حرب الرموز في مدن الضفة الغربية

حرب الرموز في مدن الضفة الغربية

رأي نحن والحقوق الأساسية

الجمعة 10 أكتوبر 20256 دقائق للقراءة

تشهد الضفة الغربية منذ السابع من أكتوبر 2023 تكثيفاً ملحوظاً للرموز الإسرائيلية في فضائها العام، فالأعلام الإسرائيلية باتت تُرفع بشكل متكرر على مداخل المدن والقرى، وعلى الطرقات الرئيسية الفاصلة بين المدن.

تُظهر الوقائع أنّ هذه الرموز لا تقتصر على مجرد رفع الأعلام، بل تشمل ممارسات واسعة من التهديد والإرهاب الرمزي؛ فقد انتشرت لافتات تحمل عبارات مثل "لا مستقبل في فلسطين"، مصاحَبة بصور الإخلاء والتهجير، لتوجّه رسالة واضحة حول مستقبل الفلسطينيين وتعيد تشكيل وعيهم نحو التشاؤم واليأس.

كما تضمنت تلك الممارسات استخدام الاحتلال التهديد المباشر من خلال اعتداءات المستوطنين المتكررة على المدنيين، وتمزيق الأعلام الفلسطينية، والتدخل في الممارسات اليومية، وذلك من أجل تحويل الشوارع والساحات العامة في الضفة الغربية إلى مساحة مستمرة للضغط النفسي والسيطرة الرمزية.

فالرموز في الضفة الغربية باتت تُمثّل أداة أساسية من أدوات السيطرة الاستعمارية، يهدف الاحتلال من خلالها إلى تحويل فضائها العام إلى مسرح للصراع الرمزي، وإلى بثّ رسائل معينة بغرض صهر الوعي الفلسطيني.

الرموز الإسرائيلية كأداة حرب نفسية في الفضاء العام

تمثّل الرموز الإسرائيلية في الضفة الغربية جزءاً من استراتيجية الحرب النفسية التي يهدف الاحتلال من خلالها إلى التأثير في وعي ومشاعر الفلسطينيين بعيداً عن استخدام القوة العسكرية المباشرة؛ فرفع الأعلام، وتعليق اللافتات، وتمزيق الرموز الوطنية للفلسطينيين تُعدّ تكتيكات دعائية تهدف إلى إضعاف روحهم المعنوية وتوجيه انطباعاتهم حول المستقبل، بما يعكس أسلوباً من أساليب السيطرة النفسية الممنهجة.

يمكن فهم الرموز المرئية في الضفة كامتداد عملي للحرب النفسية الإسرائيلية، فهي لا تُرفع كأعلام أو تُثبت كلافتات عابرة، بل تُصمَّم بعناية لتكون أدوات سيطرة يومية تفرض حضورها على الوعي الجمعي، بحيث لا يمر الفلسطيني بمكان دون أن يواجه تذكيراً بهيمنة الاحتلال

تُعرّف "الحرب النفسية" بأنّها استخدام الدعاية والتدابير العسكرية أو الاقتصادية أو السياسية لزعزعة معنويات العدو وكسر إرادته، وأحياناً لجعله يميل إلى موقف معين. 

في هذا السياق، يرى الخبراء أن تكتيكات الحرب النفسية لم تعد مجرد محاولات لإضعاف العدو، بل تطورت لتصبح أداة من أدوات ما يُعرف بـ"القوة الناعمة"، كما يصفها جوزيف ناي، والتي تقوم على أساليب التسلّل البطيء في إدراكات وأذهان الجمهور المستهدف، بدلاً من الإكراه المباشر.

من هذا المنطلق، يمكن فهم الرموز المرئية في الضفة كامتداد عملي للحرب النفسية الإسرائيلية، فهي لا تُرفع كأعلام أو تُثبت كلافتات عابرة، بل تُصمَّم بعناية لتكون أدوات سيطرة يومية تفرض حضورها على الوعي الجمعي، بحيث لا يمر الفلسطيني بمكان دون أن يواجه تذكيرًا بهيمنة الاحتلال. فكأنّ هذه اللافتات والأعلام تتحول من مجرد علامات بصرية إلى حدود جديدة تعيد ترسيم الفضاء العام الفلسطيني وتعيد تعريفه بما يخدم خطاب القوة الإسرائيلية.

الرموز الإسرائيلية كأداة لصهر الوعي الفلسطيني

يرى وليد دقة في كتابه "صهر الوعي أو في إعادة تعريف التعذيب" أنّ صهر وعي الفلسطينيين عملية ممنهجة تهدف إلى إعادة تشكيل البنية الاجتماعية والسياسية للمجتمع الفلسطيني بما يتوافق مع الأهداف الإسرائيلية.

يُشير دقة إلى أنّ هذه العملية تتجاوز السيطرة العسكرية المباشرة، لتستهدف القيم الجامعة، الروابط الاجتماعية، والأطر الرمزية التي تمنح المجتمع الفلسطيني تماسكه، بحيث تتراجع القدرة على تطوير أهداف مشتركة بين أفراد المجتمع. 

فصهر الوعي، وفقاً لدقة، ليس مجرد تدمير مادي أو قمع سياسي، بل استراتيجية متكاملة تعمل على تفكيك النسيج الاجتماعي والمعنوي للفلسطينيين بطريقة منهجية.

يمكن استخدام مفهوم دقة حول "صهر الوعي" في فهم آلية عمل الرموز الإسرائيلية في الضفة الغربية، فهي لا تأتي كعلامات بصرية محايدة، بل كآليات لإعادة تشكيل العلاقة بين الفلسطيني وأرضه ومكانه. هذا الصهر لا يعمل في فراغ، بل يتجسد في جملة من الأهداف التي تجعل من الرموز أداة مباشرة لإخضاع الوعي وتوجيهه.

الهدف الأول هو تغيير علاقة الفلسطينيين بأرضهم، عبر الإيحاء المستمر بأن مجرد التواجد فيها محفوف بالتهديد لأمنهم الشخصي، ويظهر ذلك من خلال تحويل الطرقات واللافتات إلى إشارات خطر متكررة تُبقي الخوف حاضراً في نفوسهم وتنزع من داخلهم الشعور بالأمان.

حتى لو نجح الاحتلال، بما يرتكبه من إبادة يومية، في كيّ وعي الفلسطينيين جزئياً وزرع الخوف العميق في نفوسهم من وحشيته، يبقى ذلك الرفض الداخلي حاضراً؛ وشاهداً على أن الوعي لم يُمحَ تماماً، وأن الفلسطيني ما زال يحتفظ ببذرة اعتراض داخلي لا يمكن انتزاعها

الهدف الثاني يتمثل في تحفيز عوامل الهجرة الطوعية، عبر شعارات تقول بوضوح: "لا مستقبل لكم في فلسطين"، فهذه الشعارات جميعها لا تخرج عن كونها أشكالاً من خطابات الطرد، التي تهدف إلى إضعاف تمسك الفلسطينيين بوطنهم وأمكنتهم وزرع الشكّ في نفوسهم حول جدوى البقاء على أرضهم.

أما الهدف الثالث، فهو خدمة المقولات الاستعمارية الكبرى، مثل مقولة بن غوريون: "الكبار يموتون والصغار ينسون"، حيث تتحوّل الرموز، في هذا الإطار، إلى مشروع بعيد المدى يراهن على تآكل الذاكرة الجمعية وإضعاف الروابط الرمزية بالأرض، لإعادة تشكيل الهوية الفلسطينية وفق ما يخدم سردية الاحتلال.

التفاعل الفلسطيني مع الرموز... غصّة الامتعاض كصدى للرفض

تثير الرموز الإسرائيلية في الضفة الغربية شعوراً متواصلاً بالرفض والاعتراض لدى الفلسطينيين، فهي لا تقتصر على تمثيل وجود الاحتلال المادي، بل تُذكِّرهم يومياً بهيمنته الرمزية وسيطرته على الفضاء العام، ففي كل مرة يمر فيها الفلسطيني أمام علم إسرائيلي أو لافتة استعمارية، يتولّد داخله شعور بالغصّة والامتعاض، لتتحول لحظة العبور العادي إلى مواجهة رمزية تُنتج احتجاجاً صامتاً.

وحتى لو نجح الاحتلال، بما يرتكبه من إبادة يومية، في كيّ وعي الفلسطينيين جزئياً وزرع الخوف العميق في نفوسهم من وحشيته، يبقى ذلك الرفض الداخلي حاضراً؛ هذا الرفض الخافت، على هشاشته، يظل شاهداً على أن الوعي لم يُمحَ تماماً، وأن الفلسطيني ما زال يحتفظ ببذرة اعتراض داخلي لا يمكن انتزاعها.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

وراء كل تحقيق، قصة بحث طويلة، وفريق يراهن على الدقة، لا السرعة.

نحن لا نبيع محتوى... نحن نحكي الواقع بمسؤولية.

ولأنّ الجودة والاستقلال مكلفان، فإنّ الشراكة تعني البقاء.

Website by WhiteBeard
Popup Image