يثير توقيع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، أمراً تنفيذياً بعدّ جماعة الإخوان المسلمين في بعض الدول العربية كالأردن ولبنان ومصر، جماعةً إرهابيةً أجنبيةً، يُحظر التعامل معها، مع ما يتبع ذلك من تجريم لنشاطها واستثماراتها ومصادر أموالها، وحتى علاقاتها، يثير أسئلةً عدة حول نشأة الجماعة وتاريخها ودورها وداعميها، ولماذا يتم التخلّي عنها الآن؟ ولصالح من؟ وماذا؟
لفهم هذه الجماعة وظروف نشأتها علينا العودة إلى سنوات تفكك الإمبراطورية العثمانية، والبيئة التي نشأت بعد انكماش هذه الامبراطورية، ووضع ممتلكاتها من الأراضي العربية تحت الانتدابين البريطاني والفرنسي، والصدمة الحاصلة، نتيجةً لذلك، عند العرب والمسلمين، ومحاولاتهم استعادة صيغة ما لحكم إسلامي بأيدٍ عربية.
خاتمة الهزائم
هُزمت الإمبراطورية العثمانية على أيدي تحالف القوّتين العظميين آنذاك، بريطانيا وفرنسا، وبعيداً عن القوى المحلية في الأقطار العربية، سواء في بلاد الشام أو الحجاز، وتأثيرها في مسار المعركة. إلا أنّ النتيجة النهائية كانت انكفاء الإمبراطورية، ومعها انكفاء الحكم بصيغته الإسلامية، والذي لم يعرف العرب صيغةً أخرى غيره على امتداد مئات السنوات، أي منذ حكم النبي محمد وحتى بدايات القرن العشرين.
لكن هذه الهزيمة لم تكن بنت لحظتها، أي لم تكن مفاجأةً جلبتها الحرب العالمية الأولى، وأطاحت بدولة قوية وحكم مستقرّ ومجتمعات مطيعة، بل كانت خاتمةً لهزائم متتالية وخسارات متعاقبة لدولة المسلمين في أواسط وشرق أوروبا واليونان، وتململ وثورات أو انتفاضات محلية في المنطقة العربية، مصحوبة بإصلاحات اضطرارية تحت ضغط الحداثة الأوروبية، وعلاقات الثورة الصناعية ووسائل إنتاجها.
كانت أفكار الأفغاني وعبده ورشيد رضا، تُقدَّم للمجتمع من خلال منبر المسجد أو حلقة النقاش أو صحيفة "المنار" وغيرها، بينما اختار حسن البنا الصيغة التنظيمية السياسية التي يديرها مكتب الإرشاد وتتلقى تعليماتها من المرشد الأعلى
ما يعنينا هنا هي الحصة العربية من محاولات الإصلاح، والمساهمة الفكرية التي قام بها المفكرون العرب، وتحديداً المسلمين منهم، من أجل إيجاد طريقة لاستقرار هذا الحكم في بلدانهم، أو استبداله، أو إجراء تغييرات عليه بما يناسبهم ويعود بالمصلحة على الإسلام والمسلمين وبلدانهم.
الخيوط الأولى
لن نتطرق هنا إلا إلى ما يفيدنا في الوصول بشكل مباشر إلى حركة الإخوان المسلمين، أي إلى الخيط الذي يربط جمال الدين الأفغاني (أفغاني الأصل)، كمصلح إسلامي في نهايات القرن التاسع عشر قدم مساهمات مهمةً على المستوى الفكري، وإن لم ترَ النور في مجال التطبيق، مروراً بتلميذه وصديقه المقرّب والمخلص الشيخ محمد عبده، ثم رشيد رضا ومجلة "المنار"، وصولاً إلى حسن البنا وحركته التي استمرت قويةً إلى حين الاصطدام بترامب.
ذهب الأفغاني وذهبت أفكاره النيّرة مع ذهاب الإمبراطورية التي أراد إصلاحها، فجاء محمد عبده في مصر، محاولاً إيجاد صيغة "وطنية" للحكم لا تنتقص من الإسلام ولا تظلم تمظهره الوحيد، والمعترف به في الأستانة. يمكن القول إنّ الاختلاف بين الأفغاني وعبده هو أنّ الأوّل نادى بالجامعة الإسلامية بتطعيمات إصلاحية، بينما سعى الثاني إلى الدولة الوطنية المستفيدة من امتدادها التاريخي الإسلامي والمستندة إليه، والمتطلعة من جانب آخر إلى تجارب الغرب ومحاكاتها استناداً إلى "المصلحة" كمبدأ تشريعي.
هذا ما يفسّر أنّ "تلاميذ عبده"، بتعبير ألبرت حوراني، انقسموا في ما بعد إلى علمانيين كما حصل مع مفكري بلاد الشام وعلي عبد الرازق في مصر صاحب كتاب "الإسلام وأصول الحكم" والذي هاجمه أحد أهم التلاميذ الذين يعنوننا هنا، أي ممثل القسم الثاني من التلاميذ، صاحب الرؤية الدينية الإسلامية، رشيد رضا، إذ قال فيه ما سوف يجد صداه في لغة الإسلاميين إلى يومنا هذا. فالكتاب برأيه "آخر محاولة يقوم بها أعداء الإسلام لإضعاف هذا الدين وتفتيته من الداخل".
الانقلاب الأوّل
رشيد رضا، تلميذ مخلص لمحمد عبده، قضى حياته في شرح وتفسير ومديح عبده، برغم انقلابه الشديد على الخلاصة النهائية لفكرة أستاذه عن الحكم. ففي حين كان الأستاذ يميل إلى الدولة الوطنية الراعية لكل طوائفها، عاد رشيد رضا للحديث عن الخلافة الإسلامية والأمة الإسلامية. هذه العودة يمكن تفسيرها أو إيجاد بعض أسبابها في الحنين إلى الخلافة الضائعة ومحاولة استرجاعها، على عكس عبده الذي كان يطرح أفكاره بوجود هذه الخلافة، ولكن بترهّلها.
فشلت كل محاولات العرب والمسلمين، من مفكرين ومن سياسيين في استرجاع شكل ما للخلافة الجامعة لأمّة المسلمين؛ لا محاولات تنصيب الملك فؤاد نجحت، ولا محاولات مبايعة الشريف حسين أبصرت النور. انتصرت خرائط سايكس بيكو في بلاد الشام على محاولات وحدة الأمة الإسلامية التي أرادها المفكرون والإصلاحيون الإسلاميون (تلاميذ محمد عبده)، كما انتصرت على محاولات وحدة الأمة العربية، التي رغب فيها ودعا إليها المفكرون القوميون والعلمانيون (تلاميذ محمد عبده أيضاً).
جاء حسن البنا في فترة اليأس من الوحدة تحت راية الخلافة الجامعة، وفترة الاستعمار البريطاني، والخوف من الشقّ الثاني من تلاميذ عبده العلمانيين، فما كان منه إلا الدعوة إلى طلاء الدولة القُطرية باللون الإسلامي.
كان لرشيد رضا تلميذ نجيب يراقب مطالبه الكبيرة بوحدة الأمة الإسلامية وهي تتحطم على صخرة "الدولة القُطرية". وكان يعلم أن هذا الانتصار للدولة القُطرية ولسايكس بيكو حاسم لا محالة، وسيكون هو الشكل الأوحد للحكم لسنوات قادمة. يمكن إضافة أنّ مصر كانت نموذجاً مستقلاً عن الإمبراطورية العثمانية وتدار من قبل عائلة محمد علي الكبير منذ مئة عام، وهي لا تعاني من تبعات سايكس بيكو، وإن كانت تعاني من أصحابه لفترة طويلة قبل ذلك.
وعليه، جاء حسن البنا في فترة اليأس من الوحدة تحت راية الخلافة الجامعة، وفترة الاستعمار البريطاني، وفترة الخوف من الشقّ الثاني من تلاميذ عبده العلمانيين، مفكري عصر النهضة، وفترة مؤشرات الدولة القُطرية كشكل جديد للحكم، وفترة التأسيس الكامل لمنظور الإصلاح الإسلامي، والنموذج المكتمل والمتحقق في حكم مستقلّ لفكر محمد عبد الوهاب في السعودية، فما كان منه إلا الدعوة لتغيير شكل ومضمون الدولة القُطرية بأن يسعى إلى طلائها باللون الإسلامي، فنادى بـ"الدولة الإسلامية" كبداية على طريق الخلافة، وإن كان يعلم تماماً أنّ البداية هذه هي الغاية النهائية لمطلبه.
إلى الصيغة التنظيمية درّ
ما الذي يفرّق حسن البنا عن سابقيه من المفكرين الإسلاميين؟ إنه ببساطة ذهابه نحو تشكيل جسم سياسي لتحقيق رؤيته. ففي حين كانت أفكار الأفغاني وعبده ورشيد رضا، تُقدَّم للمجتمع من خلال منبر المسجد أو حلقة النقاش أو صحيفة "المنار" وغيرها، اختار حسن البنا الصيغة التنظيمية السياسية التي يديرها مكتب الإرشاد وتتلقى تعليماتها من المرشد الأعلى.
وهي الصيغة الهرمية ذاتها المجرّبة والمعمول بها في الأحزاب الأوروبية، وصيغة الدعاية السياسية ذاتها المعتمدة بريطانياً منذ نشوء الدولة القومية في أوروبا، والصيغة "التمثيلية" التي تعتمدها الأحزاب في الصراع على تمثيل المجتمع واستخدامه للوصول إلى السلطة. بمعنى آخر، كان حسن البنا أول من أسس حزباً سياسياً بهيكلية حديثة للوصول إلى الحكم، مع فارق مهم جداً وهو أنّ كلّ ذلك كان يتم عبر الانتماء التام إلى أيديولوجيا وليس إلى وطن، فالوطن كان (وما زال) ساحةً مناسبةً وملعباً جيّداً.
هل ساعده البريطانيون في ذلك؟ هل هم من دعموه وشجعوه؟ هل جماعة الإخوان المسلمين تنظيم بريطاني؟ كل هذه أقوال وآراء وتحليلات لها من المؤيدين والبراهين ما لا يستهان به، ويستطيع القارئ بنفسه البحث عنها والاطلاع عليها، لكن المؤكد أنّ بريطانيا كانت دوماً "الوطن البديل" لقيادات الإخوان واستثماراتهم، وهي استفادت من هذه الجماعة ووضعتها أيضاً كبديل جاهز منوط به حفظ مصالحها في المنطقة، أو استخدامه لذلك وتوظيفه سياسياً كلما دعت الحاجة، أو كلما تململ أحد المتعاونين من الأنظمة، أو حاول الانتقال إلى مظلة أخرى غير البريطانية.
لهذا نجا لبنان
هنا، يستطيع القارئ أيضاً أن يبحث في علاقة الإخوان وبريطانيا مع عبد الناصر الذي انقلب على الدعم البريطاني، وفي الأردن الذي تملّص من العباءة البريطانية نحو المظلّة الأمريكية، وفي سوريا والعراق، وأن يطرح على نفسه سؤالاً بسيطاً: لماذا نجا لبنان من تنظيم قويّ للإخوان؟ ليس للسبب الذي قد يتبادر إلى الذهن وهو التنوع الطائفي وصراعاته، فهذا يصلح أن يكون حافزاً لا عائقاً، لكن السبب الحقيقي هو أنّ لبنان يقع ضمن النفوذ الفرنسي لا البريطاني. قد يفيدنا أيضاً تأمّل التجربة الجزائرية كمنطقة نفوذ فرنسية، وكيف تم فيها الصدام مع أدوات بريطانيا حين حاولت المزاحمة هناك.
ربما يسأل ترامب: لماذا الحفاظ على حليف كبريطانيا؟ ولماذا لا ننهي آخر أدواتها الغبية في المنطقة ونرتاح من هذا الهمّ؟
الأداة البريطانية كانت تلقائياً أداةً لحلفاء بريطانيا من الإدارات الديمقراطية في الولايات المتحدة، وهذا يمكن رؤيته بشكل واضح ودون مواربة في مذكرات هيلاري كلينتون وسياسات أوباما قبلها خلال الربيع العربي، ودعمهم المطلق لتجريب الإخوان في الحكم كبديل موثوق ومشغول عليه جيداً. هل سأل أحد عن التسارع الذي تم فيه إيصال الجولاني إلى دمشق قبل أيام من مغادرة الديمقراطي بايدن منصبه في الإدارة الأمريكية، وعن عدم سعادة ترامب بذلك ورميه التهمة على أردوغان؟ أو هل يتذكر أحد الاستخدام الأمريكي الفج والمفضوح للإخوان وتفريعاتهم في أفغانستان زمن الحرب الباردة؟
صحيح أن الإخوان تنظيم عالميّ كما أسلفنا، إلا أنّ عمله يتم داخل الدولة القُطرية، أي في كل دولة على حدة، وإن كان بالتنسيق والدعم المتبادلين. هذا العمل لا يبغي هدم الحدود بين الدول، ولو أنّ خطابه يعلن غير ذلك من ناحية الدعوة إلى وحدة الأمة الإسلامية، لكن تجربة مئة عام من العمل تشير بوضوح إلى الالتزام الصارم بهذه الحدود والعمل ضمن شروطها، أي ضمن شروط سايكس بيكو بشكل أو بآخر.
قد يشذّ عن هذه القاعدة أبو بكر البغدادي وتنظيمه "داعش" في العراق وبلاد الشام، لكن هذا الشذوذ يصطدم بتبرؤ الإخوان والاتحاد العالمي لعلماء المسلمين من بعض جوانب هذه التجربة، كما يصطدم بالعلاقة الإشكالية مع الأمريكيين وبدايات تجريبهم مشروع الشرق الأوسط الجديد، والأدوات اللازمة لذلك.
لكن الأمريكيين مختلفون في ما بينهم حول الشرق الأوسط الجديد، وهذا الخلاف يبدو واضحاً من خلال الفروقات في تعاملهم مع إيران، وسوريا، وإسرائيل، ووجود الجيش الأمريكي في العراق من عدمه، ومن خلال نظرتهم إلى الحرب الأوكرانية الروسية، وكثير من القضايا التي تجد أسبابها في المال وفي التكنولوجيا، وفي أهمية الحلفاء لتحقيق المصالح على أكمل وجه.
ترامب، ممثل التيار الأقوى في الحزب الجمهوري، صاحب مقولة "لنجعل أمريكا عظيمةً من جديد"، يعرف جيداً أنّ أوروبا ليست قارةً عجوز وحسب، بل هي تفقد دورها ومناطق نفوذها في إفريقيا، وفي الشرق الأوسط والبعيد، وهذا يخدم مقولته جيداً. وهو يعرف أنّ الشريك والزبون كليهما يخدمان مقولته أكثر من الحليف. ويعرف أنّ بريطانيا يمكنها أن تكون زبوناً مثلها مثل الهند التي فقدتها قبل زمن طويل، بل هي أقل أهميةً منها، فلماذا الحفاظ إذاً على هكذا حليف؟ ولماذا لا ننهي آخر أدواته الغبية في المنطقة ونرتاح من هذا الهمّ؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



