"لا بدّ من أن يحافظ الكاتب على قواه العقلية، فالكتابة تحتاج إلى تركيز وإبداع".
فأجابني الكاتب المخضرم: "هذا لأنك لا تزال فتيّاً. هل تعرف أن الكُتّاب الكبار كانوا يتعاطون الحشيش يومياً؟ إنه يمدهم بالخيال الساحر ويساعد المبدع على التحليق في أفق جديد. إن الحشيش غذاء العباقرة".
كان كلامه مقنعاً خصوصاً لثقتي فيه وحبي لكتاباته. تناولت من يده السيجارة وتشبع صدري بالهواء الأزرق، وسعلت بشدة. فضحك الجميع، وعلّق الكاتب المخضرم: "قال نجيب محفوظ في رواية له: النفس الأول للسعال والثاني لتفتيح الذهن".
انفتح ذهني فعلياً وأحسست أنني خفيف ومنتشٍ، بيني وبين الأرض شبر، ومع النفس الرابع كان رأسي قد وصل إلى السحاب، وكنت أقرب إلى السماء وبعيداً من الأرض.
"شهر العسل"
بعد تلك السهرة، والتي أقيمت عقب الانتهاء من حفل توقيع رواية جديدة للكاتب المخضرم في دار النشر، عدتُ إلى البيت.
يبدو أن الحشيش استحوذ على أفعالي وتصرفاتي، فأدركت زوجتي السابقة أنني في حالة تشويش. نكرت ونفيت التهمة عني، فقالت: "حسناً… هل يمكنك أن تمشي على هذا الخط؟".
وأشارت نحو الأرضية المنقوشة بقطع السيراميك، ووقفت أنا في حيرة من أمري: "أين الخط؟".
صار الحشيش عادة يومية: سيجارة بعد الإفطار وأخرى وقت الكتابة وثالثة مع صديق ورابعة قبل العلاقة الجنسية. كانت تلك المرحلة تسمى "شهر العسل"، وفيها يصبح المخدر مصدراً متجدداً للبهجة والسعادة الزائفة
رؤيتي "المشوشة" حجبت عني معرفة الفرق بين بلاط السيراميك. ومع ذلك لم تدخل معي في جدال. كنتُ أمازحها، وأطلق النكات، ومضت الليلة في هناء وسعادة.
بدأت أشارك الأصدقاء في جلسات السهر والتناوب على الحشيش، حتى تعرفت إلى بائعي الحشيش وأماكن بيع المخدرات.
صار الحشيش عادة يومية: سيجارة بعد الإفطار وأخرى وقت الكتابة وثالثة مع صديق ورابعة قبل العلاقة الجنسية. كانت تلك المرحلة تسمى "شهر العسل"، وفيها يصبح المخدر مصدراً متجدداً للبهجة والسعادة الزائفة.
دائرة مفرغة
مع مرور الوقت، فقد الحشيش تأثيره، لجأت إلى استبداله بنبات الفودو، غير أنه كان أشد قوة على الدماغ. بعد عام تقريباً، أدمنت الأستروكس ثم البودر، وهي مواد مصطنعة ومميتة.
عشت أعواماً في دائرة مفرغة: أستيقظ من نومي في الثالثة أو الرابعة ليلاً، أنزل إلى الشوارع لأفتش عن المادة المخدرة، أعود إلى شقتي، أغلق باب الغرفة وأتعاطى المخدر، أدخل بعدها في غيبوبة قصيرة، وحين أستيقظ من المادة المخدرة، أشرع في البحث مجدداً عنها. لا عمل ولا أصدقاء، لا متعة ولا لذة، لا أهل ولا أبناء، لا نوم ولا استيقاظ، لا حياة.
هجرت الكتابة والأسرة، ونفر مني الأصدقاء، ونبذني المجتمع.
هذه المادة المخدرة يطلق عليها "هزئني"، وهو اسم يعبر بصدق عن حال متعاطيها. إذ إن مدمن تلك المادة لا يهتم مطلقاً بملابسه أو بمظهره الخارجي، ويتلقى توبيخ الآخر له بابتسامة، ويُهان من الجميع حتى من البائعين الذين يستلذون بإعلان احتقارهم له. أما الحالة النفسية التي يتعرض لها المتعاطي فيمكن وصفها "بالحضيض"، إذ لا يعرف معني الراحة أبداً ويدور في دائرة الإدمان بلا توقف.
"عاشق الموت"
في عز الإدمان النشط، توقفت أمام المرآة ورأيت أمامي شخصاً لا أعرفه. بغيض ومتشرد وفي حالة ضياع. بصقت على المرآة من فرط التقزز والاشمئزاز، وقلت له: "مرحباً بك أيها المنهزم المكروه المعفن... مرحباً بك يا عاشق الموت".
حينذاك، عقدت العزم على التخلص من الإدمان مهما كانت النتائج، بخاصة وأنني لا أريد أن أرى وجهه البائس المحطم مرة أخرى.
وهكذا بدأت رحلة التعافي.
اتجهت في اليوم التالي إلى مركز علاج الإدمان بإمبابة حيث بقيت هناك 70 يوماً، اكتشفت فيها أن الإدمان مرض مزمن يمكن محاصرته بالأدوية والاجتماعات والدعاء والمشاركة. في الأيام الأولى، تجمعنا في قسم إزالة السموم لسبع أيام متتالية وكنّا نعاني من أعراض الانسحاب حيث النوم المتقطع والإمساك الدائم.
"أصبحت شخصاً جديداً يحمل رسالة التعافي للعالم الخارجي. شخص حين أنظر إليه الآن في المرآة أبتسم برضا، وأقول له: "مرحباً بك أيها البطل النافع المتأنق المحبوب… مرحباً بك في الحياة الحقيقية"
انتقلنا بعدها إلى التأهيل، وهنا اختلفت الأمور: رعاية طبية في النهار ومحاضرات تكشف لنا ألاعيب المرض ودهاءه، والليل للترفيه: لعب كرة القدم والبلياردو والجيم والبلاي ستيشن، والعودة للقراءة في مكتبة المركز.
بدأنا نسترد الحياة ونعرف البهجة الحقيقية بلا مخدر. والأهم أنني تعلمت كيفية التعامل مع النفس ومع الآخر، واكتشاف جوهر الذات، والفرق بين المشاعر والأحاسيس والتعامل معهما، وتحديد الأهداف والعمل عليها، رؤية العالم بوعي متفتح، حل المشاكل ومواجهتها، التقبل والشجاعة للتغيير وإحياء الجانب الروحاني.
كنتُ أعتقد أن التعافي يعني الامتناع عن المواد المخدرة والكحول، ولكن ما اكتشفته أن التعافي تغيير في كافة السلوكيات السيئة وإحلال السلوك الناضج.
لم أعد كما كنت قبل الإدمان، ولم أعد كما كنت أثناء الإدمان النشط. لقد أصبحت شخصاً جديداً يحمل رسالة التعافي للعالم الخارجي. شخص حين أنظر إليه الآن في المرآة أبتسم برضا، وأقول له: "مرحباً بك أيها البطل النافع المتأنق المحبوب… مرحباً بك في الحياة الحقيقية".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



