطة التجريف وتكدّس السفن التجارية، والتي قد تؤثر في البيئة البحرية واقتصاد الصيادين المحليين جنوب العراق وإيران.
الارتباك الإستراتيجي الإيراني وسيناريوهات المستقبل
تمثل مفارقة "طريق التنمية" العراقي بالنسبة إلى إيران حالة فريدة من الارتباك الإستراتيجي، إذ تجد طهران نفسها عالقة بين خيارين متناقضين: هل تنخرط في المشروع للاستفادة من عوائده الاقتصادية، أم تقف في وجهه حفاظاً على مكانتها الجيوسياسية كممر رئيسي بين آسيا وأوروبا؟
على المستوى المبدئي، لا تُظهر إيران رفضاً صريحاً للمشروع، بل تتبع نهجاً يقوم على المراقبة الحذرة والتحفّظ الدبلوماسي، وهو ما يعكس إدراكاً مزدوجاً لطبيعة هذا المشروع. فمن جهة، تدرك طهران أن الطريق العراقي يهدد نفوذها الاقتصادي في بغداد ويعزز الدور التركي، ومن جهة أخرى، ترى فيه فرصة محتملة للاندماج في شبكة إقليمية جديدة قد تمنحها متنفساً في ظل العقوبات الغربية. هذه المفارقة هي ما يمكن تسميته بـ"الارتباك الإستراتيجي" الإيراني، إذ يصعب على طهران تحديد ما إذا كان المشروع فرصة للتكيّف أم تهديداً يجب مواجهته.
تستند هذه المفارقة إلى مجموعة من العوامل المتشابكة. من الناحية الجيوسياسية، يربط طريق التنمية دول الخليج بأوروبا عبر العراق وتركيا، متجاوزاً الأراضي الإيرانية، مما يقلّص من دور إيران كممر ترانزيت رئيس في الشرق الأوسط. ومن الناحية الاقتصادية، يهدد المشروع إيرادات طهران من رسوم العبور والموانئ مثل تشابهار وبندر عباس والإمام الخميني، ويمنح العراق وتركيا دوراً تنافسياً جديداً. أمنياً، تخشى إيران من توسّع الوجود التركي والغربي في شمال العراق وجنوبه، وما قد يصاحبه من إعادة ترتيب للتوازنات الإقليمية. أما سياسياً، فتواجه طهران انقساماً داخلياً بين تيار براغماتي يرى في التعاون مع بغداد مصلحة وطنية، وآخر محافظ ينظر إلى المشروع باعتباره جزءاً من "استراتيجية تطويق" غربية–تركية ضدها.
منذ عقود، اعتمدت إيران على موقعها الجغرافي للسيطرة على طرق النقل الرئيسية في المنطقة، وأبرزها مسار الشمال–الجنوب الذي يبدأ من الهند ويمر عبر الموانئ الجنوبية الإيرانية مثل بندر عباس وتشابهار وصولاً إلى روسيا وأوروبا الشرقية. ومع ذلك، يمكن أن يقتطع طريق التنمية العراقي جزءاً من هذه الميزة الإيرانية. إذا تم نقل البضائع المصدرة إلى الخليج بدلاً من المرور عبر الأراضي الإيرانية، عبر مسار ميناء الفاو–تركيا–أوروبا، فإن دور الموانئ الإيرانية يتقلص عملياً، كما تتشكل مسارات اقتصادية بديلة للدول الإقليمية.
نتيجة لذلك، تواجه إيران تهديداً محتملاً على إيراداتها من العبور وعلى نفوذها الجيوسياسي في المنطقة، بينما تستفيد تركيا استراتيجياً من المشروع، إذ تصبح نقطة ربط بين العراق وأوروبا، مما يعزز من نفوذ أنقرة في الشرق الأوسط ويقوّي موقفها التفاوضي تجاه إيران والدول العربية.
بين "الشراكة المحسوبة" و"البدائل الوطنية" و"المواجهة غير المباشرة"، تتنوّع السيناريوهات الرئيسية المحتملة لتعامل إيران مع "طريق التنمية" العراقي. فما الذي يحدّد فرص حدوث كل سيناريو؟
في ضوء هذه المعطيات المتشابكة سياسياً واقتصادياً وأمنياً، يبدو أن الموقف الإيراني تجاه مشروع طريق التنمية لن يكون موقفاً أحاديّاً أو بسيطاً، بل نتاجاً لتفاعل معقد بين المصالح الوطنية والهواجس الجيوسياسية. فإيران تدرك أن تجاهل المشروع قد يؤدي إلى تهميش دورها الإقليمي، بينما المشاركة فيه من دون حسابات دقيقة قد تضعها في دائرة التأثير التركي والغربي. لذلك، يمكن رسم ثلاثة سيناريوهات رئيسية تعبّر عن خيارات طهران المحتملة بين التكيّف والممانعة في مواجهة هذا التحول الإستراتيجي.
السيناريو الأول: الشراكة المشروطة
يقوم هذا السيناريو على ما تسميه طهران "شراكة محسوبة"، أي انخراط جزئي ومدروس في مشروع طريق التنمية. تسعى إيران من خلاله إلى ربط خطوطها الحديدية، مثل الشلامجة–البصرة وخسروي–خانقين، بالممر العراقي لتأمين حضورٍ اقتصادي محدود يجنّبها العزلة الإقليمية. هذا الخيار يتطلب قدراً من المرونة الدبلوماسية والتفاهم مع بغداد وأنقرة، وربما دعماً روسياً أو صينياً لتقليل الهيمنة الغربية على المشروع. ويُعد هذا السيناريو الأقرب إلى نهج السياسة الإيرانية الراهنة، لأنه يتيح لها "الحضور دون مواجهة".
السيناريو الثاني: بناء البدائل الوطنية والإقليمية
يتمثل هذا السيناريو في سعي طهران إلى تسريع مشروع ممر الشمال–الجنوب، وتطوير خطوط السكك الحديد شرق–غرب داخل أراضيها وربطها بموانئ الهند وروسيا. الهدف هو تحصين الاقتصاد الإيراني وتثبيت موقعها كممرٍّ بديل لا يمكن تجاوزه حتى مع اكتمال طريق التنمية العراقي. ومع ذلك، فإن العقوبات الغربية ونقص الاستثمار الخارجي يشكلان عائقين أمام سرعة تنفيذ هذا الخيار ويحدّان من فاعليته في المدى القصير.
السيناريو الثالث: المواجهة غير المباشرة
في هذا السيناريو، قد تلجأ إيران إلى استخدام أدواتها السياسية والإعلامية داخل العراق لإبطاء تنفيذ المشروع أو التأثير على مساره الجغرافي. كما يمكن أن تسعى إلى تعزيز حضورها في الموانئ الجنوبية العراقية، لضمان استمرار نفوذها اللوجستي في مواجهة النفوذ التركي والخليجي. إلا أن هذا الخيار محفوف بمخاطر التصعيد السياسي واحتمال زيادة عزلة إيران الإقليمية.
في النهاية، يكمن الحل البراغماتي أمام إيران في مبدأ: "إذا لم تستطع إيقاف الطريق، فكن جزءاً منه". ومن خلال ربط مصالحها بمصالح بغداد، وتقديم نفسها كشريك تقني ولوجستي، يمكن لإيران تحويل التهديد إلى فرصة تكيفية تعزز حضورها بدلاً من تهميشها. يكشف هذا المشروع المعضلة الجيوسياسية لإيران في القرن الحادي والعشرين: كيف تحافظ على نفوذها الإقليمي وسط تحالفات جديدة تُعاد صياغتها دونها؟ الجواب لا يكمن في الرفض أو الانفعال، بل في تبني استراتيجية توازن متعددة المسارات تجمع بين التعاون والمنافسة، مع القدرة على التكيف الذكي مع تحولات الجغرافيا الاقتصادية والسياسية في الشرق الأوسط.
أُنتج هذا الموضوع بالتعاون مع مؤسسة روزا لوكسمبورغ.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



