عرف المسلمون ظهور العديد من المذاهب الفقهية والعقائدية عبر تاريخهم الطويل. يُعدّ المذهب الشافعي واحداً من أهم تلك المذاهب على الإطلاق. أسهم الإمام محمد بن إدريس الشافعي في صياغة العديد من النظريات الفقهية التي لاقت حضوراً مؤثراً على مرّ القرون. كما ساعدت المبادئ التي وضعها في إنتاج "بارديم" معرفي ربط بين الديني والسياسي والأخلاق.
الإمام الشافعي
هو الإمام محمد بن إدريس الشافعي. ترجع أصوله إلى قبيلة قريش، وبالتحديد إلى المطلب بن عبد مناف بن قصي بن كلاب. وُلد في مدينة غزة في سنة 150 هـ، وانتقلت به أمه وعمره سنتان إلى مكة.
بدأت قصة الشافعي مع العلوم الدينية منذ سنّ مبكرة، إذ يقول: "حفظت القرآن وأنا ابن سبع سنين، وحفظت الموطّأ وأنا ابن عشر سنين". سافر بعدها في طلب العلم وزار العديد من الأقطار الإسلامية، ودرس على يد العلماء المرموقين المعروفين في عصره؛ على سبيل المثال، رحل إلى المدينة المنورة ليتتلمذ على يد الإمام مالك بن أنس، كما سافر إلى العراق ليطلب العلم على يد محمد بن الحسن الشيباني، صاحب الإمام أبي حنيفة النعمان.
اشتهر الشافعي في العراق باعتباره واحداً من كبار الفقهاء الذين يقصدهم الناس للفتيا ومعرفة الأحكام الشرعية. وفي سنة 199 هـ سافر إلى مصر، وظل مقيماً فيها حتى توفي في سنة 204 هـ. يقع ضريحه في مدينة القاهرة ويقصده كثيرون للزيارة والتبرك.
صنّف الشافعي الكثير من الكتب ومن أشهرها كتاب "الرسالة"، وكتاب "الأم". كما نُقلت عنه عشرات القصائد الشعرية التي ذاعت وانتشرت بين الناس على مر القرون. من جهة أخرى، امتُدح الشافعي من جانب العديد من أقرانه وتلاميذه. على سبيل المثال، ينقل تاج الدين السبكي في كتابه "طبقات الشافعية الكبرى"، عن الإمام أحمد بن حنبل قوله: "كان الشافعي كالشمس للدنيا، وكالعافية للناس". في السياق نفسه، حاول البعض أن يجد للشافعي ذكراً في بعض الأحاديث المنسوبة إلى النبي. بهذا المعنى، نقل شمس الدين الذهبي في كتابه "سير أعلام النبلاء"، القول المنسوب إلى النبي: "لا تسبّوا قريشاً فإن عالمَها يملأُ الأرضَ علماً". بحسب التأويل الشائع لهذا الحديث، فإن محمد بن إدريس الشافعي كان هو عالم قريش الذي تمت الإشارة إليه في الحديث.
في القرن السادس الهجري، انتشر المذهب الشافعي بشكل كبير في الأراضي التابعة للدولة الأيوبية في مصر وبلاد الشام والحجاز. بدأ ذلك على يد السلطان صلاح الدين الأيوبي الذي آمن بأن نشر فقه الإمام الشافعي من شأنه أن يمحو ملامح التشيّع الإسماعيلي من الديار المصرية بالكلية
كيف انتشر المذهب الشافعي؟
لاقى المذهب الشافعي انتشاراً واسعاً عبر القرون. في مصر، قام كبار تلاميذ الشافعي بنشر أفكاره عقب وفاته في سنة 204 هـ. من أشهر هؤلاء التلاميذ كلّ من إسماعيل بن يحيى المزني، وحرملة بن يحيى، ويوسف بن يحيى البويطي. يذكر السبكي في "طبقات الشافعية الكبرى"، المجهود الكبير الذي بذله البويطي تحديداً في نشر المذهب الشافعي، فيقول: "... تخرجت على يديه أئمة تفرّقوا فى البلاد ونشروا علم الشافعي في الآفاق...".
عموماً، ارتبط انتشار المذهب الشافعي في البلدان الإسلامية بالسياسة والسلطة. في نهاية القرن الخامس الهجري، وبالتزامن مع تأسيس دولة السلاجقة الأتراك في إيران والعراق، قام الوزير السلجوقي الشافعي نظام الملك الطوسي، بتأسيس المدارس النظامية في كل من أصفهان وبغداد ونيسابور والموصل، وعيّن فيها فقهاء الشافعية من أمثال "أبو المعالي الجويني" و"أبو حامد الغزالي"، وذلك بحسب ما يذكر ابن الجوزي في كتابه "المنتظم في تاريخ الملوك والأمم". اعتقد نظام الملك أن نشر المذهب الشافعي بين رعايا المملكة من شأنه أن يحافظ على السلطة السياسية للسلاجقة. كان الفاطميون في ذلك الوقت يحكمون دولتهم من عاصمتهم في القاهرة، وعملوا على كسب الأتباع في كل مكان من خلال الدعوة إلى اعتناق المذهب الشيعي الإسماعيلي. حاول نظام الملك أن يتصدى لدعايتهم عن طريق نشر الفقه الشافعي السنّي، ووجد أن فقهاء الشافعية المتبحرين في علوم الكلام والمنتسبين إلى النسق العقائدي الأشعري، هم وحدهم القادرون على التصدي لفلاسفة الإسماعيلية وعلمائها، ولذلك اعتمد عليهم وسلّمهم الأوقاف وخصّص لهم الرواتب الضخمة، وهو ما عزّز من قوة المذهب الشافعي وساهم في نشره في أقاليم جديدة في المشرق الإسلامي.
ارتبط انتشار المذهب الشافعي في البلدان الإسلامية بالسياسة والسلطة.
تمكّن المذهب الشافعي أيضاً من الانتشار بين الأكراد المنتشرين في إيران والعراق وسوريا وآسيا الصغرى. يفسر الباحث عبد الباري عزيز عثمان، في بحثه "الكرد والمذهب الشافعي"، اختيار الكرد للمذهب الشافعي على وجه التحديد بقوله: "إن تمذهب الكرد بمذهب الإمام الشـافعي جـاء بعـد أن رأى الكـرد أن الترك قد تمذهبوا بمذهب الإمام الحنفي، والفرس تبنّوا التشيّع، والكرد لهم نزعة استقلالية فكان تمذهبهــم بالمذهــب الشــافعي ليكونـوا مختلفين عن الشعوب المحيطة بهم...".
في القرن السادس الهجري، انتشر المذهب الشافعي بشكل كبير في الأراضي التابعة للدولة الأيوبية في مصر وبلاد الشام والحجاز. بدأ ذلك على يد السلطان صلاح الدين الأيوبي الذي أسقط الدولة الفاطمية الشيعية في مصر. آمن صلاح الدين بأن نشر فقه الإمام الشافعي من شأنه أن يمحو ملامح التشيّع الإسماعيلي من الديار المصرية بالكلية، ولذلك اختار القضاة من أهل المذهب الشافعي، كما شيّد المدارس الشافعية، ومنها المدرسة الناصرية والمدرسة الصلاحية، وذلك بحسب ما يذكر تقي الدين المقريزي، في كتابه "المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار". بقي المذهب الشافعي صاحب الغلبة في العصر المملوكي، لأن سلاطين المماليك ساروا على درب أسلافهم من الأيوبيين في ما يخص المذهب الفقهي المتبع.
الشافعي والنسخة الأرثوذكسية من الإسلام
أثّر الشافعي بشكل عميق في ميدان الفقه الإسلامي في عصره وفي العصور اللاحقة له. بشكل عام، اعتاد رجال الدين أن يضعوا الشافعي في مكان وسط بين التيارين الإسلاميين الأكثر شهرةً في القرون الأولى، وهما تيار أهل الرأي الذي مثّله الفقه الحنفي، وتيار أهل الحديث الذي مثّله الفقه المالكي. بحسب ذلك التصور فإن الشافعي تمكّن من صياغة طرق وأدلة عقلية للدفاع عن مبادئ تيار أهل الحديث. يوضح الشيخ المصري محمد أبو زهرة، في كتابه "الإمام الشافعي"، معالم هذا التصور فيقول: "كان الناس قبل زمان الشافعي فريقين: أصحاب الحديث وأصحاب الرأي، أما أصحاب الحديث فكانوا حافظين لأخبار رسول الله، إلا أنهم كانوا عاجزين عن النظر والجدل، وكلما أورد عليهم أحد من أصحاب الرأي سؤالاً أو إشكالاً سقطوا في أيديهم عاجزين متحيّرين، وأما أصحاب الرأي فكانوا أصحاب النظر والجدل، إلا أنهم كانوا عاجزين عن الآثار والسنن، وأما الشافعي رضيَ الله عنه فكان عارفاً بسنّة رسول الله، محيطاً بقوانينها، وكان عارفاً بآداب النظر والجدل قوياً فيه، وكان فصيحَ الكلام، قادراً على قهر الخصوم بالحجة الظاهرة، وآخذاً في نصرة أحاديث رسول الله، وكل من أورد عليه سؤالاً أو إشكالاً أجاب عنه بأجوبة شافية كافية، فانقطع بسببه استيلاء أهل الرأي على أصحاب الحديث".
تمسك الشافعي بالنصوص -حتى ولو كانت أحاديث الآحاد- ورأى أنها أقوى من القياس العقلي. أدى كل ذلك إلى "اعتماد العقل العربي الإسلامي سلطة النصوص بعد أن تمت صياغة الذاكرة في عصر التدوين طبقاً لآليات الاسترجاع والترديد. وتحولت الاتجاهات الأخرى في بنية الثقافة كالاعتزال والفلسفة العقلية إلى اتجاهات هامشية..."
على الجانب المقابل، يرى بعض الباحثين أن دور الشافعي كان أكثر عمقاً وتأثيراً. يُعدّ المفكر المصري نصر حامد أبو زيد، من أشهر من طرحوا تلك الرؤية في كتابه الشهير "الإمام الشافعي وتأسيس الأيديولوجية الوسطية". يرى أبو زيد أن آراء الشافعي الفقهية كانت تعبيراً وتجلياً لأيديولوجيا كاملة جمعت في ثناياها بين الديني والسياسي والأخلاقي. على سبيل المثال، أكد الشافعي مراراً على أن جميع الألفاظ والكلمات الواردة في القرآن الكريم عربية الأصل. يرى أبو زيد "أن هذا الموقف لا يخلو من انحياز أيديولوجي للقرشية التي أطلت برأسها في الخلاف حول قيادة الأمة في اجتماع السقيفة. ولا نغالي إذا قلنا إن تثبيت قراءة النص -الذي نزل متعدداً- في قراءة قريش كان جزءاً من التوجيه الأيديولوجي للإسلام لتحقيق السيادة القرشية...". من النتائج الفقهية التي ترتبت على هذا الرأي أن الشافعي عدّ أن قراءة الفاتحة بالعربية شرط من شروط صحة الصلاة، وتجاهل أن الكثير من المسلمين الأعاجم لا يستطيعون قراءة العربية بشكل صحيح.
أشار أبو زيد أيضاً إلى دور الشافعي المهم في توسيع نطاق السنّة، واعتبارها وحياً مكملاً للوحي القرآني، الأمر الذي منحها "شموليةً بعد أن وسع مجالها فحول النص الثانوي الشارح إلى الأصلي، وأضفى عليه نفس درجة المشروعية...". في هذا السياق، تمسك الشافعي بالنصوص -حتى ولو كانت أحاديث الآحاد- ورأى أنها أقوى من القياس العقلي. أدى كل ذلك إلى "اعتماد العقل العربي الإسلامي سلطة النصوص بعد أن تمت صياغة الذاكرة في عصر التدوين -عصر الشافعي- طبقاً لآليات الاسترجاع والترديد. وتحولت الاتجاهات الأخرى في بنية الثقافة -والتي أرادت صياغة الذاكرة طبقاً لآليات الاستنتاج الحرّ من الطبيعة والواقع الحي- كالاعتزال والفلسفة العقلية إلى اتجاهات هامشية...".
طرحت الباحثة التونسية ناجية الوريمي بوعجيلة، رؤيةً مشابهةً في دراستها المعنونة "بنية خطاب الشافعي وآليات التأسيس". ذكرت الوريمي في دراستها أن خطاب الشافعي اعتمد على أربع آليات يمكن تمييزها بوضوح. أول تلك الآليات هي آليّة التكثيف الدلالي "سواء في طريقة طرح القضايا الإشكاليّة أو في حشد الآيات المُستَشهَد بها"، وثانيها آليّة صياغة الجهاز المفهومي والاصطلاحي "مثل مصطلحات ومفاهيم السُنّة والعلم والعقل"، وثالثها آليّة تشكيل الماضي المرجعي "من خلال العمل على استعادة أحداث مجتمع الدعوة واعتماد مسلّمة لا اجتهاد مع نصّ". أما الآلية الرابعة فهي آليّة الإيهام بالجدل وإفحام الخصم "عن طريق الردّ على اعتراضات الخصوم من داخل المنظومة نفسها دون تعيين هويّة المجادلين". وظّف الشافعي الآليات الأربعة في مذهبه الفقهي بغية "الانتصار لأصحاب الحديث وتوفير الأساس النظري لمذهبهم على نحو يمكّنهم مستقبلاً من ممارسة السلطة السياسيّة ومن توفير شروط سيادة المذهب". وهكذا أسهم الشافعي بشكل فعّال في صياغة وتشكيل النسخة الأرثوذكسية من الإسلام السنّي، وهي النسخة التي لا تزال فعالةً في الأغلبية الغالبة من المجتمعات المسلمة حتى اللحظة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...