بين جدران المبنى العتيق على كورنيش النيل في القاهرة حيث تراكمت مئات الآلاف من المخطوطات التي كتبتها أيدٍ لم تعد معروفة، ترقد نسخة يتيمة لكتاب نادر في تاريخ الفكر الإسلامي. لا تكمن نُدرته فقط في كونه أقدم ردّ وصلنا على الإلحاد داخل البيئة الثقافية الإسلامية، بل في كونه النافذة الوحيدة المتاحة اليوم للاطلاع على جانب من أفكار ابن الراوندي، أحد أكثر الشخصيات إثارة للجدل في التراث العربي الإسلامي، والذي فُقد معظم إنتاجه.

تحتفظ دار الكتب المصرية، المعروفة سابقاً بـ"الكتبخانة الخديوية" (المكتبة الوطنية للدولة المصرية) بمخطوطة فريدة لكتاب تخبرنا صفحة عنوانه بأنه "الانتصار والرد على ابن الراوندي الملحد، وما قصَد به من الكذب على المسلمين والطعن عليهم"، من تأليف أبي الحسين عبد الرحيم بن محمد الخياط المعتزلي (ت. نحو 300هـ/913م). وكان أبو الحسين أحمد بن يحيى بن اسحاق بن الراوندي، المعروف اختصاراً بابن الراوندي، ألف كتاباً بعنوان "فضيحة المعتزلة"، ينتقد فيه المعتزلة نقداً شديداً. فقام أبو الحسين عبدالرحيم بن محمد بن عثمان الخياط وهو من أعيان علماء المعتزلة في ذلك الوقت بتأليف كتاب "الانتصار" للرد عليه.
مصدر وحيد نادر لابن الراوندي
لا تكمن قيمة كتاب الانتصار في سياقه العقدي فحسب، بل لأنه المصدر الوحيد الذي حفظ لنا أقوال ابن الراوندي نفسه، والتي لم يبق لها أثر في مؤلفاته الأصلية المخطوط محفوظ تحت الرقم 852 توحيد في دار الكتب، في مجلد واحد. ويتكوّن المخطوط من 62 ورقة وهو في حالة جيدة جداً. المخطوط مُؤرَّخ، بحسب بيان الختام في نهايته، في جمادى الأولى سنة 347هـ. وقد اطلعت على أصله ولمسته بيدي وفحصته في دراستي للدكتوراه عن ممارسات النسخ والكتابة في المخطوطات العربية المبكرة.
بين دفّتي مخطوطة عتيقة، يطلّ علينا صوتٌ مفقود من تراث الجدل العقلي في الإسلام؛ كتاب "الانتصار" يفتح نافذة نادرة على أفكار رجل ضاعت مؤلفاته وبقي صداها يتردّد من خلال خصومه وحدهم
أما ناسخ المخطوط فهو مجهول، إذ لا يشير قيد الفراغ في نهاية إلى اسمه. ويحتوي المخطوط على قيد تملك نصه: "من كتب محمد بن طولون الحنفي لطف الله تعالى به". وبناءً على هذا القيد فإن صاحبه هو المؤرخ والفقيه الدمشقي محمد بن طولون الحنفي الذي وُلد في الصالحية وعاش في الفترة 880 -953هـ/1475- 1546م . هذا القيد يبرز قيمة المخطوط العالية، إذ كان عالم كبير بحجم بن طولون الحنفي الدمشقي حريصاً على اقتنائه.
عتبة العنوان الكاشفة
عندما نقترب من المخطوط أكثر ونبدأ الولوج في عالمه النصي، نجد المخطوط يحتوي على صفحة عنوان تُظهر عنوان الكتاب واسم المؤلف: "كتاب الإنصاف والرد على ابن الراوندي الملحد ما قصد به من الكذب على المسلمين والطعن عليهم". ولعل كتابة الكلمتين الأوليتين من العنوان بخط كوفي عريض هو إنما للفت نظر القارئ إلى أنه مقبل على أمر جلل. وكما هو واضح، فإن العنوان مفصل بدرجة كبيرة أي تفنيد آراء ابن الراوندي. فمثل هذا العنوان يمنح القارئ فكرة أولية عن محتوى الكتاب، وبالتالي يمكن اعتباره عنواناً كاشفاً وكأنه ملخص يعمد إلى توضيح مضمون الكتاب.

كما يعكس العنوان الرأيَ المتحيّز للمؤلف تجاه ابن الراوندي، حيث يصفه في العنوان بأنه "ملحد" تعمّد الكذب على المسلمين والطعن فيهم". كما يرد على صفحة العنوان هذه اسمُ المؤلف بكنيته، واسمه العلم، واسم أبيه، ولقبه: تأليف أبي الحسين عبد الرحيم بن محمد الخياط.
عتبة الاستهلال الغاضبة
وإذا ما مررنا من عتبة العنوان، وولجنا إلى عتبة الاستهلال، فإننا نلحظ غياب البسملة والحمدلة والصلاة على النبي. وليس هذا إلا لتلف الورقة في الموضع الذي يُتوقّع أن تكون فيه هذه الصيغ قد كُتبت. وما تبقى من صيغة الاستهلال هو جزء من الصلاة على النبي: "...وعلى آله الطيبين". كما أن هناك جزءاً آخر مفقوداً من النص، يليه دعاء يتصل بموضوع الكتاب: "إنّا نستعينك على جهاد الأعداء والردّ على السفهاء ونسألك كلمة العدل في الغضب والرضا".
هنا، يستنجد المؤلف بالله ليعينه في جداله مع من يخالفونه في العقيدة (وهو ما يقصده بـ"جهاد الأعداء والرد على السفهاء")، الذين يصفهم بأنهم أعداء وجهلة، وطبعاً هو يعتبر ابن الراوندي واحداً منهم، ولذلك ألّف هذا الكتاب بأكمله للرد عليه.
وبدأ المؤلف (الخياط المعتزلي) مخاطباً القارئ في المقدمة: "قد قرأت -أسعدك الله بطاعته ووفقك لاتباع مرضاته- كتاب الماجن السفيه، وفهمت ما ذكره فيه، فرأيته كتاب إنسان حانق على أهل الدين، شديد الغيظ على المسلمين، يحكي عنهم ما ليس من [كلمة مفقودة]، بما ليس من مذهبهم، جرأة منه على الكذب والبهتان".

ثم بدأ الخياط في ذكر ما أغضبه من ابن الراوندي: "ذكر المعتزلة فشتمهم، وبهتهم بما ليس فيهم، وأوهم جُهّال الرافضة وحَشْو أهل الإمامة أنه من نظراء المعتزلة وأكفائهم، وأنه عالم بمذاهبهم وأقوالهم. ويحكي عن ابن الراوندي ويقول: وأَلَّف عدة كتب في تثبيت عقيدة الإلحاد، وإبطال التوحيد، ومجد الرسالة، وشتم النبيين -عليهم السلام- والأئمة الهادين... فمنها كتاب يُعرف بكتاب التاج".
ثم أخذ يعدد تلك الكتب التي ألفها ابن الراوندي مضمناً ذكرَها ما أغضبه: "وأنا، بعون الله، ذاكر ما في كتابه، وناقض عليه حرفاً بحرف، ومبيّن كذبه على العلماء، وتحريفه لأقوالهم، وبالله أستعين". ثم شرع الخياط في ردوده.
رد منظم وموجه
هذا النص المخطوط، هو من أقدم نماذج التأليف في أدب الرد في التراث الإسلامي. وخدمة لغرض النص، فإن بنيته وردت على هيئة تنظم تحقيق هذا الغرض. يعرض نص المخطوط آراء ابن الراوندي والردود النقدية التي يقدّمها المؤلف على تلك الآراء. وتُسبق آراء ابن الراوندي بعبارات من قبيل: "وأما قول صاحب الكتاب"، و"فأما قوله"، وتُستخدم أيضاً صيغ أخرى لتقديم أفكار ابن الراوندي، مثل: "زعم الماجن السفيه"، و"ثم إن الماجن السفيه قال"، أو "ثم إن الماجن السفيه ذكر".
أما الردود التي يقدّمها الخيّاط، فتُسبق بعبارات مثل: "يقال له"، أو "فنقول والله الموفق للصواب".
قبل الختام... من لمس هذا المخطوط؟
هذا المخطوط لفت انتباه باحثين عرب وغربيين؛ ففي عام 1967 ذكر فؤاد سزكين مخطوط "الانتصار" في موسوعته الشهيرة Geschichte des arabischen Schrifttums (تاريخ التراث العربي). أما المستشرق السويدي نَيْبِرغ نشر عام 1925 نشرة نقدية للكتاب استناداً على هذه النسخة الخطية المحفوظة بدار الكتب المصرية.
بالإضافة إلى ذلك، وفي دراستة متعددة المجلدات التي نُشرت في الفترة (1975-1977) استخدم عبد الأمير الأعسم هذا المخطوط في دراسته عن كتاب فضيحة المعتزلة لابن الراوندي، والذي أشرنا إليه سابقاً. و أشار الستار الحلوجي إلى هذا المخطوط في كتابه "المخطوط العربي". كما نشر الباحث السويدي يوران لورشون دراسة عام 2018 حكى فيها عن قصة المستشرق السويدي نَيْبِرغ ، صاحب أقدم نشرة نقدية لكتاب "الانتصار".
ليس "الانتصار" مجرد منازلة كلامية، بل كل تفصيل في هوامشه وأقيده يروي قصة رحلة طويلة لكتاب صمد بينما تلاشت مصادره الأصلية
وكان جيمس ويفر، الباحث بجامعة زيورخ السويسرية، قال لي في يوم 25 شباط/فبراير عام 2021 في بريد إلكتروني إنه يعمل على إعداد نشرة نقدية وترجمة حديثة إلى اللغة الإنكليزية لهذا الكتاب. كما قام كاتب هذه السطور بدراسة هذا المخطوط في دراسته للدكتوراه بجامعة برلين الحرة بألمانيا والتي ركزت على ممارسات النسخ والكتابة في المخطوطات المبكرة.
عتبة الختام ونهاية الكلام
ينتهي هذا المخطوط بقيد فراغ موجز يقول فيه الناسخ: "تم الكتاب والحمد لله وليّ الحمد… / نُسخ في جمادى الأولى سنة 347 هـ/ وحسبي الله وحده". وهنا استخدام فعل "نُسخ" يشير، على الأرجح، إلى أن الكتاب نُسخ من نسخة أخرى. أما لو كان الكتاب مكتوباً بخط يد مؤلفه مباشرةً، لكان الفعل الأنسب هو "كُتب". وإذا كان النص قد ورد بالتلقي (الإملاء)، لكان من المناسب استعمال فعل مثل "أُملي".

ويتكوّن تاريخ النسخ المذكور في هذا القيد من الشهر جمادى الأولى والسنة حسب التقويم الهجري. سنة النسخ مكتوبة بالأرقام الهندية العربية، وهو أمر غير شائع في مخطوطات القرن الرابع/العاشر الميلادي، حيث كان يُفضل في ذلك العصر كتابة الأرقام بالحروف الهجائية العربية. وقد كتب آدم جاتشيك في كتابه "Vademecum" مدخلاً مركزاً يتضمن تفاصيل عن تاريخ وتطور الأرقام الهندية. فشكل الرقم الأوسط في سنة النسخ هنا، الرقم 4، (انظر صورة المخطوط) يصعب قراءته دون التعرف المسبق على أشكال الحروف الهندية العربية من واقع المخطوطات كما رصدها آدم جاتشك.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



