شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
حقائق تكشف لأول مرة عن اللقاءات الأولى بين المسيحية والإسلام

حقائق تكشف لأول مرة عن اللقاءات الأولى بين المسيحية والإسلام

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الأربعاء 31 مايو 202303:01 م

تقدّم المرويّات التاريخية العديدَ من الأخبار التي ترصد الاتصالات الأولى بين المسلمين والمسيحيين، خاصةً من الجانب الإسلامي، حيث نجد لقاء الرسول محمد عندما كان طفلاً بالراهب بحيرة، عندما سافر مع عمّه إلى الشام. وبعد ذلك هجرة المسلمين إلى الحبشة، بسبب اضطهاد قريش لهم، واستقبالهم باحترام من قبل ملكها النجاشي. ثم في واقعة المباهلة، عندما أتى مسيحيو نجران لرؤية الرسول في المدينة.

وعندما سأل هرقلُ معاويةَ بن أبي سفيان قبل إسلامه عن الرسول، في الحوار الشهير في الأدبيات الدينية الإسلامية. كان أبو سفيان في تجارة إلى الشام، وعلم هرقل بذلك، فاستدعاه وأخذ يسأله عن الرسول، فاستحى معاوية أن يكذب وأخبر بحقيقة محمد إلى أن تنتهي المحادثة بقول هرقل: "فإن كان ما تقول حقاً، فسيملك موضع قدميّ هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج؛ لم أكن أظن أنه منكم، فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه". ومن الجانب المسيحي هناك كتابات يوحنا الدمشقي على سبيل المثال، والتي تناولت بعض الاختلافات بين العقيدتين المسيحية والإسلامية. هذه المرويّات خُطّت باللغات العربية واللاتينية واليونانية، وأخذت الجانب الأكبر من اهتمام الباحثين.

ناقشت تلك الوثائق حالات الأكل مع المسلمين، وتوريث المسلمين، والزواج منهم، وحتى القتال مع جيوشهم، وغير ذلك الكثير، لكن هذا لا يعني أن جوّاً من التسامح والصداقة وانعدام العدوانية كان هو السائد، بل المزيج من كل ما سبق

في المقابل، أُغفلت الكتابات باللغة الآرامية السريانية التي كتب بها مسيحيو بلاد الشام والعراق لسببين: الأول لغوي، فالاهتمام انصبّ على الوثائق التي خُطّت باللغتين العربية واللاتينية، لأن السريانية تحوّلت مع الوقت إلى لغة شعائرية اقتصرت على الكنائس، ممّا أبعدها من أن تكون مصدراً للكتابة، في ما بعد في هذا الشأن. والثاني، عقائدي، لأنّ الدراسات ما قبل حداثية في العالم الغربي، كانت تنظر إلى مسيحيي الشرق الأوسط كمهرطقين، بسبب الخلاف الديني بين أتباع مفهوم الطبيعتين للمسيح، والذي تبنته الكنسية الغربية بشكل رسمي منذ مؤتمر خلقيدونية 451 م، وأصحاب الطبيعة الواحدة الذي كان يعتنقه أكثر مسيحيي الشرق، ممّا أدّى إلى تنحية وثائقهم عن البحث التاريخي.

هذه الوثائق كانت قد نتجت عن اللقاء الأول بين مسيحيي العراق وسوريا والمسلمين، وقد كُتبت باللغة الآرامية السريانية، وجمعها وناقشها الباحث مايكل فيليب بن، في كتابه الجديد "حين التقى المسيحيون بالمسلمين أول مرّة، مرجع لأقدم الكتابات السريانية عن الإسلام"، الصادر عن دار جليس في الكويت 2022، ترجمة عبد المقصود عبد الكريم. قدّم مايكل فيليب بن وصفاً وعرضاً لهذه الوثائق، التي تتنوّع بين سجلات تواريخ، ومراسلات، وأدب رؤيوي، ومحاورات وشذرات أخرى متفرّقة، سلسلها تاريخيّاً، بحيث تغطي الفترة، منذ وفاة الرسول 632م، إلى سقوط الدولة الأموية على يد العباسيين عام 750م.

تكمن أهمية هذه الوثائق في أنّ أكثر النصوص التي كُتبت عن بدايات الإسلام من طرف يختلف عقائدياً معه، ولكنّه صدر عن أناس كانوا ضمن سلطة الدولة الإسلامية. وقد أتت هذه الوثائق من مسيحيي سوريا والعراق، إذ كانوا قد سجّلوا انطباعات أوليةً عن اللقاء مع الفاتح الجديد، سمحت بظهور التصوّرات الأولى للمسلمين من قِبل الآخر.

تختلف هذه الوثائق عن المدونات البيزنطية واللاتينية، فالأخيرة نشأت في الخارج من قبل البيزنطيين. لذلك تأتي مدونات المسيحيين الشرقيين مختلفةً إلى حدّ ما عما كتبه الطرفان المسلم والبيزنطي. فقد سمح تواجد المسيحيين الشرقيين ضمن الدولة الإسلامية بنشوء علاقات أكثر قرباً إلى المسلمين. وناقشت تلك الوثائق حالات الأكل مع المسلمين، وتوريث المسلمين، والزواج منهم، وحتى القتال مع جيوشهم، وغير ذلك الكثير، لكن هذا لا يعني أن جوّاً من التسامح والصداقة وانعدام العدوانية كان هو السائد، بل المزيج من كل ما سبق.

يعرض مايكل فيليب بن هذه الوثائق بشكل متدرّج تاريخيّاً. ويهدف من ذلك إلى رصد الملاحظات والتغيّرات التي اعترت الكتّاب المسيحيين تجاه السلطة العربية الناشئة بقوة، والتي سيطرت خلال فترة قصيرة على أكبر إمبراطوريتين في ذلك الزمان؛ الفرس والرومان؛ حيث نجد في الوثيقة الأولى ذكراً للرسول محمد، ومعركة اليرموك، وكيف هُزم الرومان، لكن من دون ذكر للدين الجديد، مع التركيز على دور الرسول في توحيد العرب. وقد وُجدت هذه الوثيقة من خلال كتابة على الصفحة الأولى لأحد الأناجيل من قبل أحد المعاصرين للحدث.

أمّا رسائل البطريرك إيشوعياب الثالث، إبان الحكم الأموي، فتمنحنا نظرةً عن الكيفية التي تم بها التعامل مع الجباية لصالح السلطة الجديدة، حيث نجد البطريرك يشير إلى مقولة المسيح بإعطاء مال قيصر لقيصر. ويلاحظ مايكل فيليب بن أنّ البطريرك إيشوعياب الثالث، بدا وكأنّه كان غير معنيٍّ بالقادم الجديد مع عقائده الجديدة، فقد ركّز البطريرك في رسالته على شؤون إدارية وتنظيمية، بالإضافة إلى ما تقوم به الطوائف المسيحية المتواجدة ضمن الدولة الإسلامية من محاولات لاستخدام الحكم العربي في تنافسها العقائدي. وعلى الرغم من ضخامة الحدث الذي شمل المنطقة كلّها، إلّا أنّ رسائل البطريرك إيشوعياب الثالث، تأتي ضمن اهتمامه بتنظيم كنيسته في الأعم الأغلب.

يحلّل مؤلف كتاب "حين التقى المسيحيون بالمسلمين أول مرة…."، الغزوات الإسلامية ويقول إنها لم تترك دماراً كبيراً، فقد شهدت النقوش على الكنائس في ذلك الزمن استمراراً لعمليات البناء.

يحلّل مؤلف كتاب "حين التقى المسيحيون بالمسلمين أول مرة…."، الغزوات الإسلامية ويقول إنها لم تترك دماراً كبيراً، فقد شهدت النقوش على الكنائس في ذلك الزمن استمراراً لعمليات البناء وحتى إنشاء أبنية جديدة. تدفع هذه الملاحظة إلى استنتاج أنّ الخلاف الديني بين المسلمين والمسحيين لم يكن واضحاً بالقدر الكافي أو لم يكن مهماً، حتى تتم مناقشته بشكل أوسع في رسائل البطريرك إيشوعياب الثالث.

اختلفت مواضيع هذه الوثائق حسب تتاليها زمنياً، بحيث نرى استجابةً مختلفةً مع كل حدث، فبعد تأكّد الحكم الأموي بانتصار معاوية على علي، واتساع الفتوحات الإسلامية، نرى أنّ "سجل خوزِستان" يهتم بالغزوات الإسلامية ويقدّم بيانات مهمةً حول المعارك التي نشبت. ومن هذه الملاحظات الجديدة لتلك الوثائق، نستشف أنّ الاهتمام المسيحي بالسلطة الجديدة قد بدأ يتبدّل، حيث ظهرت أسفار رؤيوية ترى بأنّ انتصار المسلمين غضب من الله على فساد المسيحيين، وأنّه علامة على نهاية الزمن، كما جاء في سِفر رؤيا إفرام الذي كُتب بطريقة شعرية:  "هناك ينطلق شعب من الصحراء/ أبناء هاجر، خادمة سارة... يجبرون على دخول الأرض باسم الكبش/مبعوث ابن الدمار/ وتكون هناك علامة في السماء/كما قال ربنا في إنجيله... ينتشر النهابون عبر الأرض/يأخذون النساء والأطفال أسرى/ينتزعون الرضيع من أمه/ ويدفعون الأم للسبي". تضمّن سفر إفرام الكثير من الأوصاف المخيفة للغزاة الجدد، لكنّهم كانوا ضمن أجندة الله ليوم الدينونة.

تتابع ظهور تلك الأسفار الرؤيوية مع توطّد حكم عبد الملك بن مروان، بعد انتصاره على الزبير وبنائه قبّةَ الصخرة وتزيينها بكتابات قرآنية تعارض العقيدة المسيحية، واعتماد اللغة العربية بدلاً من اللغات التي كانت سائدةً قبلاً، وصكّ النقود ذات الشعارات الإسلامية. وتتنبأ هذه الأسفار بنهاية العالم، وبأنّ فترة حكم المسلمين قصيرة، سيعود بعدها البيزنطيون للحكم، ومن ثم تظهر أقوام يأجوج ومأجوج، ومن ثم المسيح الدجال، وأخيراً يأتي المسيح.

لكن في المقابل كتب يعقوب الرهاوي، في سجله التاريخي، بصورة أكثر موضوعيةً عن العلاقات المسيحية والإسلامية وأظهر معرفةً جيدةً بالدين الجديد. وقد جاء هذا التغيّر في الكتابات على أثر استقرار الحكم للأمويين واستمراره زمنيّاً، بالإضافة إلى التأكّد من أن أسفار الرؤى الأخروية لم تكن صحيحةً كرؤيا يوحنا الصغير ورؤيا مثيوديوس، اللتين تنبأتا بالزوال السريع للمسلمين، لكن ذلك لم يحدث.

كتب يعقوب الرهاوي، في سجله التاريخي، بصورة أكثر موضوعيةً، عن العلاقات المسيحية والإسلامية وأظهر معرفةً جيدةً بالدين الجديد. وجاء هذا التغيّر في الكتابات على أثر استقرار الحكم للأمويين واستمراره زمنيّاً

أدّت هذه التطورات في الكتابات المسيحية الشرقية إلى ظهور أدب المحاورات، بين قائد عربي وأحد رجال الدين المسيحيين، كمناظرة يوحنا الصغير ومناظرة بيت حلي. وتقوم هذه المناظرات على أسلوب سؤال وجواب، كاشفةً عن تعمّق المعرفة المسيحية بالدين الإسلامي بشكل أكبر. ففي مناقشة بيت حلي، تدور الأسئلة والأجوبة عن مدى انتشار الغزوات الإسلامية والختان، وتفسير التوراة والإنجيل، والتثليث عند المسيحيين، والرسول محمد والقرآن، وتختتم تلك المناقشة بإعلان القائد العربي المسلم، بأنّه لولا الخوف من العواقب لاعتنق الكثير من العرب المسيحيةَ.

ما تم تقديمه، أعلاه، غيض من فيض تلك الوثائق، التي يجب الرجوع إليها بشكل مباشر في الكتاب، ليس لأنّها كُتبت من داخل البلاد التي سيطر عليها المسلمون، بل لأنّها تفتح الباب على مصراعيه أمام علم التاريخ المقارن والدين أيضاً. فالقراءات السائدة لتلك الفترة كانت تتأرجح بين الوثائق والمرويّات الإسلامية في مقابل الوثائق والمرويّات المسيحية البيزنطية. ومع هذه الوثائق أصبح لدينا جسر تواصل بين قراءتين حكمتا الرؤية على التاريخ الإسلامي وعلاقة المسيحيين في المراحل الأولى بالمسلمين.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image