محاولة تعافي تحت شجرة كرز لم تثمر

محاولة تعافي تحت شجرة كرز لم تثمر

مدونة نحن والتنوّع

السبت 2 أغسطس 20257 دقائق للقراءة

لطالما انتظرت أيّار/ مايو. هو عندي شهر الكرز، شهر تلك الشجرة الوحيدة الفريدة التي تقبع في دارنا وتطعمنا الموسم كلّه. ليس يعنيني طعم الكرز، ولا أن أقف في ظلّ الشجرة أقطف حبّاتها وألتهمها حتّى التّخمة. ما يعنيني في الحقيقة هي أشياء كثيرة أخرى. أحبّ أن أنظر إلى الشّجرة وكيف تتدلى منها حبّات الكرز الحمراء اللامعة. أحبّ غصنها الذي يحمل أرجوحة طفلتي، وكيف يمكن لها أن تقضي في ظلّها الوارف ساعات. كيف يلتمّ أفراد العائلة حولها فرحين حين يقطفون من خيرها، أو يحتسون عند جذعها فنجان قهوة. أحبّ أن أراها مساحتي الآمنة التي تزهو في أيّار/ مايو. لكن هذا العام كان مختلفاً، كان شحيح المطر فأفنى الثّمر وموسم الكرز.

يعتقد عمّي أنّ الشّجرة هرمت، وأنّها لن تعطي مواسم بعد اليوم. يعتزم قطعها وزرع أخرى. بالنّسبة لي، يصعب أن أتخيّل المكان من دونها. أشعر أنها كانت كبرت معي ما كبرته. رأيتها في تبدّل أحوالها؛ في يباسها وزهو أوراقها، في البرد وفي الحرّ، وفي الحرب والسّلم. أشعر أنّ كلّ ما حولي بات شاحباً ثقيلاً شحيحاً. "مسكبة" النعنع والزعتر، شجر الزيتون، بركة البيّاضة في مدينتي بعلبك التي جفّ ماؤها فارتحل البطّ عنها إلى وجهة بعيدة، شجرة الكرز التي انكفأت عن زهرها وثمرها، وجوه من ظننت أنّهم لا يتجهمون، والصّمت.

على الرغم من كل محاولات نفض الغبار ورفع الركام والزّحمة التي تتحدى الموت والجمود في الأسواق والمقاهي، هناك صمت حزين يختبئ على حافات طرقات المدينة، وفي أضوائها النّاقصة، في غيتار عالق دون عازفه تحت أنقاض مبنى لم يُزَل ركامه بعد. هناك صوتّ ضائع لا تسمعه، تبحث عنه فتراه في عيون المارّة ، في بطء ملامح وجوههم وردات فعلهم، في ألوان ثيابهم القاتمة، في قلقهم المعلّق على حبال صوتهم وحديثهم، وفي االمدينة التي يهربون معها من أنفسهم الحزينة.

لست أدري إن كنّا لا نزال تحت وقع الصّدمة أو وصلنا بالطّريق إلى مرحلة "ما بعد الصّدمة"، لكن يصعب عليّ أن ألمس هذا الجفاف من حولي في كلّ شيء. أبحث عن أي ظرف أو حديث يرويني حتّى لو كان خيالاً، حتّى لو كان كوكباً يدور فوق رأسي يخبرني من خلاله عالم الفلك أنّه حين سيغّير مساره ستتغيّر الأيّام، وسيربّت بعدها الزّمن على أكتافنا ويعتذر، يعتذر كثيراً ثم يمنحنا ما شئنا لنرتوي فنجهش حينها بالبكاء متعبين. 

الذكاء الاصطناعي يحدد وقت الانفراجة

ذات صباح، وفيما الكلّ نيام، وددت أن أختلق جوّاً من التّسلية لنفسي وبنفسي ريثما أنتهي من احتساء كوبي السّاخن، فسألت صديقنا الذي لا ينام هذا السّؤال: "بحسب الفلك، لماذا يعيش العالم فترات عصيبةً منذ العام 2019؟ ومتى ستحدث انفراجة؟". بأدائه الاصطناعي، أثنى Chat GPT على سؤالي، وأخبرني أنّ كثيراً من النّاس يشعرون بالشيء نفسه فعلاً، وعدّد لي أزمات اقتصاديةً، وتغيّرات مناخيةً، وأوبئةً، وخصّ بالذّكر طبعاً حرب أوكرانيا ثمّ عرض أنّ الإنفراجة التدريجية تبدأ عام 2025.

على الرغم من كل محاولات نفض الغبار ورفع الركام والزّحمة التي تتحدى الموت والجمود في الأسواق والمقاهي، هناك صمت حزين يختبئ على حافات طرقات المدينة، وفي أضوائها النّاقصة، في غيتار عالق دون عازفه تحت أنقاض مبنى لم يُزَل ركامه بعد

ختم صديقنا الصّاحي حديثه بخلاصة مفادها أنّ الفلك لا يعطي أجوبةً حتميّةً، لكنه يقرأ كمرآة رمزية للطاقة والتّحول. أمّا الانفراجة الحقيقية فتصنعها النّاس بالوعي والتّضامن والصبر حتى في أصعب الظّروف. لم يفاجئني طبعاً أنّه لم يذكر مثالاً سوى حرب أوكرانيا، وأنّ الحروب الطاحنة عندنا ليست تُذكر. ما جال في خاطري حينها هو شيء آخر، هو ما سيصنعه هؤلاء النّاس. هؤلاء النّاس المكسورون كيف سيتعافون؟ كيف سنتعافى؟ يؤسفني أنّ النّاس الذين أتحدث عنهم الآن هم غير النّاس الذين وردوا في خلاصة الـChat GPT.

في إحدى المقابلات، يتحدث Bessel van der Kolk، عالم الأعصاب الهولندي وصاحب الكتاب الشهير "الجسم يحتفظ بالحصيلة"، عن التروما ويقول إنّها لا تأتي دائماً على هيئة حروب أو إساءة أو نجاة من الموت، بل هي أحياناً ألم يومي ناتج عن أنّ أحداً لا يلحظك. لم أطّلع على مواقف العالِم في ما يخصّ الحروب الدائرة هنا، ولم أتأكد إن كان يلحظنا أو لا، كصديقنا الذي نحسبه ذكيّاً Chat GPT، فهذا ليس مهمّاً. المهم أنّني عرفت أنّ أحداً لا يلحظنا فعلاً، وأننا نعيش نوعاً إضافيّاً من التروما.

ترميم القلوب

من الذي يلحظ مثلاً أنّه من شدّة القسوة التي تحيط بنا صارت في قلوبنا قسوة أيضاً؟ صار كلّ منّا يبحث عن سترة نجاته وحده؟ من الذي يلحظ أنّ "عتبة الألم" في أعماقنا تدنّت بحيث صار تحفيزها بحديث عن أي ألم بسيط يخصّ جوارها، يُحدث نوبةً مفرطةً؟ من الذي يلحظ أنّنا نبحث عن سبلٍ للتعافي لكننا لم نستطع الوصول؟ من الذي يلحظ أنّ خيط الفرح الذي كان موجوداً في الخطوط تحت أعيننا حين نضحك، صار منهكاً متعباً؟ من الذي يلحظ أنّنا نحاول كلّ يوم، وأنّنا ما زلنا نحاول، برغم أنّ أحداً لا يلحظ، أن نكون بخير؟ يؤلمني هذا الإرهاق الجماعي، يؤلمني أننا عندما نتعب لا نجد حولنا من له حول، ولا من له قوّة. يؤلمني أن أشعر أنّ حيَلي النّفسية لتخطّي الأوقات الصعبة صار تطبيقها مضنياً .

سمعت ذات يوم عن حيلة كان يرويها أحد الأخصائيين عن القلوب المفطورة. كان يتحدث كيف نرمّم قلوبنا. برأيه يكمن السرّ في التكيّف مع كيفية سرد القصّة لأنفسنا، وكيفية التّأقلم مع هذا السّرد. يضيف المختص أنّ علينا كي لا نتعرض إلى فطر قلوب مزمن، أن نغيّر القصّة. حاولت تغيير القصّة مراراً في رأسي. حاولت أنّ أسردها كأحداث في كتاب تاريخ، لكنني لم أفلح

سمعت ذات يوم عن حيلة كان يرويها أحد الأخصائيين عن القلوب المفطورة. كان يتحدث كيف نرمّم قلوبنا. برأيه يكمن السرّ في التكيّف مع كيفية سرد القصّة لأنفسنا، وكيفية التّأقلم مع هذا السّرد. يضيف المختص أنّ علينا كي لا نتعرض إلى فطر قلوب مزمن، أن نغيّر القصّة. حاولت تغيير القصّة مراراً في رأسي. حاولت أنّ أسردها كأحداث في كتاب تاريخ، لكنني لم أفلح. وجدت نفسي أكتب ما أكتبه. ربما نكون حالات خاصةً. ربما نحن في أوقاتٍ حزينة طالت. ربما علينا أن نقبل هذا الحزن ونقرّ به. القلق المزروع في داخلنا لم يعُد مرتبطاً بالحرب، ولا بالوباء، ولا بأزمة اقتصادية. القلق في داخلنا صار إيماناً مؤسفاً. وبعد كل الذي حصل نعيش في زمن شريعة الغاب، حيث لا خطوط حمراء أكثر من أي وقتٍ مضى. 

أمّا شجرة الكرز، إلهة الزّهور والربيع التي ما زالت تكبر في الدّار، فتشبه الأميرة سوكويامي في الأسطورة اليابانية. سوكويامي -التي كانت تتفتح أشجار الكرز حيث تمشي- تزوجت من إله الجبال الذي شكّ في طهارتها. ومن أجل إثبات وفائها، حبست نفسها في كوخٍ خشبي وأضرمت فيه النّار في أثناء ولادتها، وخرجت سالمةً مع أطفالها الثلاثة حتّى صارت رمزاً للولادة وسط الألم والجمال المؤقت. أريد أن أغيّر سردية القصّة في رأسي، فأقول إنّ الشجرة شاخت، وهذا يحدث، وإنّ زهرها قد لا يعود حين يعود المطر، وهذا يحدث، لكن مع ذلك ستبقى هنا في الدار معنا. ربما نتعافى معاً، ونحتسي فنجان قهوتنا في ظلّها، وفاءً من دون حبّات الكرز، ومن دون أشياء كثيرة فقدناها معاً… لكننا ما زلنا نحاول، من دون أشياء كثيرة انتهت وفرحنا بها ذات مرّة. 

 



رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image