رسالة إلى ابن وابنة لم أنجبهما

    رسالة إلى ابن وابنة لم أنجبهما

مدونة

الثلاثاء 1 يوليو 202515 دقيقة للقراءة

يُنشر هذا النصّ ضمن "لنتخيّل"، وهو ملفّ مفتوح يضم نصوصاً، مدوّنات، قصصاً، مقابلات وتقارير صحافيةً يتيح مساحة للخيال ولضرورته، سواء في تخيّل واقعٍ أو مستقبلٍ نودّ أن نعيش فيه، أو ذاك الذي قد يُفرض علينا.


وفقاً لهوليوود، فإنّ "ممارسة الحب" أو الجنس "الرومانسي"، ولا سيّما في التجربة الأولى، واجبٌ في الظلام وتحت الغطاء أيضاً. لا بدّ أنّهم فهموا كلام كوبيْن حرفيّاً. لطالما كرهتُ هذا التصوير. لا أعارض هذا النوع من الممارسة، لكن تمثيله الدرامي ابتُذِل زيادةً عن اللزوم، إذا لزم الابتذال. باختصار، إن أُجبِرتما مرةً على الشيطنة، فليس الجنس هدفاً مشروعاً. شيْطِنا الشيطنة بدلاً من ذلك.

لنفترض أنّ دورة حياة الغرام -والوقوع فيه- تبدأ من أواخر المراهقة، لنقُل من سنّ السابعة عشرة. لم أقع مطلقاً في الغرام، باستثناء حالات "الكرش/ crush" التي نمرّ بها في الطفولة المبكرة والمتأخرة. أتندّر على حالي وأقول إنّ السلفيين أنفسهم وقعوا يوماً ما في الغرام. لا ينبثق هذا التندّر من ندم أو حسرة، بل على العكس، هو ثمرة خيار واعٍ.

أتندّر على حالي وأقول إنّ السلفيين أنفسهم وقعوا يوماً ما في الغرام. لا ينبثق هذا التندّر من ندم أو حسرة، بل على العكس، هو ثمرة خيار واعٍ.

أقول غراماً وليس حبّاً، فالأخير لا يقتصر على علاقة أحادية، غالباً ما يتوّجها الزواج. الغرام جميل وغيابه جميل أيضاً. في الإنكليزية، تشير عبارة "cherry on top" إلى كل جميل فائض (حرفياً تعني "زينة" الكرز على الكيك)، وفي الدارجة، نقول "زيادة الخير خيرين". أستشهد بالعبارة الإنكليزية لأنني عادةً ما أقولها في الإشارة إلى وقوعي المفترض في الغرام. هو ليس حاجةً بل فائض.

إذا ما تمت عقلنة علاقات الحب بين البشر، سقطت جميعها كسلوكيّات هدّامة تحدّ من استقلالية الإنسان وطبيعته المزاجية والفكرية، فحتى أسمى أشكال العلاقات التي استشهدنا بها في مثال cherry on top، يُرى فيها نوع من الأنانية، بالمعنى النيتشوي للكلمة.

لنعارض هذا القول ونقُل إنّ علاقات الحب، كون الحب ليس انفعالاً. هي حالات تجلٍّ لشعورٍ ليس فكريّاً بالكامل، وليس عاطفيّاً بالكامل. وإن كانت فضيلة العقلانية هي الكشف الدؤوب للحالة البشرية، فحساب حيثيات الـ"حب" في دائرة مغلقة يدحض مآرب هذه الفضيلة.

وحدها الصداقة، في صورتها المثالية، تنسلّ من غمد التفلسف لامعةً بهية. فهي تنفي التسوية تجاه روح المرء المتفردة وتنبذ "التضحية" في سبيل الحب، لأنّ الحب، وفق حساب البعض، يستوجب التضحية كي لا نعيش في عزلة. كل كاره لعزلته، يرى في الـ"حب" خلاصه الوحيد. عزوبيتي ليست مؤدلَجةً ولا مؤدلِجة، ولا تنفي مشروعية الغرام أو تحتّم عليه الزواج.

لقد قاربت الستّين. على ما يبدو، فإنّ حياتي تسير إلى احتمال إنجاب أحدكم. خسرتُ عيني اليسرى مؤخّراً بعد سنين طوال من التشكيك في شغلها. أحياناً يستبدل الناس بعضوٍ مفقود عضواً "روحانياً"، كعينٍ ثالثة لا تقارب التديّن بالضرورة. صرتُ أشبه "دون عصابة العين" (وهو الذي لم أحبّه قط. فقد قضيتُ شبابي وأنا أتجنّب أناساً مثله. لم أتقبل مزاجه العكر وبلادته).

أذكر الفقد لأخبركما عن أحقر وظيفة في بالي: أن تخدما في الجيش بأي صفة. ولم أخفِ تهكّمي على الوطنية والجيوش في كل مرة زرتُ فيها مزرعة صديقي، إذ كنا نلتقي كل جمعة مع زملاء العمل. افترضتُ أنّ أيّ جندي في العالم يلتحق بالجيش للأسباب التالية: أولاً، إن كان ينتمي إلى قوة عسكرية عظمى، فهو يرغب في الرحيل عن بلدته أو قريته التي لا يحبها على الإطلاق لكي "يرى العالم"، كما يسري الأمر في ذهنية الجندي الأمريكي. ثانياً، يودّ الدفاع عن الوطن ويصبو إلى البطولة. ثالثاً، يحبّ الأسلحة والقتل ويحتاج إلى أن يضفي بعض النبل على فعلته. رابعاً، يحتاج إلى المال "ليرى العالم" بطرائق أخرى أو ينهج سلكاً آخر، كمواصلة التعليم، مثلاً.

أسلكُ الطريق الوحيد إلى المدرسة حيث أدرّس الإنكليزية، وحيث درستُ الثانوية سلفاً. إن كنتَ صبيّاً، لانتهَت بك ثانويتك في المدرسة نفسها. أخبرني المدير أنه في وسعي التقاعد حين أشاء لكنهم سيخسرون معلّماً عظيماً، وقد كان صادقاً في كلامه. على أن بقائي في القرية كل هذه السنوات ليس مرتبطاً بالمدرسة التي أنهت مسيرتي الأكاديمية وأنا شابّ. بقيتُ لأنني بدأتُ أحب ما كرهته سلفاً: التدريس. تكرار المادة نفسها لسنين طوال صار تجربةً روحانيةً، كأغنية تكره سماعها لأول مرة، فتصبح من موسيقاك المفضلة.

بقيتُ أيضاً لأنه لم يكن ثمة شيء أفضل لأفعله.

ابنتي الحبيبة، ابني الحبيب، آمل أن تصيرا واعيَين، لا متوجّسَين، بما تكتنزه الأيام المقبلة. ستصيران واعيَين بمن تقابلان في المشوار، سواء في الواقع أو الخيال، وبوجودكما المتقلب الذي لا يتّكل على أبٍّ أو أمٍّ لينخرط في العيْش دون مواربة. آمل أن تصيرا مسالمَين، لا أن تصيرا محظوظَين. 

ابنتي الحبيبة، ابني الحبيب، آمل أن تصيرا واعيَين، لا متوجّسَين، بما تكتنزه الأيام المقبلة. ستصيران واعيَين بمن تقابلان في المشوار، سواء في الواقع أو الخيال، وبوجودكما المتقلب الذي لا يتّكل على أبٍّ أو أمٍّ لينخرط في العيْش دون مواربة. آمل أن تصيرا مسالمَين، لا أن تصيرا محظوظَين. 

وبذكر الحظ، أخبركما عن إغواء الذاكرة. قد تقابلان أناساً واثقين من إقناعكما بحلاوة الماضي، فتتبدّى الذكرى حلوةً إزاء راهن عَفِن. سيخبرونكما بألّا تقلقا بشأن قسوة الحاضر، إذ ستذكرانه يوماً وتضحكان. كل حنين إلى الماضي نابع من حاضر مؤذٍ لا يجوز تجاهله. إذا غُويتُم، ستفيض عليكما الذكريات الحلوة والراهن الغارق في مرارته. لا بأس بالاعتراف بأنّ الوضع "زيّ الخرا"، على رأي طفلٍ حكيمٍ.

اقرؤا شكسبير قدر ما استطعتما. شاهدوا "الملك لير" لتفهما أباكما ونفسَيكما. ولتأخذا بأذن الاعتبار ما تسمعانه على خشبة المسرح. ستفهمان شيئاً عن الإنجاب والموت.

ثمة اتجاهان يسيّران سلوكي في مواجهة الموت: الأول، مسار رواقي لا يفقه الفلسفة الرواقية، أي التسليم مسبقاً بالفقد والخسارة. الثاني يُهمَس في أذني حين أتجاوز الخط الرفيع بين القوة والتداعي، أي أن يتحول التسامح مع الموت إلى تبلّد وحسابات مدروسة، فأسترجع -لكيلا أقول أنتكس- عفوية المسار الأول ولا أفقد حلاوة اللايقين الذي أعطي لحياتي معنى. 

لا تنجرّا وراء مقولة القذافي: "إن الشعوب لا تنسجم إلّا مع فنونها وتراثها"، والتي ورثها جيلي والأجيال التي سبقتنا وتبعتنا وردّدناها كزومبي يجترّ فعلاً ما أكله. ما كنّا لنتوقف عن تهليل شكسبير أو موزارت إذا ولِدا عربيَّين. إن أحببتما أحمد إبراهيم الفقيه عوضاً عن شكسبير، فأحبّاه عن قناعة وليس لأنه ليبيّ. صحيحٌ أنّ كلامي هذا منبثق من اغتراب ولا يعُوَّل عليه، لكنه صادق.

لا تنجرّا وراء مقولة القذافي: "إن الشعوب لا تنسجم إلّا مع فنونها وتراثها"، والتي ورثها جيلي والأجيال التي سبقتنا وتبعتنا وردّدناها كزومبي يجترّ فعلاً ما أكله. ما كنّا لنتوقف عن تهليل شكسبير أو موزارت إذا ولِدا عربيَّين. إن أحببتما أحمد إبراهيم الفقيه عوضاً عن شكسبير، فأحبّاه عن قناعة وليس لأنه ليبيّ.

ولطالما حققتُ في مسألتَي القلق والاغتراب لأني لم أختبرهما. ربما تنصلّتُ من الأولى لأني عشتُ لستة عقود في بلدٍ لا يفكر ساكنوه -لكيلا نقول مواطنيه- بضغط الإيجار ودفع الفواتير وسعر البنزين ورسوم الجامعة… إلخ. إذ يبدو القلق على السطح اقتصادياً بحتاً. على أني أرى وأسمع ليبيين وليبيات يتآكلون/ ن بفعل القلق الذي قد تسببه المسألة الثانية. هذه الثانية أتركها لغيري.

ألم نرشّ جميعنا الملح على البزّاق حين كنا أطفالاً؟ ألم نفجّر أعشاش الدبابير بالألعاب النارية؟ وعلى الضفة الأخرى دأبنا على مصّ رحيق الأزهار الرفيعة التي نسينا أسماءها وقشرنا روث الأبقار اليابس بالعيدان كي نستكشف مدى يباسه. لم إذاً لا أحسّ بما يخبرونني عن القلق والضجر؟

الاغتراب عن هذا الاغتراب مكّنني من تفهّم عبارة "لا أودّ الحديث عن هذا". أي تفهّم معاناة الآخر التي لا تُفهَم بالضرورة ولا تُقال بالطبع.

عن نفسي أخبركما بأنّ من قابلني في المشوار عرفني جيداً. ولأني عشتُ مرتبطاً بالناس، لم أكن في حاجة إليهم. ثمّنتُ رفقتهم لكني لم أبحث عنها. ولكي أنتهي بالحديث عن النفس، سأسرد لكم نبذةً عن أنانيتي وإيثاري. آسف على عدم إنجابكما. آسف على إنجابكما. وسعيدٌ أيضاً بالإنجاب وعدمه. سأختم النهاية بسونيتة شكسبير الرابعة عشرة.

عن نفسي أخبركما بأنّ من قابلني في المشوار عرفني جيداً. ولأني عشتُ مرتبطاً بالناس، لم أكن في حاجة إليهم. ثمّنتُ رفقتهم لكني لم أبحث عنها. ولكي أنتهي بالحديث عن النفس، سأسرد لكم نبذةً عن أنانيتي وإيثاري. آسف على عدم إنجابكما. آسف على إنجابكما. وسعيدٌ أيضاً بالإنجاب وعدمه.

 ولكم وددتُ أن أختم بقصيدة لأمرئ القيس، لكنني سأفعل ذلك في رسالة أخرى.

"أنا لا أنتزع أحكامي من النجوم،

ومع ذلك أشعر أني منجّم،

لكن ما من أجل أن أتنبأ بالحظ الحسن أو السيّئ،

أو بالطواعين، والموت، أو بأحوال الفصول.

ولا أستطيع التكهّن حتى الدقائق الوجيزة،

بما سيحدث في كل فصل،

مشيراً في كلٍّ إلى رعوده، وأمطاره، وعواصفه

ولا أن أقول في مجالس الأمراء إنّ الأمور ستجري على أحسن حال،

بأن أتبصّر مراراً فأجد ذلك في السماء.

لكنني من عينيك أمتاح معارفي،

وفي ألق نجومها الدائم أقرأ ذلك الفنَّ،

إذ إن الحقيقة والجمال كليهما سيزدهران،

إذا انعطفت عن نفسك إلى اختزان الحياة،

وإلا فإنّني أتنبأ عنك بهذا:

إنّ نهايتك هي النهاية والمصير المشؤوم

للحقيقة والجمال".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image