قصة من الذاكرة الشعبية للطائفة العلوية. حلب في القرن السادس عشر.
كانت حلب في القرن السادس عشر نقطة تلاقي بين ثلاث امبرطوريات: العثمانية في الشمال (مقرها تركيا اليوم)، الصفوية في الشرق (مقرها إيران)، والمماليك في الجنوب (مقرهم مصر اليوم). مع بدايات امتداد الامبراطورية العثمانية جنوباً، استخدمها المماليك نقطة دفاع ضد الامتداد الصفوي، ثم تمركز فيها العثمانيون في حربهم على الصفويين والمماليك معاً.
وقد شهدت بدايات القرن السادس عشر وصول السلطان سليم الأول إلى الحكم خليفةً للامبراطورية العثمانية، من عام 1512 حتى وفاته عام 1520. في التاريخ، ينظر إلى السلطان سليم الأول كحاكم استثنائي بحنكته السياسية، إذ لُقِّبَ بـ"الشجاع"، وعند الإنجليز عرف بـ"العابس"، أما عند الفرنسيين فكان "الرهيب".
في حروبه التوسعية، اصطدم السلطان سليم الأول مع الدولة الصفوية الوليدة (حكمت الامبراطورية الصفوية من عام 1501 حتى 1722، ومن 1722 حتى 1736)، في تنافس استمر بعده في ثلاث حروب عنيفة بين الامبراطوريتين، عرفت بالحروب العثمانية الصفوية (من عام 1532 حتى عام 1555)، وانتهت بضم العراق وتبريز إلى الدولة العثمانية، وتقاسم أرمينيا وجورجيا.
وصل السلطان سليم إلى الحكم بانقلاب على والده، بايزيد الثاني (سلطان العثمانين الثامن، حكم من 1481 حتى عام 1512)، وبتهميش المنافسين له على الحكم من إخوته، فكان حكمه قلقاً على الرغم من نجاحاته. اعتمد في صعوده إلى الحكم على تحالفات مع جماعات محلية (تقول الذاكرة الشعبية إن الطائفة العلوية كانت ممن دعمه أيضاً) وبشكل أساسي على دعم جيش "الانكشارية".
كان من نتائج الصراع بين الامبراطوريتين اتهام علويي الأناضول بالتعاطف أو التآمر مع الشاه إسماعيل، حاكم الدولة الصفوية. فكان قرار السلطان سليم الأول إنهاء وجود الطائفة العلوية في الأناضول من أولى خطواته كحاكم للامبراطورية العثمانية، ثم جاء دور حلب.
لم يبحث علماء التاريخ كفاية في أسباب هذا القرار، إلا أن الحرب مع الدولة الصفوية، واعتبار التنكيل بالعلويين ضربة لها، كونهم أقرب إلى الشيعة في معتقاداتهم، قد يكونان من أهم أسبابها.
في إحدى زياراته إلى حلب، جمع السلطان شيوخ العلويين، بعد أن قدم طلباً تضمن اقتراحاً لمناقشة دورهم. وبدلاً من النقاش المفترض، أقدمت حاشية الملك بأمره على ارتكاب مجزرة قتلت معظم الشيوخ الحاضرين، وأنذرت بالمزيد.
اجتمع كبار شيوخ حلب السنة، وناقشوا حلولاً إسعافية لهذه الأحداث. لن يعرف التاريخ ماذا دار في ذلك الاجتماع، إلا أننا نعرف بأنهم خرجوا منه بقرار ملحّ: لن نسمح بإبادة الطائفة العلوية!
بعد مفاوضات أولية، قابل الشيوخ السلطان، وطلبوا قبول شفاعتهم لسكان حلب العلويين. لم يقبل السلطان طلبهم كاملاً، لكنه قدم بديلاً هو أن يغادر العلويون حلب إلى جبال الساحل، وإلا فإنهم سيبادون إبادة كاملة. خرجت معظم العوائل العلوية حينذاك من حلب تحت حماية سنة المدينة، الذين ضمنوا لهم الأمان في مغادرتهم.
لا نملك أسماءً لمن شارك في هذه الخطوة الإنسانية، إلا أن قصتهم بقيت حية في الذاكرة الشعبية للطائفة العلوية، التي تذكرهم كإخوة خاطروا بالكثير لحمايتهم في ظروف عصيبة، وتبقى قصتهم كشيوخ كرماء اجتمعوا على عمل الخير وأنقذوا طائفة كاملة من هلاك محتم.
لا نعرف ماذا دار في اجتماع شيوخ حلب السنّة حينها، إلا أنهم خرجوا منه بقرار: لن نسمح بإبادة الطائفة العلوية
وربما أهم ما في هذه القصة اليوم، هو أن أهل مدينة حلب، وجدوا أنفسهم في قلب الصراع الصفوي ـ العثماني، الذي استخدم الانتماءات الدينية الشيعية والسنية كواجهة لصراع سياسي حول توسيع النفوذ. وكان خيار شيوخ المدينة أن وقفوا إلى جانب سكان مدينتهم ضد الظلم، واختاروا الوئام والأخوة والإنسانية، لا الانتماءات الدينية والمنافسات السياسية. اليوم، وربما في أمكنة معكوسة، تقع سوريا وسط صراع دام بين إيران في الشرق، وتركيا في الشمال، وغيرهما، وينقسم شعبها بتأييده لإحدى القوتين، متمسكاً بطائفية سنية أو علوية كأنها سبب الخلاف أو مفتاح حله. لعلنا نتعلم من تاريخ ظروفه تشبه الظروف الراهنة، اختار أهله أول ما اختاروا الخير لكل أبناء المدينة، من دون تمييز، وحماية سكانها من الأذى والإبادة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...