في أعقاب احتجاجات تشرين الأول/ أكتوبر 2019، التي هزّت النظام السياسي العراقي وصنعت شرخاً كبيراً بين الشارع والطبقة الحاكمة، برزت وجوه جديدة في المشهد السياسي، خاضت الانتخابات البرلمانية المبكرة عام 2021، تحت لافتة "التغيير"، مدعومةً من جمهور غاضب أنهكته سنوات الفساد واللاعدالة والقتل الممنهج للمتظاهرين.
لكن مع اقتراب نهاية الدورة النيابية الحالية -الخامسة- انزلق بعض المستقلّين و"نواب تشرين" نحو ما كانوا يحاربونه، تاركين خلفهم جمهوراً كان قد وثق بهم وأصبح في حيرةٍ من أمره بين اتهامات بالخيانة و/ أو الخذلان.
تحوّلات صادمة
خلال السنة الأخيرة من عمر مجلس النواب العراقي في دورته الخامسة، أعلن عدد من النواب المنتمين إلى ما يُعرف بـ"أحزاب تشرين" انخراطهم العلني في أحزاب كانت جزءاً من السلطة التي ثار ضد سياستها الشعب العراقي في 2019، وانخرط عدد منهم في تحالفات انتخابية مع أحزاب لطالما كانت في مرمى نيران ساحات التظاهرات. هذا التحوّل أثار غضباً واسعاً لدى جمهور تشرين، والناقمين على أحزاب السلطة، كما أظهر هشاشة البنية السياسية للحراك التشريني.
لأسباب من بينها عدم النضج السياسي، والفشل في محاسبة "قتلة المتظاهرين"، والافتقار إلى الحماية، وأحياناً تغليب عدد منهم مصالحهم الشخصية على المبادئ التي طرحوها في أثناء الترشّح، فشلت تجربة "نواب تشرين". فهل تعيد الانتخابات البرلمانية الوشيكة زمام المبادرة إلى الشارع العراقي؟
يرجّح كثير من المعنيين بالمشهد السياسي في العراق، أنّ فشل "التشرينيّين" في تشكيل كتلة سياسية موحّدة داخل البرلمان يعود إلى غياب القيادة والتنظيم، فضلاً عن الطابع الأفقي للحراك، الذي كان في جوهره رافضاً لأي زعامة، وهذا ما جعل المستقلّين، بعد دخولهم مجلس النواب، عرضةً للاستقطاب الحزبي، دون وجود إطار سياسي جامع يحميهم أو يوجّههم، ولهذا سرعان ما أعلن عدد منهم الاستقالة من "تيار امتداد" الذي يُعدّ التيار الأشهر، وكذلك فشل "البيت الوطني" وغيره من التشكيلات في الاستمرار أو تحقيق نتائج ملموسة، إما بسبب قلة الخبرة السياسية، أو ضعف التمويل أو الاستقطاب الحادّ داخل البيئة السياسية. وكثرٌ منهم انسحبوا من المشهد دون أثر يُذكر.
وقد تباينت التفسيرات حول دوافع النواب الذين غادروا صفوف المستقلّين، بين من يصفهم بـ"الانتهازيين" الذين استغلوا الحراك للوصول إلى البرلمان، وبين من يبرّر تحرّكاتهم بكونها محاولةً للعمل من الداخل وتجنّب العزلة السياسية، إلا أنّ المحصّلة النهائية كانت تآكل ثقة الشارع بهم في الحالتين.
"خدعونا باسم الوطنية"
يصف الناشط المدني محمد الدعمي، نظرته تجاه "نواب تشرين" الذين انخرطوا في أحزاب كانت مناهضةً للحراك أو جزءاً من السلطة، بأنّ فعلتهم تمثّل "خيانةً"، لافتاً إلى أنّ "التاريخ سيلعنهم".
ويضيف لرصيف22: "العديد من نواب تشرين خدعونا، فقد تسلّقوا باسم الوطنية والمعارضة ورفعوا شعارات التظاهرات الحقّة، وبعد ذلك انقلبوا على أعقابهم وذهبوا إلى أحزاب السلطة الفاسدة القديمة. الفراغ التنظيمي لا يُعدّ سبباً جوهرياً وقد لا يمثّل سوى 10% من أسباب خيانتهم وفشلهم".
"من النواب المستقلّين من تصدّوا ممثّلين الشارع الاحتجاجي، وآخرون لم يطرحوا أنفسهم ممثّلين عنه، بل ترشحوا وفازوا كمستقلّين بسبب سماحة القانون الانتخابي لعام 2021، ولهذا فإنّ بعض المستقلّين نجحوا في أداء دورهم الرقابي بشفافية مع الجمهور. أما الآخرون، فقد فشلوا فيه. ولهذا يمكن القول إنّ ثلاثة أرباع هؤلاء النواب فقط مثّلوا الصوت الاحتجاجي، أما الآخرون فوجودهم عدم… وعدنا النواب التشرينيون بكشف 'قتلة متظاهري تشرين'، وفشلوا في ذلك"، يستطرد الدعمي.
"امتداد"… تفكّك وفشل
حصل حزب امتداد على تسعة مقاعد في انتخابات مجلس النواب العراقي 2021. ارتفع العدد لاحقاً إلى 16 مقعداً عندما انسحب نواب التيار الصدري من عضوية مجلس النواب، وبعد مدة بدأت الاستقالات من الحركة التي تُعدّ من أبرز "أحزاب تشرين"، تتوالى.

وبعد مدة من الانسحابات المعلنة لـ"نواب تشرين" من حزب "امتداد"، وخلال الدورة النيابية الحالية، ظهر النائب علاء الركابي، وهو الأمين العام لـ"امتداد"، في لقاء متلفز، أقرّ خلاله بفشله وإخفاقه في الكشف عن قتلة المتظاهرين ومحاسبتهم وتنفيذ وعوده في هذا السياق، مؤكداً عزوفه عن المشاركة الانتخابية المزمع إجراؤها في تشرين الثاني/ نوفمبر 2025.
بعد ذلك، أعلن نائبان آخران من امتداد عن اعتزامهما عدم المشاركة في الانتخابات القادمة.
وبحسب الدعمي، فإنّ نائبَين آخرين من نواب "امتداد" انضموا إلى "إشراقة كانون"، وهو "حزب جديد معارض ولا يُعدّ من أحزاب السلطة"، وبذلك فإنّ خمسةً فقط من أصل 16 نائباً كانوا يمثّلون "صوت تشرين" لم ينخرطوا مع أحزاب السلطة، في حين انضمّ الباقون -البالغ عددهم 11 نائباً- إلى قوائم متعدّدة بعضها يقودها عمار الحكيم ومحسن المندلاوي ومحمد شياع السوادني ونوري المالكي.
ويرى الدعمي، وعدد كبير من "جمهور تشرين" الذي يشاطره الرأي، أنّ الأحزاب الجديدة التي نشأت باسم "حراك تشرين" تُعدّ "فاشلةً وسيئةً"، أبرزها "امتداد"، أما حزب "البيت الوطني" فبرغم أنه لم يشارك في انتخابات 2021، إلا أنه تهدّم من ناحية إدارية وتنظيمية، فيما حركة "نازل آخذ حقي" شاركت في الانتخابات السابقة لكن لم تحصل على أصوات تؤهِّلها، ومن ممثّليها من دخل الآن كمرشح في قائمة السوداني، ولم يتبقَّ من أفرادها سوى أشخاص معدودين، على حدّ تأكيده.
كذلك، يصرّ الدعمي على أنّ "أحزاب تشرين" لم تكن يوماً على قدر المسؤولية، الأمر الذي زاد اليأس والإحباط لدى الجمهور وجعلنا فاقدين الثقة بأي مشروع تغييري سياسي بعد هذه التجربة.
لماذا أخفق "نواب تشرين"؟
بدورها، تقول الباحثة في مجال العلوم السياسية، لينا الموسوي، إنّ ظاهرة تحوّل عدد من "نواب تشرين" من تمثيل حركة احتجاجية إلى أحزاب بعضها كانت جزءاً من السلطة التي وُجّهت إليها الاتهامات بقمع المتظاهرين، إلى ظاهرة تُسمّى الاحتواء أو الاستيعاب السياسي، أي ما يعني أنّ أحزاب المنظومة تمتلك شبكات وفرصاً (Co-optation) لأخذ المناصب، فتستدرج المستقلّين عبر اللجان والوظائف والصفقات، وهذا مسار ما بعد 2019 و2021.
كما تلفت الموسوي إلى أنّ "الأهم هو وجود هذه الشخصيات الطموحة الشابة وسط بيئة ردع وخطر شخصي بما يُترجم على شكل اغتيالات وخطف وإفلات من العقاب، وجميعها شكّلت حوافز للتموضع داخل قوى قادرة على الحماية، حماية الشخص أو حزبه الصغير أو مجموعته حيث وثّقت منظمات حقوقية مئات القتلى واستمرار استهداف ناشطين بلا مساءلة فعّالة تُذكر".
أمر آخر أكثر ديناميكيةً تُشير إليه الباحثة العراقية: "قواعد اللعبة الانتخابية والإعلام. فبعد دخول مجلس النواب، اكتشف كثير من النواب أنّ النفوذ يمرّ عبر كتل كبيرة وأجهزة إعلام ومال حزبي تصعب مجاراتها فردياً، لذا قرّروا تطبيق قاعدة 'اليد القوية صافحها'".

أصوات مبعثرة داخل البرلمان
ومن وجهة نظر الباحثة أيضاً، فإنّ "'تشرين' لا تمثّل حركةً أيديولوجيةً أو فكريةً أو اقتصاديةً محدّدةً، فهي قائمة على وجود أشخاص مختلفي الجذور ما أدّى إلى وجود تشتّت تنظيمي وبرنامجي عند النواب الذين ترشّحوا عنها، فقد دخلوا المجلس بلا مظلّة موحّدة ولا غرفة تنسيق ثابتة، فتفرّقوا بين لجان وصفقات متعارضة ولعبت التهديدات وشراء الولاءات دوراً في خلق بيئة التخويف مع موارد أحزاب السلطة التي سهّلت تفكيك أي تكتل ناشئ".
"لا ينبغي أن ننسى القواعد الإجرائية التي تمنح الأفضلية للكتل الكبيرة في التفاوض الحكومي واللجان، فالصوت الفردي أقل أثراً، ما يدفع نحو الارتماء في أحضان كتلة أقوى"، تشدّد الموسوي فيما تشخّص الخلل في "أحزاب تشرين"، على أنّ التنظيم يتبعه غياب البناء المؤسّسي، أما الرؤية فهي موجودة لكنها عامة نادى بها جميع "نواب تشرين"، مثل مكافحة الفساد ودولة مواطنة… إلخ، لكنها لم تُترجم إلى برنامج تشريعي تفصيلي مُتّفق عليه بينهم، وأما بالنسبة إلى القيادة فهي موزّعة حيث لا زعامة جامعة بعد 2019، ما قلّل القدرة على اتخاذ مواقف موحّدة تحت ضغط الاستقطاب السياسي.
وتقرأ الباحثة ظاهرة التحاق بعض النواب المستقلّين بأحزاب تقليدية متهمة بالفشل، بأنها "براغماتية تكتيكية من منظورهم. فالنفاذ إلى الموارد واللجان والتأثير الفعلي يتطلّبان غطاءً حزبياً وإلا يصبح النائب معزولاً. لكنها من وجهات نظر أخرى تُفهم كنكوص عن وعود التغيير أخلاقياً، لأنّ الأحزاب نفسها ارتبطت بالقمع والإفلات من العقاب، الأمر الذي قوّض ثقة 'جمهور تشرين' بهم، ويبقى تقييم ارتباطهم بأحزاب تقليدية يعتمد على النتائج الملموسة، في ما إذا تمكّن الداخلون من تغيير سياسات حقيقية أو أن ينصهروا في منظومة المحاصصة…".
"تجربة الأحزاب الجديدة بعد مظاهرات تشرين لم تكتمل ووُلدت في بيئة مضادة تحت ضغط الوقت والزخم الجماهيري، ما جعلها تفتقر أحياناً إلى النضج السياسي والتنظيمي، وقدّمت درساً مهماً بأنّ التحوّل من الشارع إلى السياسة يتطلّب إعداداً طويلاً لضمان القدرة على الاستمرار"
وتعزو الموسوي أسباب فشل "نواب وأحزاب تشرين" إلى غياب المشروع السياسي الموحّد حيث دخل النواب إلى المجلس من دون رؤية جامعة أو خطاب متماسك، ما أفقدهم القدرة على التأثير وتشكيل تكتّل فاعل داخل المؤسسة التشريعية، كما واجهوا صعوبةً في التعامل مع بيئة سياسية قائمة على المحاصصة والتوافقات، فوجدوا أنفسهم معزولين وعاجزين عن التأثير في القرارات، وهو ما دفع بعضهم إلى الاندماج مع القوى التقليدية لضمان البقاء، بالإضافة إلى تغليب عدد منهم مصالحهم الشخصية على المبادئ التي طرحوها في أثناء الترشّح حيث انجرفوا وراء الامتيازات والمكاسب الخاصة. أما على مستوى الأحزاب الناشئة التي خرجت من رحم تشرين، فقد فشلت هي الأخرى في تشكيل جبهة موحّدة وتعرّضت للتفكّك نتيجة ضعف التنظيم الداخلي وقلة الخبرة السياسية إلى جانب الصراعات القيادية والاختلافات الأيديولوجية، بما سهَّل على القوى التقليدية اختراقها واحتواءها.
عقبة القانون الانتخابي
فضلاً عمّا سبق، تشير الباحثة العراقية إلى أنّ الأحزاب الجديدة المنبثقة عن حراك تشرين أو البعيدة عنه، لم تتمكّن من إثبات حضورها جزئياً بسبب تعديل القانون الانتخابي 2023 (قانون رقم (4) لسنة 2023 "التعديل الثالث لقانون انتخابات مجلس النواب ومجالس المحافظات والأقضية رقم (12) لسنة 2018")، الذي رجّح كفّة الأحزاب الكبيرة، فالرجوع إلى صيغة سانت-ليغو/ قوائم المحافظات أضعف صغار الأحزاب والمستقلّين، وهذا يرتبط بسبب آخر مهم يتمثل في هيمنة التمويل والإعلام الحزبي وصعوبة الوصول المتكافئ إلى المنابر والمال الانتخابي. كما أنّ ضعف التعبئة وبرود زخم تشرين أدّيا إلى خوف ولامبالاة وعودة شبكات الزبانية المحلية، وقد ظهر ذلك بوضوح في انتخابات المجالس المحلية التي جرت في 18 كانون الأول/ ديسمبر 2023، حيث تقدّمت أحزاب السلطة وتبعثرت مكاسب التغيير، على حدّ قول الموسوي.
أحزاب ناشئة مقاطعة
على الطرف الآخر، هناك أحزاب سياسية ناشئة اختارت ألا تخوض الانتخابات، انطلاقاً من موقف مبدئي يشكّك في نزاهة العملية السياسية عموماً، ويرى هؤلاء أنّ أي محاولة للإصلاح من داخل النظام ما هي إلا شرعنة له. في هذا الصدد، يقول الأمين العام لتيار الخط الوطني، عزيز الربيعي، لرصيف22: "نحن (يقصد تيار الخط الوطني)، ننطلق من قناعة بأنّ المشاركة ليست غايةً في حد ذاتها، وإنما وسيلة لخدمة مشروع الإصلاح ما بعد حراك تشرين. وقد رأينا أنّ البيئة السياسية والانتخابية لم تكن مهيّأةً لتجسيد إرادة الشارع بصورة عادلة، حيث بقيت القوانين مفصّلةً على قياس القوى التقليدية، وظلّت أدوات المال السياسي والسلاح المنفلت قائمةً، فضلاً عن الاستغلال الفاحش لموارد الدولة في الدعاية الانتخابية. لذلك، قرّرنا عدم المشاركة كموقف إصلاحي بقدر ما هو موقف سياسي، حتّى لا نُستَغلّ كديكور انتخابي يشرعن واقعاً مشوَّهاً".
وحول مقاطعة العملية الانتخابية وعدم الترشّح، يتابع الربيعي بأنّ المقاطعة لم تكن هروباً من المسؤولية، بل أداة للضغط وكشف اختلال المنظومة الانتخابية، برغم أنّ المشاركة الانتخابية يمكن أن تمنح "الخط الوطني" مقاعد محدودة، لكن "سيكون لها ثمن".
ويستطرد الربيعي: "نحن نؤمن بأنّ مشروعنا الإصلاحي لا يمكن أن ينحصر داخل قبة البرلمان فقط، بل يحتاج إلى فضاء أوسع من الحراك الجماهيري والوعي الشعبي. وفي المحصلة، عزّزت المقاطعة مصداقيتنا لدى جمهورنا، لأنها انسجمت مع مبدئنا. فالسياسة أخلاق لا تصفيات".
ويعتقد الأمين العام لتيار الخط الوطني، أنّ الفشل في توحيد صفوف المستقلّين داخل مجلس النواب يعود إلى خلل في الأدوات، وأنّ كثيراً من القوى المستقلّة دخلت المجلس بلا مشروع مشترك، ما جعلها عرضةً للانقسام والتفكّك أمام ماكينة الأحزاب التقليدية الراسخة، مبرزاً أنّ "أيّ محاولة للتغيير من الداخل يجب أن تُبنى أولاً على وحدة خطاب وقاعدة صلبة خارج البرلمان".
كما يرى الربيعي، أنّ تجربة الأحزاب الجديدة بعد مظاهرات تشرين لم تكتمل ووُلدت في بيئة مضادة تحت ضغط الوقت والزخم الجماهيري، ما جعلها تفتقر أحياناً إلى النضج السياسي والتنظيمي، برغم أنها تُعدّ خطوةً على الطريق، وقدّمت درساً مهماً بأن التحوّل من الشارع إلى السياسة يتطلّب إعداداً طويلاً وبناء مؤسسات رصينة قادرة على الاستمرار لا مجرد التواجد المؤقت.
"الرمبة"… والمقاطعة
في غضون ذلك، يبدو أنّ الوعي الجماهيري لـ"نواب تشرين" لم يتوقّف، برغم ما يصفها البعض بـ"الخيانة" ويراها آخرون "خذلاناً"، حيث قرّر فريق من الشباب -وبطريقتهم الخاصة- أن يعاقبوا "نواب تشرين" الذي "خانوهم أو خذلوهم"، حسب اعتقادهم.
أنشأ هؤلاء الشباب صفحةً عبر فيسبوك أسموها "الرمبة"، وتعني بالعامية العراقية التلة العالية التي توضع عليها السيارة داخل ورش فحص وغسيل السيارات لغرض كشف دواخلها ومن ثمَّ غسلها، وهي كلمة مجازية ساخرة استخدمها "جمهور تشرين" لصناعة صورة هزلية ومحرجة للنواب الذين انسلخوا عن تشرين لكشفهم أمام الناس. تتضمّن الصفحة منشورات حول أبرز أولئك النواب، تجمع بين ماضيهم وحاضرهم، وصوراً أخرى توثّق منشوراتهم ووعودهم وشعاراتهم الوطنية في الأوقات السابقة.
وتنوّعت ردود فعل المواطنين على هذه المنشورات، فمنهم من يصف النواب بـ"خونة الدم" و"الطارئين" ويدعو إلى حملات مقاطعة لهم، ودعوات إلى عدم تجديد الثقة بهم في الانتخابات القادمة، في مقابل من يصفهم بـ"الاستغلاليين"، أي انهم استغلّوا دماء الشباب ليصعدوا، ثمّ باعوا القضية.
بجانب "الرمبة"، قرّر فريق آخر من "جمهور تشرين" مقاطعة الانتخابات كردّ فعل على "خيانة" نوابهم. عن ذلك، يقول الناشط علي أحمد: "دوافعنا للمقاطعة منطقية بعد الخيانة التي تعرّضنا لها، وضياع أصواتنا وطموحنا في التغيير التي استغلها الوصوليّون ووصلوا بها إلى مجلس النواب، ومن ثمَّ لم يغيّروا سوى حالهم البائس إلى الرفاهية والفلل والسيارات الحديثة".
وينبّه أحمد إلى عدم ثقته بنزاهة العملية الانتخابية، عادّاً أنّ المشاركة في الانتخابات القادمة من شأنها أن تضعه في دائرة الشريك الداعم للفاشلين من خلال دعم قوائمهم الانتخابية وإضفاء الشرعية لـ"ديمقراطية زائفة". كما يرى أحمد مقاطعة الانتخابات موقفاً سياسياً واعياً بمثابة احتجاج صامت رسالته: "لن أكون غطاءً لشرعنة العبث والفشل والفساد".
دعوة إلى فلترة دقيقة
وبالعودة إلى الناشط محمد الدعمي، فهو يعتقد أنّ التغيير يحتاج إلى تنظيم حقيقي مؤسساتي وفلترة دقيقة باختيار الأشخاص الراغبين في الترشّح مع ممارسة الضغط الجماهيري الواعي تجاه القضايا المصيريّة والعمل بصورة متوازية سياسياً ورأي عام جماهيري ضاغط يعطي نتائج أنجع وأسرع.
"المستقبل ليس حكراً على القوى التقليدية، بل سيتشكل وفق إرادة الناس إذا وجدوا من يترجم تطلعاتهم إلى مشروع جادّ"... ما هي فرص تجدّد حراك سياسي مستقلّ وفاعل في العراق من الدروس المستفادة من تجربة تشرين السياسية؟
أما بالنسبة إلى إمكانية وجود فرص تجدّد حراك سياسي مستقلّ وفاعل في العراق مستقبلاً من الدروس المستفادة من تجربة تشرين السياسية، فتلفت الباحثة الموسوي إلى أنّ الغضب الاجتماعي الكامِن ووجود أجيال شابة متعلِّمة يُعدّان من المحرّكات البنيوية لاحتجاج 2019، ولا يزالان قائمَين، وهذا يعني توافر القابلية لدورات تعبئة جديدة، لكن بأشكال أكثر محلّيةً ومهنيّة. كما أنّ الهوامش المدنية ووجود إعلام رقمي برغم التضييق، لا تزال منصّات قادرةً على إعداد كوادر وسياسات بديلة إذا ترافق ذلك مع حماية قانونية وشبكات دعم، وفق قولها.
وحول البدائل المطروحة اليوم لتحقيق التغيير، يقتنع الأمين العام لتيار الخط الوطني، الربيعي، بأنّ البديل الواقعي هو الجمع بين العمل المدني الذي يبني الوعي ويُنظِّم المجتمع، وبين العمل السياسي الذي يسعى إلى التمثيل والتأثير المؤسساتي، أما الخيار الثوري بمعناه الكلاسيكي فلم يعد مناسباً لواقع العراق لكن روح الاحتجاج والضغط السلمي تبقى أداةً أساسيةً لإجبار المنظومة على الإصغاء. التغيير لا يتحقّق بخطوة واحدة، بل بتراكم الوعي والعمل المنظَّم.
ولكي تكون المشاريع السياسية المستقلّة قادرةً على منافسة القوى التقليدية فعلياً، لا بدّ من توافر ثلاثة عناصر أساسية تكمن في المؤسسة التنظيمية والتمويل النظيف والخطاب الموحّد ويبقى الأمل بولادة أحزاب مستقلّة قادرة على إصلاح الأوضاع بشكل عام ومنافسة ومواجهة الأحزاب التقليدية موجوداً وواقعياً بشرط تجاوز أخطاء الماضي وحمل تلك القوى الجديدة مشروعاً وطنياً عابراً للطوائف والمحاصصة، عادّاً أنّ "الخط الوطني" جزء من هذا الأمل، لأنه "يراكم الخبرة السياسية والمدنية معاً، ويطرح بديلاً إصلاحياً قائماً على الشفافية والمشاركة الشعبية، وتقديم المصلحة الوطنية على كل الحسابات"، مشدّداً على أنّ "المستقبل ليس حكراً على القوى التقليدية، بل سيتشكل وفق إرادة الناس إذا وجدوا من يترجم تطلعاتهم إلى مشروع جادّ".
مع اقتراب انتخابات نيابية جديدة، يبقى السؤال الملح: هل يستعيد الشارع العراقي زمام المبادرة من خلال المشاركة الانتخابية الفاعلة لدعم المستقلّين والمستقلّات الذين/ اللواتي قاوموا/ ن إغراءات الأحزاب التقليدية، أو أنّ تجربة "نواب تشرين" ستكون آخر محاولات التغيير من الداخل؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.