لم يكن النهار مختلفاً عن غيره: روان على دراجتها الهوائية، الطريق صامت والهواء عادي، حتى اللحظة الصادمة التي بدّدت المشهد.
تخرج هذه الشابة العلوية المتحدرة من حورات عمورين في سلحب بسهل الغاب كل يوم. ترتدي "تي شيرت" وبنطال جينز، تفرد شعرها وتعتلي دراجتها. عيناها تراقبان الطريق والممرات الفرعية، قلبها يخفق بسرعة، شعور بالخوف مختلط بالحرية، وكل حركة حولها تحمل احتمال الخطر. تفكر في يومها المزدحم كيف سيمرّ.
ربما كانت توفر أجور المواصلات وسط ضنك العيش الذي ينهك معظم السوريين/ات، لكن لعنة الانتماء والجغرافيا تضغط روان أكثر في ظل السلطات الجديدة.
هناك، في ممر فرعي، انقض عليها ثلاثة رجال من المسلحين، غلفوا جريمتهم بتشريع ديني "على مقاسهم"، وبحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان، لا يزال الجناة طلقاء، ومع غياب أي رادع سلطوي بدا الأمر كأنه تواطؤ غير معلن.
سلاح حرب ممنهج
أبدت روان شجاعة منقطعة النظير في الإفصاح عن الجريمة المرتكبة بحقها، وكشف أهلها عن صلابة في احتضانها.
ليسوا هم وحدهم، فقد أظهر أهالي النساء اللواتي اختطفن إقداماً كبيراً في احتضان بناتهنّ ضمن محيط موبوء، يستخدم أجساد النساء لتصفية الحسابات.
تظهر تقارير أنه ما لايقلّ عن 38 امرأة وفتاة علوية، تتراوح أعمارهنّ بين ثلاثة أعوام وأربعين عاماً، اختطفن في وضح النهار منذ آذار/ مارس 2025 في محافظات اللاذقية وطرطوس وحمص وحماة وحلب على يد مجهولين، وذلك بحسب تقرير الأمم المتحدة الصادر بتاريخ 23 تموز/ يوليو 2025، فيما تكشف صحيفة لوفيغارو الفرنسية، إن العدد يصل إلى نحو 90 امرأة سورية، جميعهنّ من الأقلية العلوية، وقد وثّق ناشطون سوريون معاناتهنّ.
تظهر تقارير أنه ما لايقلّ عن 38 امرأة وفتاة علوية، تتراوح أعمارهنّ بين ثلاثة أعوام وأربعين عاماً، اختطفن في وضح النهار منذ آذار/ مارس 2025 في محافظات اللاذقية وطرطوس وحمص وحماة وحلب على يد مجهولين
نمط الانتهاكات الموصوف، بحسب تقرير الأمم المتحدة، يشير إلى حملة مستهدفة ضد النساء والفتيات العلويات على أسس متقاطعة، قد يكون الهدف هو السيطرة على الجماعات المستهدفة وإخضاعها، مثال بارز على ذلك، ما حدث خلال حرب البوسنة، حيث لم يكن الاغتصاب مجرد اعتداء فردي، بل استُخدم كسلاح منظم لإرهاب السكان المسلمين وتفكيك الروابط الاجتماعية بينهم، وخلق حدود فاصلة بين المجموعات العرقية المختلفة (الصرب، المسلمين، والكروات).
أُقيمت معسكرات خاصة للاغتصاب، وفرض الحمل القسري كأداة للتعذيب حتى تحمل الضحية بأبناء الجناة من الطرف الآخر، ما شكل عملياً سياسة للتطهير العرقي، وجعل الاغتصاب جزءاً أساسياً من الاستراتيجية الحربية.
في مقال منشور عام 2016 في مجلة "إثنوبوليتكس" بعنوان "فهم الاغتصاب في زمن الحرب: تحليل متعدد الأسباب والمستويات"، تشير الباحثة جانين ناتاليا كلارك إلى أن "الظاهرة لا يمكن ردّها دائماً إلى أن تكون مجرد فعل فردي، لكنها مرتبطة بأهداف استراتيجية، مثل تدمير النسيج الاجتماعي، إضعاف هوية المجموعة، الإذلال، السيطرة" .
تعتبر كلارك في الدراسة نفسها، إن استخدام أجساد النساء في الحرب يخدم عدداً لا يحصى من الأغراض، من بينها "إضعاف الذكور الأعداء وتدمير معنوياتهم".
ذكورة مهزومة؟
خلال سنوات الصراع السوري الطويلة، استخدمت أجساد العديد من النساء كسلاح ضغط سياسي وفعل انتقامي تبادله على طول خط الصراع كل من الأطراف الفاعلين، مارسه النظام البائد، ومارسته الفصائل أيضاً، لأسباب سياسية تارة وطائفية تارة أخرى.
لم يُسجل وجود مرجعية ضمن المتعارف عليه عند المجتمع العلوي تُلزم بـ"حد الزنا"، ولكن هذا لا يعني خلو هذا المجتمع من حالات قليلة قد تصل إلى القتل.
فما يحدث غالباً يُختزل في شعور بالخجل داخل قرى صغيرة منغلقة، وقد يقود في حالات نادرة للقتل، لكن الأمر لا يرقى إلى حد أن يصبح ظاهرة أو عرفاً.
كغيره من المجتمعات الشرقية، لا يخلو المجتمع العلوي من العنف الأسري، لكنه لا يختزل مفهوم الشرف في جسد المرأة، بل يتجاوز ذلك إلى معانٍ أوسع: الكرامة، العمل، الصمود، والصبر.
في المقابل، تُظهر بعض المجتمعات المحيطة مفهوم "غسل العار" عبر قتل المرأة، حيث لا يقتل الرجل في تلك المجتمعات جسد المرأة فقط بل يقتل جزءاً من نفسه وروحه، في محاولة رمزية لقتل الإهانة داخله.
تقول الباحثة ياسمين لوزا في دراسة منشورة بمجلة العلوم الاجتماعية بعنوان "أجساد وحياة النساء كرموز للرموز الأبوية: قتل النساء بدافع الشرف" "إن المرأة تتحمل العبء الرمزي لكرامة العائلة والمجتمع في المجتمعات الأبوية الشرقية، والقتل بدافع "الشرف" لا يستهدف الفرد فقط، بل يسعى لإعادة تأكيد السيطرة على الجماعة بأكملها".
على النقيض، حين تتعرض امرأة لفعل الاغتصاب في المجتمع الغربي، ينظر لها بوصفها ضحية ويعامل المعتدي/المغتصب كجانٍ. عائلتها تحتضنها، أشقاؤها يدعمونها نفسياً، لكنهم لا يشعرون أن كرامتهم أُهينت، أو أن رجولتهم فُقدت، أي لا يشعر الرجل بانكسار هويته أو فقدان مكانته.
أما في المجتمع العلوي، يبقى الرجل مرتبطاً بمسؤولية الحماية والدفاع عن أهله، فحين تُختطف النساء، لا يُنظر فقط إلى الانتهاك على أنه فعل فردي، بل على أنه كسر صورة الرجل وقدرته على حماية جماعته.
يبقى الشعور بالهزيمة حاضراً، كإحساس صامت بالانكسار. تكررت تلك النظرة في كل لقاء تلفزيوني تظهر فيها العائلة لتتكلم عن حادثة الخطف.
لذلك، قد لا تكون عمليات الخطف مجرد انتهاك فردي أو أداة ضغط سياسي، إنما في أحد وجوهها محاولة لضرب صورة الرجل العلوي في مجتمعه وتجريده من امتياز الغضب والمقاومة.
خلال سنوات الصراع السوري الطويلة، استخدمت أجساد العديد من النساء كسلاح ضغط سياسي وفعل انتقامي تبادله على طول خط الصراع كل من الأطراف الفاعلين، مارسه النظام البائد، ومارسته الفصائل أيضاً، لأسباب سياسية تارة وطائفية تارة أخرى
حين تُعرض المرأة المختطفة بزي لا يُشبه بيئتها، وتُقدَّم على أنها "هربت مع عشيق"، في بيئة تقدم الشرف والكرامة بأجساد النساء وتؤمن بالعرض، تُوجَّه الرسالة للرجل: "أنت لا تحمي. لا تُهاب. ولا تستطيع أن تفعل شيئاً".
هذا يعيد إنتاج المنظومة الذكورية نفسها في عقل المرأة، بتكريس فكرة أن "قيمة المرأة فقط بجسدها".
هذا النوع من الحرب النفسية لا يستهدف فقط تفكيك الجماعة، بل تفريغها من قدرتها على المقاومة مستقبلاً. حين تنكسر الصورة الذكورية داخلياً، لا يعود الغضب ممكناً، يُستلب الرجل، فيُشلّ.
وعليه، حين يُجرَّد الرجل من شعوره بالقوة، يُعاد تشكيل الجماعة، فإما أن تُسلّم نفسها، أو أن تعيد تعريف نفسها من الصفر.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



