تشويه حضري ورقمي… الحملات الانتخابية في العراق تسنّ سكاكينها 

تشويه حضري ورقمي… الحملات الانتخابية في العراق تسنّ سكاكينها 

سياسة نحن والحقوق الأساسية

الثلاثاء 11 نوفمبر 202511 دقيقة للقراءة

علّق العراقيون آمالهم على صناديق الاقتراع منذ أول انتخابات جرت في العراق في عام 2005، باعتبارها طريقهم نحو التغيير المنشود، ولكن ما حدث كان العكس، فبدلاً من أن تفتح أبواب ساحات التنافس الديمقراطي المفترض، تحولت إلى ساحة صراع محتدم تسوده الانفعالات وتتصارع فيه المصالح الشخصية على حساب إرادة الناخبين.

في الحقيقة، فإن هذه الانفعالات والمصالح وجدت غايتها في استغلال الوضع الاجتماعي، وعوضاً من طرح برامج اقتصادية وتعليمية، اعتمدت على إثارة المخاوف الطائفية والمناطقية والعرقية بديلاً منها.

يقول الباحث الإعلامي خالد الهاشمي لرصيف22، إن هذا الطرح بات جزءاً من الاستراتيجية الانتخابية وليس انحرافاً عنها، وإن الانتخابات في العراق لم تعد مناسبة للترويج لبرامج الخدمات والمواطنية، بل مناسبة لتصفية الحسابات عبر الإعلام التقليدي والجيوش الإلكترونية.

غياب القوانين المنظمة للإعلانات الانتخابية ساهمت في في تعزيز هذه الفوضى. فالقانون العراقي لا يفرض رقابة صارمة على حجم الإنفاق الانتخابي أو على مصادر التمويل الإعلامي، إضافة إلى ذلك، فإن هيئة الإعلام والاتصالات، التي يفترض أن تكون جهة تنظيمية مستقلة، أصبحت في نظر كثير من المراقبين أداة بيد القوى السياسية المهيمنة.

كل ذلك ساعد في تحوّل الحملات إلى فوضى مفتوحة، تتكدس الشعارات على الجدران بلا ضوابط، وتتدلى الإعلانات من الجسور بلا رقابة، وبرامج تلفزيونية تمارس الدعاية المقنعة تحت غطاء الحوار السياسي.

الفوضى البصرية.. من الشوارع إلى الشاشات

تتبدل ملامح المدن العراقية مع كل موسم انتخابي، لتتحول من فضاءات يومية مألوفة إلى ساحات مكتظة بالوجوه والرموز والشعارات، لا يكاد المار في بغداد أو البصرة أو الموصل يرفع بصره إلا وتطارده صور المرشحين المعلقة على أعمدة الإنارة والجسور وجدران المدارس والمستشفيات، حيث تتداخل الألوان وتتراكم اللافتات إلى حدٍ يجعل المشهد العام أقرب إلى ازدحام بصري خانق منه إلى تعبير ديمقراطي منظم.

تقول سارة الجميلي (32 عاماً) من بغداد لرصيف22، إن الإعلانات الانتخابية تفقد المدن ملامحها الأصلية، حيث تُعلق على نحو يفتقر إلى الذوق أو الانسجام البصري، وغالباً ما تترك في مكانها بعد انتهاء الانتخابات لتتآكل بفعل الشمس والغبار، وتتحول تالياً إلى نفايات بصرية تشوه الشوارع.

هذا التشويه لم يقتصر على حدود المشهد المادي، بل امتد إلى العالم الرقمي، فرغم انتشار الملصقات واللافتات، ولكن توجهها نحو الفضاء الرقمي زاد بشكل ملحوظ في الانتخابات الحالية، حتى أصبحت شاشة الهاتف هي الجدار الجديد، والمنشورات الرقمية هي الملصقات الحديثة.

وهكذا، انتقلت الفوضى من جدران الواقع إلى الجدران الافتراضية، ومن أعمدة الإنارة إلى صفحات التواصل الاجتماعي، ليغدو التشويه البصري رقمياً ومؤدلجاً في آن واحد.

تتبدل ملامح المدن العراقية مع كل موسم انتخابي، لا يكاد المار يرفع بصره إلا وتطارده صور المرشحين المعلقة على أعمدة الإنارة والجسور وجدران المدارس والمستشفيات... المشهد العام أقرب إلى ازدحام بصري خانق منه إلى تعبير ديمقراطي منظم

المقارنة بين الحملات التقليدية والرقمية تكشف أن الفرق بينهما ليس في الوسيلة فقط، بل في مستوى التأثير وسرعته، فالإعلان الورقي محدود المكان والزمان، أما المنشور الرقمي فينتشر في لحظات، ويتحول إلى موجة من الترندات التي تصنع رأياً عاماً مؤقتاً، ولكن قوي التأثير. 

مع انتقال المنافسة الانتخابية إلى الفضاء الرقمي، ظهرت الجيوش الإلكترونية كأداة رئيسية في الحملات العراقية، وباتت تؤثر في الناخب أكثر مما تؤثر في الشوارع، فالمتلقي يتلقى يومياً محتوى متضارباً من عشرات الحسابات وصفحات التواصل الاجتماعي.

يقول الباحث التقني علي قاسم، إن الأحزاب السياسية أصبحت تخصص فرقاً لإنتاج محتوى رقمي، ولم يعد عملها يقتصر على النشر فحسب، بل أصبحت تستخدم برامج تحليل بيانات لتحديد نقاط ضعف الناخبين، ثم توجه لهم رسائل مصممة لهم خصيصاً، يراعى فيها وضعهم الاجتماعي والاقتصادي، فتصل منشورات عن فرص العمل في المحافظات الفقيرة، أو عن الأمن في المناطق المتوترة.

ويضيف لرصيف22، أن عمل هذه الجيوش الإلكترونية لا يقتصر على الترويج لمرشحين محددين، بل تستخدم أيضاً لتشويه صورة منافسيهم، حيث تنشر أخبار مقتطعة من خطبهم أو الترويج لشائعات معينة أو أحداث سابقة، ويتم تكرارها عبر عدّة حسابات في توقيت واحد، بما يعطي انطباعاً جماعياً عن حقيقة لا أساس لها إلا في الإنتاج الإعلامي المحترف.

وبحسب تقرير نشرته "أوكسفورد إنترنت إنستيتيوت" في عام 2022، يعتبر العراق من الدول التي شهدت نشاطاً متزايداً في التلاعب الإعلامي المنظم عبر الإنترنت، وأشار إلى وجود شبكات محلية مرتبطة بجهات سياسية تعمل على إعادة إنتاج السرديات وتوجيه الرأي العام.

بحسب دراسات دولية، يشهد العراق نشاطاً متزايداً لظاهرة "اضطراب المعلومات" في السنوات الأخيرة، والتي تشمل نشر المحتوى الضار والمعلومات المضللة بشكل متعمد.

كما أكد تقرير نشره موقع "Freedom House" في عام 2023 أن مصادر المعلومات على الإنترنت تخضع لتحكم أو تضليل من الحكومة أو أطراف نافذين بشكل عام، وقبل الانتخابات خصوصاً، وهو ما يطلق عليه "ظاهرة اضطراب المعلومات".

العراق على وجه الخصوص يشهد نشاطاً متزايداً لظاهرة "اضطراب المعلومات" في السنوات الأخيرة، والتي تشمل نشر المحتوى الضار والمعلومات المضللة بشكل متعمد، بحسب بحث نشرته "National Democratic Institute" بعنوان "Information Disorder in Iraq".

أشار البحث إلى أن هذا النشاط الإعلامي الممنهج يؤثر في الرأي العام والسياسة وحتى في الصحة العامة، ويُستخدم عبر استغلال منصات التواصل الاجتماعي لإيصال هذه الرسائل لاستهداف مشاعر الجمهور كالخوف والغضب والشعور بالغبن، بدل تقديم معلومات موضوعية، كما أكد أن هذه الممارسات تسهم في زيادة الانقسام الاجتماعي، وزعزعة الثقة في المؤسسات، وتأثيرها المباشر على الانتخابات من خلال توجيه الناخبين.

ما بين الشاشات والاقتصاد

حملة التشويه لم تقتصر على مسرح الفضاء الرقمي، بل امتدت إلى شاشات التلفزيون والمواقع الإخبارية التي تدار بشكل مباشر أو غير مباشر من أحزاب أو رجال أعمال لهم مصالح انتخابية، حتى لم تعد وسائل الإعلام تنقل الخبر بموضوعية، بل تنتجه بما يخدم مموليها.

ميدل إيست مونيتور، وثقت هذا الاتجاه في تقريرها المنشور في شهر تشرين الأول/ أكتوبر 2022، وأكدت أن نحو نصف القنوات الفضائية العراقية التي تأسست خلال السنوات الأخيرة، تتلقى تمويلاً من قيادات فصائل مسلّحة أو أحزاب ذات أهداف انتخابية.

ومثال على ذلك تبعية قناة آفاق الفضائية لرئيس ائتلاف دولة القانون، نوري المالكي. وقناة العهد لعصائب أهل الحق. والفرات لعمار الحكيم. والأنبار مقربة من محمد الحلبوسي. و"utv" لخميس الخنجر. وسامراء من مثنى السامرائي.

المال السياسي لا يقتصر على القنوات الإعلامية وصفحات وسائل التواصل، بل يستخدم أيضاً في إغراء الناخبين وإسكات النقد، عبر عدّة إغراءات تشغيل، مثل تشغيل الشباب في مكاتب المرشحين لفترة محددة تنتهي بعد الإنتخابات، أو توزيع المساعدات المادية والعينية، كل ذلك يصب في تجميل صورة المرشح في الإعلام التقليدي والرقمي على حد سواء، بما يعزز سيطرة القوى الحزبية على النتيجة النهائية قبل بدء التصويت.

إلى جانب احتلال الفضاء الحضري والرقمي، ظهرت في الانتخابات الحالية ظاهرة جديدة، تمثلت في ترشيح المؤثرين والمشاهير، لكن اللقاءات التي أجراها بعضهم وتصريحاتهم كشفت عن ضعف واضح في معرفتهم بالشأن السياسي

الباحث محمد التميمي يوضح أن المال السياسي يعمل في العراق بثلاثة أوجه رئيسية، أولها شراء الولاءات، وثانيها تمويل الإعلام الحزبي، وثالثها تمويل حملات التشويه ضد الخصوم.

ويضيف التميمي في حديثه لرصيف22 أن الانتخابات العراقية لم تعد معركة أفكار، بل أصبحت معركة تسويق، حيث تتفوق الصورة على الكلمة، وتنتصر الشائعة على الحقيقة، فالمرشح الناجح ليس من يملك برنامجاً واقعياً، بل من يتقن صناعة الوهم والإعلانات الفخمة، الجمل العاطفية والفيديوهات القصيرة بمؤثرات حديثة. 

ولكن المسؤولين لا يعترفون باستخدام المال السياسي، فعلى سبيل المثال، قال زعيم تيار الحكمة الوطني، عمار الحكيم، في أحد مهرجانات قائمة قوى الدولة الوطنية التابعة له، وصرح بأنهم لا يملكون المال السياسي، ودعا في لقاء تلفزيوني آخر إلى محاربة المال السياسي، فيما يشير الواقع إلى امتلاك تياره نفوذاً سياسياً وبرلمانياً عبر شبكة نوابه في البرلمان ومجالس المحافظات، إضافة إلى هيمنته على هيئة الإعلام والإتصالات عبر رئيسها المقرب منه والذي استقال قبل يومين، نوفل أبو رغيف.

كل ذلك يخفي فراغاً فكرياً، حتى المناظرات الانتخابية النادرة تدار بأسلوب هجومي يركز على مهاجمة المنافسين أكثر من عرض البرامج والخطط الواقعية.

يقول التميمي، إن الظروف الاقتصادية الصعبة التي يعيشها المواطن العراقي تعزز هذا الواقع وتجعل الناس أكثر استعداداً لتصديق أي وعد وإن كان وهمياً، وكلما زادت الأزمة، زادت فاعلية هذا التأثير الناتج عن المال السياسي.

إلى جانب كل هذه المؤثرات، ظهرت في الانتخابات الحالية ظاهرة جديدة، تمثلت في ترشيح المؤثرين والمشاهير، اللقاءات التي أجراها بعضهم وتصريحاتهم كشفت عن ضعف واضح في معرفتهم بالشأن السياسي، وهو ما يدفع إلى إعتبار أن ترشيحهم تم بناء على رغبة القوى السياسية في استثمار جماهيرية هؤلاء المؤثرين.

ولتوضيح هذا الجانب فوفقاً لقانون ساينت ليغو الذي أعيد العمل به، تذهب أصوات المرشح الخاسر إلى مجموع القائمة التي رُشح عنها، فعلى سبيل المثال، إذا نال أحد المرشحين 2000 صوت فقط ولم يفز بالمقعد، تُضاف أصواته إلى مجموع قائمته وتساعد القائمة في زيادة عدد مقاعدها النيابية. 

الديمقراطية المرهقة وتفريغ الانتخابات من معناها

تكرار أساليب التشويه والتضليل، سواء عبر الحملات الرقمية أو الإعلام التقليدي المدعوم مالياً، يؤدي إلى إرهاق الناخب العراقي تدريجياً، فزيادة الكم الهائل من الإعلانات المضللة على وسائل التواصل الاجتماعي تصل إلى حد التشبع، وتضعف قدرته على التحليل الموضوعي للبرامج السياسية، وتجعله عاجزاً عن التمييز بين الحقيقة والادعاء، وتدفع تالياً إلى مزيد من الانقسام الطائفي والحزبي، بحسب ما تقوله الباحثة الاجتماعية، سجى خالد لرصيف22.

هذا الضغط الهائل لا يهدد المواطن فحسب، بل يهدد استقرار العملية السياسية أيضاً، بحسب بحث نشرته مجموعة الأزمات الدولية في عام 2023، حيث يقول أن غياب المنافسة البرنامجية الواضحة يجعل الانتخابات وسيلة لإعادة إنتاج نفس القوى السياسية بدلاً من تمكين التغيير.

في هذه البيئة، يشعر المواطنون باللامبالاة، بينما ينظرون إلى الانتخابات على أنها عملية مسرحية لا تعكس إرادتهم الحقيقية.

شريحة الشباب، التي تمثل أكثر من 60% من سكان العراق، هي الأكثر تأثراً بهذا الواقع، حيث يقول حسن رضا، 30 عاماً من بغداد، إن في كل دورة نسمع وعوداً عن فرص عمل وإصلاح، لكن بعد الفوز "نشوفهم نفسهم بنفس المناصب بس بلا نتائج"، ويضيف، لم نعد نصدق الصورة أو الكلام، لأن التجربة أثبتت أن اللعبة مغلقة وأن عملية تدوير الوجوه مستمرة.

وتشير الأرقام إلى هذا الواقع بوضوح، ففي تقرير الباروميتر العربي لعام 2024، أكد أن نسبة الثقة بالبرلمان العراقي بلغت 21% في عام 2021، فيما وجد مركز تشاثام هاوس أن أكثر من 63% من الشباب العراقيين يعتقدون أن النظام السياسي الحالي أسوأ مما كان قبل عام 2003.

إيمان الربيعي (27 عاماً) من بغداد، تؤكد لرصيف22 أن الحل هو مقاطعة الإنتخابات وعدم إيلاء أهمية لأي منشورات إنتخابية، وتعتبر أن المقاطعة هي أفضل وسيلة للاعتراض على الفساد السياسي المستفحل في البلاد.

ولكن البعض يرى أن الحل لا يكمن في مقاطعة الانتخابات، بل في تطهيرها من أدوات التضليل، فبحسب الناشطة المدنية إيناس العزاوي أن المشكلة ليست في الديمقراطية نفسها، بل في من شوهها والمطلوب هو شفافية في التمويل وإعلام مستقل وقوانين تمنع الإعلانات المضللة.

في النهاية، يعيش الشباب العراقي توازناً بين اللامبالاة والاحتجاج، وبين كل ذلك يبقى التحدي الأكبر هو تمكين الشباب من معرفة الحقيقة عبر الإعلام المستقل أو برامج التثقيف المدني والسياسي، وضمان الشفافية في الانتخابات.

وبدون ذلك، سيبقى الشباب ضحية اللعبة الإعلامية والاقتصادية التي تهيمن على الانتخابات، وستبقى المشاركة محدودة بين اللامبالاة والاحتجاج الجزئي، بعيداً من ممارسة الديمقراطية بمعناها الحقيقي.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

منذ 12 سنةً، مشينا سوا.

كنّا منبر لناس صوتها ما كان يوصل،

وكنتم أنتم جزء من هالمعركة، من هالصوت.

اليوم، الطريق أصعب من أي وقت.

وصرنا بحاجة إلكن.

Website by WhiteBeard
Popup Image