"بقجّة" العيب التي أثقلت ظهري

مدونة

الاثنين 22 سبتمبر 20256 دقائق للقراءة


تحاصر قراراتنا تلك الكلمة اللعينة، كأنها ذلك الفيل في الغرفة، الذي يحذروننا منه؛ موجودٌ لكنه لا يُرى، يهمس في أعماقنا بالكلمة ذاتها: “عيب، عيب، عيب، عيب”، مراراً و تكراراً.

أتخيّلها كالأصفاد الحديدية حول المعصم والكواحل، أو أراها كـ"بقجة" جدّ جدّ جدّي المهترئة. برغم رحيله، وتحوّل جسده إلى نفط خام يُصطاد منه من قبل المستعمر وأصحاب المال، نتمسك بها، وكأنّ الهوية والتربية لا تخرجان إلا من الـ"بقجة" ذاتها.

هنا في الغربة، تصبح الكلمة بلا صوت، و بلا شكل وهمي. هنا لا يسألك أحد: "شو رح يقولوا الناس؟"، وكأنّك تستنشق الحرية مع الهواء البارد. تطير كلمة "عيب" بعيداً، لكنك أحياناً تظلّ تسمعها في رأسك أو من معارفك. 

من صنع "العِيب"؟ ولماذا لم يمت كما ماتوا هم؟

العيب ليس قانوناً، إذ لم يكن له مخترع أو صاحب فكرة. 

أتخيّل كلمة ‘عيب‘ كـ‘بقجة‘ جدّي المهترئة، التي مازلنا نتشبث بها وكأننا امتداد لها... وكأننا سنضيع من دونها

باستخدام أساليب التشبيه للتوضيح، يمكن عدّ العيب كضبّاط غير مرئيين؛ من العائلة، الحي، ورُعب "حكي الناس" الذي يهدد أمن المنطقة المسؤول عنها الضباّط. 

هي كلمة ثقيلة صراحةً، تعلّمناها منذ الطفولة، وأحياناً أو دائماً التعبيرعن ثقل هذه الكلمة يتحوّل إلى جريمة يحاول الضبّاط ردعها دائماً. 

صارت العادات تضبطنا قبل أن نفكر، والقيم تُفرض حتى قبل أن نكوّن فكرةً. فعندما يكون الكلام "عيباً"، أيّ سؤال يبدو فضيحةً، ويصبح المنطق تهديداً. والفضيلة بما فيها حقك في الكلام أو الحب أو الاستمتاع أو النشوة أو الشعور أو السؤال، تختبئ كأنها خزي.

غريب وأديب 

حين تهاجر، تلمس الفرق: المجتمع هنا يُرحّب بالسؤال، ويؤمن بالفرد. لكنه أيضاً يتركك أحياناً… دائماً وحيداً.

وحين تجلس بمفردك، تدرك أنّ شيئاً ما لم يُفقد تماماً: الشعور بالمجتمعات التي تُربّي على العيب، والتي برغم بُعد المسافات تظلّ تقول: "يا غريب كون أديب".

وردَ في دراسة مقارنة بين الإمارات وأيرلندا، في مجلة "International Journal of Psychology"، أنّ الأفراد في المجتمعات العربية يشعرون بالعار أكثر من الذّنب، لأنّ "العيب" يرتبط بالانكشاف المجتمعي، في حين أنّ "الذّنب" في المجتمعات الغربية يتعلق بالتقييم الأخلاقي الشخصي. 

العادات والقيم تسبق تفكيرنا فتقيّدنا؛ يصبح الكلام عيباً، والسؤال فضيحة، والمنطق تهديداً

هذا الفرق يجعلنا نخاف من أن "نُرى"، لا من أن "نخطئ".

ووجد الباحثون أنّ العيّنة الإماراتية أظهرت مستويات أعلى من العيب (shame‑proneness)، والشعور بالذنب (guilt‑proneness) المرتبط بتقييم الذات السلبي، مقارنةً بالإيرلنديين الذين سجّلوا ارتداداً اجتماعياً (withdrawal) كنوع من العيب.

النتيجة: العيب عندنا مبنيّ على تقييم ذاتي ثقافي، بينما الغربيون يعانون من انسحاب اجتماعي. الغربة إذاً، تكشف أنّ الأساس المختلف يمنح مساحةً أكبر للسؤال، لكنه أيضاً يخلق ضياعاً إذا ابتعدت عن جذورك.

هنا في أوروبا، قد تعاني من الذنب (guilt)، كأنّك لم تحقق شيئاً أو أخللت بوعد. لكن العيب (shame) الذي يُخبرك أنّك "سيئ" كإنسان، لم يكن لديك مجال لمواجهته، لأنه وُلد في بيئة تُقاس فيها الثقافة بالوحدة والجماعة، وليس بالفرد. 

كلمة "العيب" هي الجواب

لماذا عندما تسأل: "ليش ممنوع أسأل؟"، تُرمى عليك: "لأنه عيب". عندما تفكر في أن تبدي رأياً مغايراً، يُقال: أولاً عيب و"هيك تربّينا"، ولن نتغيّر.

أما هنا، فتتسع الرؤية؛ ترى أنّ كثيراً من الأمور التي ظنناها طبيعيةً كانت مسلّمات مبنيةً على خوف اجتماعي مبنيّ على إقصاء الآخر المختلف فقط.

وبعدها تتعلم بطريقتك الخاصة، سواء في الغربة أو بالانخراط في مجتمعات مختلفة وتوسيع مدارك تفكيرك، أنّ السؤال حقّ مشروع، وأنّ الحرّية لا تعني نكران الأصل أو التشبه بل مسؤولية شخصية وحق مشروع.

هل يمكن أن ننظر إلى العيب بإيجابية؟ العيب كان أو حاول أن يكون رمز احترام، وبات خطاب اعتداء غير مُدرك بلغات البيوت. يحاول العيب جهده للحفاظ على العادات والتقاليد، والتماسك، دون قوانين مكتوبة في زمن الغياب المجتمعي عن المؤسسات.

لكن مع الزمن، تحوّل إلى أداة وهميّة قمعية تجاوزت حدود التضييق. من حماية ليصبح قيداً يقتل الصدق، يخنق السؤال، ويخفي القلق والخوف والحب خلف إرث شعبي تجب إعادة النظر فيه.

والذّنب كعاطفة شخصية تضبط السلوك، هو ما نحتاجه. الأولى تُطوّعنا للخضوع، والثانية تحمّسنا للتغيير.

كما شرح علماء النفس الثقافي، الغربيون يُحفّزون على الاعتراف بالذنب وتحسين الذات، بينما العيب في ثقافتنا يجعل الإنسان يدافع عن "صورته المجتمعية" حتى ولو كانت وهميةً.

أيام "الطيّبين"

نحن في الغربة نواجه تناقضاً مزدوجاً: الفردانية تُحررنا وتحيينا، لكن الوحدة تؤلمنا وتُكئبنا. نمنح لأنفسنا المساحة، لكن نُحرم من دفء تلك المجتمعات، التي برغم قسوتها، نحنّ إلى حنّيتها.

هل يمكننا إعادة النظر في مفهوم ‘العيب‘ بإيجابية؟ فقد كان، أو أراد أن يكون، رمزاً للاحترام، ثم تحول تدريجياً إلى قيّد

وهذا الحنين لا يتناقض مع النقد أبداً. بل يعكس تمسكنا بتراثنا وأن نحافظ على ما نحبّ منه، وتركنا ما يؤلمنا منه، ويقمع أنفسنا، بوعي لا برعب.

العيب إذاً بحاجة إلى إعادة تعريف، ليس كقيّد أو عرف مجتمعي، بل كـ"قصة " من قصص "أيام الطيّبين"… حدود أدبية بسيطة لا تصنع منك عبداً لتقاليد في أغلب الأحيان تضرّ أكثر مما تنفع.

نحن أبناء/ بنات مجتمع/ ات ذات قيم عظيمة وروابط اجتماعية تحمل معاني الحياة والحضارة… لكنها لم تُصقل بالحوار. بل نقتبس القيم البالية تماماً كما هي، وندافع عنها باسم التاريخ والأصل والفصل، والمرعب هو أننا ندافع عنها أحياناً بدافع الخوف من الفردية الفكرية. 

الغربة تجعلنا نعاين الصورة من الخارج: تعرّينا من أصوات الضباط والفيَلة الضخمة، لتبقى معك أنت وصوتك الداخلي فقط، وتقول: "تعا ننسى تعا ننسى 'كلمة العيب الي راحت، أيام العذاب المرة والتقاليد اللي ضاعت'"... وننطلق إلى الحرية.  

والحريّة الحقيقية هنا تكمن في قُدرتنا على أن نحترم/ نتعلم من حكايات الأموات والتاريخ، بينما نكتب حكاياتنا بأنفسنا، "على هوا هوانا"، بأخلاق ومسؤولية وبلا "عيب"، بلا بلّوط.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image