صفقات أسلحة عملاقة في يومين... ما الذي يحدث في العالم؟

صفقات أسلحة عملاقة في يومين... ما الذي يحدث في العالم؟

سياسة نحن والحقوق الأساسية

السبت 22 نوفمبر 202511 دقيقة للقراءة


ربما بالغ العالم في اعتماد نظرية "بيع السلام لشراء الحرب"، ولا سيما في ضوء تهافت غير مسبوق على إبرام الصفقات العسكرية. 

فقبل يومين، أعلن البيت الأبيض عن صفقة أسلحة ضخمة للرياض، ابتاعت الأخيرة بموجبها طائرات مقاتلة من طراز F35 ونحو 300 دبابة من طراز M1 أبرامز، ومعدات عسكرية أخرى، ليصل إجمالي اتفاقات الصفقة إلى 557 مليار دولار.

وباعتبارها الأعلى على مستوى العالم في مبيعات الأسلحة خلال العام 2024، يمكن القياس على الولايات عند رصد تجوُّل صفقات الأسلحة؛ إذ تشير بيانات وكالة التعاون الأمني ​​والدفاعي الأمريكية إلى أنه خلال شهر تموز/ يوليو الماضي فقط، وافقت واشنطن على صفقة عسكرية لحكومة أوكرانيا، تتضمن دعم نظام الدفاع الجوي "باتريوت"، ومعدات أخرى ذات صلة، بتكلفة تقديرية 105 ملايين دولار. 

وفي حزيران/ يونيو من العام ذاته، صادقت الخارجية الأمريكية على صفقة عسكرية لحكومة ألمانيا، تضمنت صاروخي "ستاندرد 6 بلوك 1"، و"ستاندرد 2 بلوك 3C"، إضافة إلى معدات ذات صلة، بتكلفة تقديرية تبلغ 3.5 مليارات دولار.

وإذا كان ذلك على مستوى الولايات المتحدة، فلا يمكن تجاهل معطيات أخرى، تؤشر على ارتفاع درجة حُمَّى الصفقات العسكرية على مستوى العالم، ومنها: اعتزام فرنسا بيع أوكرانيا 100 مقاتلة من طراز "رافال"، فضلاً عن اتفاق لبيع غواصات وسفن فرنسية تعمل بالطاقة النووية لكوريا الجنوبية، واستلام حلف "الناتو" أكبر حاملة طائرات من بريطانيا.

يضاف إلى ذلك، شراء تركيا صفقة سلاح هائلة مع بريطانيا، تتضمن 20 طائرة مقاتلة من طراز "يوروفايتر تايفون"، مقابل 8 مليارات جنيه إسترليني (10.7 مليارات دولار)، علاوة على حزمة أسلحة من بينها: صواريخ جو - جو من شركة "إم. بي. دي. إيه"، وصواريخ "بريمستون" الهجومية الأرضية.

غياب الحكمة والتحكم في معادلة سُعار التسلُّح 

ولا تعكس هذه الأرقام في حقيقة الأمر، سوى غيض من فيض سباق التسلح العالمي؛ مما يفرض علامات استفهام حول تفاقم الظاهرة ودواعيها، ومدى اتساقها مع إحراز توازن بين السلام والحرب؛ وتناغمها أو تعارضها مع اعتقاد، يرسِّخ وقوف العالم على أعتاب حرب أعنف من السوابق.

ربما يتحكَّم "غياب الحكمة" في معادلة "سُعار التسلُّح"، خصوصاً مع مغالبة لغة القوة آليات الحوار عند حلحلة الأزمات؛ فالعلاقة بين صفقات الأسلحة والسلام العالمي بالغة التعقيد، ولا سيما مع وجود مبررات رئيسة، تدعم التأثيرات السلبية، وفي بعض الحالات نقيضتها الإيجابية على الاستقرار الدولي.

تُظهر موجة التسلّح العالمية غياباً متزايداً للحكمة في إدارة الأزمات، مع تراجع لغة الحوار لصالح القوة. ويحذّر سياسيون غربيون من أن الدروس التي استخلصها قادة مثل ماكميلان وكينيدي من ويلات الحرب تتلاشى في وقت يحتاج فيه العالم إليها بشدة

وانطلاقاً من تلك المعضلة، لاحظ رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، هارولد ماكميلان، أن "الحوار أفضل من الحرب". أدرك الرجل عام 1958، حقائق الدبلوماسية والعمل العسكري على حد سواء. لقد أصيب بجروح خطيرة كجندي في الحرب العالمية الأولى، وكان عليه كرئيس للوزراء التعامل مع التهديدات النووية خلال الحرب الباردة، بما في ذلك الأزمة الصاروخية الكوبية الأكثر خطورة.

أما جون كينيدي، رئيس الولايات المتحدة خلال تلك الفترة الكارثية تقريباً من سياسة حافة الهاوية النووية، ففطن هو الآخر إلى قيمة القنوات الدبلوماسية، فضلاً عن وحشية النزاعات المسلحة: فقد أصيب أيضاً في ظهره بجروح بالغة أثناء الخدمة في البحرية الأمريكية عام 1943.

وبين ماكميلان وكينيدي، حاصرت الهواجس، أندرو ميتشل، وهو وزير سابق في الحكومة البريطانية، حين أبدى تخوفاً من "ذوبان الحكمة"، التي اكتسبها الزعيمان الأمريكي والبريطاني من الحرب، وتلاشيها من الذاكرة في وقت تشتد فيه الحاجة البالغة إليها.

تقلُّص الاستثمار في القوة الناعمة بوتيرة متسارعة

ومع اشتعال النزاعات المسلحة، ودوران رُحى معارك ما بين الحروب، تآكلت إلى حد كبير الغريزة الدبلوماسية؛ ليس فقط في الخطابات، بل في الميزانيات أيضاً. فالغرب الصناعي قلَّص استثماراته في القوة الناعمة بوتيرة متسارعة، ورشَّد المساعدات الخارجية، توازياً مع تواضع أدواته الدبلوماسية، وتحوُّل موارده إلى الصناعات العسكرية.

ولم يحدث في أي وقت منذ نهاية الحرب الباردة أن تصاعد الإنفاق العسكري بالسرعة التي وصل إليها العام الماضي 2024، عندما ارتفع بنسبة 9.4% ليصل إلى أعلى إجمالي عالمي على الإطلاق سجله "معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام". في المقابل، أشار تقرير منفصل صادر عن "منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية"، ومقرها باريس، إلى انخفاض بنسبة 9% في المساعدات الإنمائية الرسمية في العام نفسه، لدى أغنى مانحي المساعدات الخارجية في العالم. وتوقعت المنظمة تخفيضات أخرى بنسبة 9% على الأقل، وربما تصل إلى 17%.

قبل يومين، أعلن البيت الأبيض عن صفقة أسلحة ضخمة للرياض، ابتاعت الأخيرة بموجبها طائرات مقاتلة من طراز F35 ونحو 300 دبابة ومعدات عسكرية أخرى، بإجمالي 557 مليار دولار.

وفي دراسة للمنظمة، تبيَّن أنه "لأول مرة منذ ما يقرب من 30 عاماً، ترشِّد فرنسا، وألمانيا، والمملكة المتحدة، والولايات المتحدة، مساعداتها الإنمائية الرسمية في عام 2024". وبما أن حكومات تلك الدول مضت قدماً في التخفيضات المعلنة خلال عام 2025، فأضحى واضحاً أن هذه الخطوات سابقة أولى خلال عامين متتاليين على مستوى التاريخ.

وفي ظل هذا الواقع، يخشى محللون من أنه مع تحول الاقتصادات الصناعية عن المساعدات والدبلوماسية، لصالح بناء جيوشها، قد تقفز دول أخرى مثل روسيا والصين وتركيا، لملء ثغرات منظومات النفوذ، التي أصبحت شاغرة، وهو ما يؤدي إلى تحوُّل دول صديقة في أفريقيا وآسيا ضد الغرب.

تدافع عنيف بين الآلة العسكرية والتنمية 

رغم ذلك، لا يغيب ارتفاع الإنفاق العسكري عن جدول أعمال معسكر دول الشرق. وفقاً لبيانات "معهد ستوكهولم" (SIPRI)، نمت ميزانية الدفاع الصينية، التي تأتي في المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة، بنسبة 7% بين عامي 2023 و2024. في حين تضخَّم الإنفاق العسكري الروسي بنسبة 38%.

وفي حزيران/ يونيو الماضي، اتفق أعضاء حلف شمال الأطلسي على هدف جديد، يتمثل في إنفاق 5% من الناتج المحلي الإجمالي على البنية التحتية الدفاعية والأمنية بحلول عام 2035، مدفوعة جزئياً بمخاوف الدول الأوروبية من احتمال تخلي ترامب عن تحالفهم. وكان الرئيس الأمريكي ــ الذي اضطلع بدور "الأب" ــ سعيداً بما يكفي، لأن شركاءه الصغار عبر الأطلسي سيدفعون تكاليف تحالفهم.

وفي ظل تدافع عنيف بين الآلة العسكرية والتنمية، وانعكاس النقيضين على مفاهيم الحرب والسلام؛ يشي الواقع بكارثة، فبينما يفتقر العالم في الوقت الراهن إلى نظام دولي جديد، تنحرف بوصلة الأنظمة الدولية وبشكل حاد نحو ما يُعرف بـ"القوميات الضيقة"؛ وهى مصفوفة خطيرة، لم يشهدها العالم منذ ما قبل عام 2014، أو بالأحرى قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى. حينها، بحسب مراقبين، كان خفض المساعدات لحساب التمويل العسكري خطأ فادحاً، خصوصاً مع حقيقة أن القوة الناعمة أقل تكلفة بكثير، وغالباً ما تكون أكثر فاعلية، من القوة الصلبة وحدها، إذ تساعد في منع الحروب، أو تجميدها، لإعادة بناء الدول بعد ذلك.

استعدادات شعوب تتطلع إلى سلام مفقود 

لكن قوس علامات الاستفهام لا يزال مفتوحاً أمام سؤال جوهري: لماذا تستشعر الحكومات إقبالاً على حرب عالمية ثالثة، ربما تنزلق نحو قسوة تفوق سابقتيها الأولى والثانية؟ وهل بات الاستعداد لها لزاماً على شعوب تتطلع إلى سلام مفقود؟ عند الإجابة على السؤال، ربما تتعارض آليات البحث عن السلام مع واقع المستقبل المنظور، ذلك أن المسألة لا تقتصر على نزاع مسلَّح - أياً كان حجمه هنا أو هناك – وإنما ترتبط بنظريات بعيدة من "قواميس البراءة"، أو شعارات جامحة نحو الاستقرار.

ربما أزال الكاتب الأمريكي، نيل هاو، جانباً من غموض الإجابة على السؤال. في كتابه، الصادر عام 2023، بعنوان "المنعطف الرابع هنا"، وهو جزء ثانٍ من كتاب "المنعطف الرابع"، الصادر عام 1997، الذي شارك في تأليفه الكاتب الراحل وليم شتراوس، يرى هاو أن "فصول التاريخ تضع أيادي البشرية على توقيت وكيفية نهاية الأزمة العالمية الراهنة". يستكشف الكتاب الأوسع انتشاراً في الولايات المتحدة، كيف سيتأثر العالم بأسره بالتحديات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي سنواجهها في العقد القادم. 

بحسب الكاتب الأمريكي، نيل هاو، فالتاريخ الحديث يتحرك في دورات تمتد قرابة قرن، لكل منها أربعة منعطفات تستمر نحو عشرين عاماً. نحن الآن في "المنعطف الرابع" الأخطر، حيث تتصاعد الاضطرابات والاستقطاب والصراعات، ويتوقع بلوغ ذروتها في مطلع الثلاثينيات، بما قد يفتح إما على انهيارات كبرى أو على عصر ذهبي جديد

بالنظر إلى الخمسمئة عام الماضية، يتحرك التاريخ الحديث في دورات، كل دورة تدوم ما بين ثمانين ومائة عام تقريباً، وتتألف كل دورة من أربع عصور، أو منعطفات تأتي دائماً بنفس الترتيب، ويستمر كل منها نحو 20 عاماً. آخر هذه العصور هو المنعطف الرابع، الذي نعيشه حالياً، وهو الأكثر خطورة، إذ ينطوي على اضطرابات مدنية وتعبئة وطنية، لا تقل في صدمتها وتحولاتها عن عوالم الصفقات السياسية والعسكرية الجديدة، وحتى عن الحرب العالمية الثانية، أو الحرب الأهلية، أو حتى الثورة الأمريكية.

وبحسب الكاتب، "الآن، وفي موعده المحدد، حل المنعطف الرابع، فما نراه حولنا من استقطاب متزايد، وصراعات أهلية، وحروب ضارية، سيبلغ ذروته مع مطلع ثلاثينيات القرن الحادي والعشرين؛ وهى ذروة تشكل خطرًا جسيمًا، لكنها في المقابل تحمل في طياتها وعوداً عظيمة، وربما تمهد الطريق أمام عصر ذهبي جديد؛ وسيضطلع كل جيل حيّ اليوم بدور حيوي في تحديد كيفية حل الأزمة".

كل 85 عاماً.. حروب تحديد مسار العصور تتكرر

عساه استشراف الكاتب، نيل هاو، يتسق وإحدى أهم النظريات الأكاديمية، التي ترى أن "الحروب التي تحدد مسار العصور، تتكرر كل 85 عاماً تقريباً، إذ تتغافل الأجيال عن تجارب أسلافها، التي اكتسبوها بشق الأنفس. وهو ما يعني وجوب الاستعداد حالياً لحرب عالمية ثالثة محتملة في أي وقت.

غوش رودولف، المدير الإداري، والزميل الأول في مبادرات الديمقراطية الاستراتيجية، يفسر بمنظوره النظرية الأكاديمية، مشيراً إلى أن "الدوافع الجيلية تغذي عقوداً من الضغط الاجتماعي المتزايد، إلى أن يأتي حدث ملهم، مثل: معركة "فورت سمتر"، أو "حفلة شاي بوسطن"، أو حتى "بيرل هاربور"، ليصبح التحدي وجودياً. 

حينها فقط، بحسب رودولف، يتغيَّر كل شيء، إذ إن سنوات الدمار القليلة، التي تلت مثل هذه الأحداث المفصلية، عُرفت لدى القدماء باسم "الإكبايروسيس" (الحريق الهائل). وفي المجتمعات الحرة تحديداً، يُولي المواطنون اهتماماً بالغاً بالحفاظ على المجتمع الذي بنوه، لدرجة أن "الإكبايروسيس" يستغل عقوداً من الإحباط إزاء المشاكل العالقة والتهديدات المتزايدة، ويطلق العنان لطاقة عامة هائلة: تسونامي من القوة المدنية. 

وخلص غوش رودولف إلى أن ما بدأ كدورة أنجلو - أمريكية متعمقة، تحوَّل الآن إلى دورة عالمية متزامنة، ما يجعل اندلاع حرب عالمية ثالثة، برأيه، مرجَّحاً قبل نهاية العقد الجاري.

وأمام تلك الاستشرافات، ربما يلوح في الأفق مبرر سُعار التسلح العالمي، ولا سيما في ظل ارتباك مؤشرات تحقيق السلام، وسط دوائر ملتهبة، ترشح قتامة المشهد على الصعيدين الإقليمي والدولي إلى تصعيد، يتغذى على إمدادات مناطق الصراع القائمة بالأسلحة، وهو ما يقود إلى تفاقم الحروب، وإطالة أمدها، وزيادة عدد ضحاياها، من جهة، وينعش تجارة السلاح بداعي الحفاظ على توازن القوى، من جهة أخرى.




رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

منبر الشجعان والشجاعات

تكثُر التابوهات التي حُيِّدت جانباً في عالمنا العربي، ومُنعنا طويلاً من تناولها. هذا الواقع هو الذي جعل أصوات كثرٍ منّا، تتهاوى على حافّة اليأس.

هنا تأتي مهمّة رصيف22، التّي نحملها في قلوبنا ونأخذها على عاتقنا، وهي التشكيك في المفاهيم المتهالكة، وإبراز التناقضات التي تكمن في صلبها، ومشاركة تجارب الشجعان والشجاعات، وتخبّطاتهم/ نّ، ورحلة سعيهم/ نّ إلى تغيير النمط السائد والفاسد أحياناً.

علّنا نجعل الملايين يرون عوالمهم/ نّ ونضالاتهم/ نّ وحيواتهم/ نّ، تنبض في صميم أعمالنا، ويشعرون بأنّنا منبرٌ لصوتهم/ نّ المسموع، برغم أنف الذين يحاولون قمعه.

Website by WhiteBeard
Popup Image