عاشت سوريا 14 عاماً من الصراع... انتهت بهروب الأسد، لتجد نفسها أمام فراغ سلطوي وحرية أكبر مقارنة بالسابق، ضعف فيها القانون أمام وسائل التواصل الاجتماعي، إذ يستيقظ السوريون يومياً على "ترند" جديد، سيل من الأخبار والشائعات والأحداث والصور والفيديوهات وتصريحات تثير الجدل كل يوم.
"الترند" لا يأتي من قرارات السلطة المفاجئة وتصريحاتها وتسريباتها فقط، وإنما من الشارع والبيت والقرية بصورة مهتزّة من هاتف في قرية نائية، صراخ في بث مباشر، منشور غاضب، كلها كافية لإنتاج قضية رأي عام، تجبر السلطة على الرد أو التبرير أو النفي.
العدالة الافتراضية
يظهر مقطع فيديو لشرطي مرور في دمشق يركل شخصاً، ويقول له: "ضب الجوال" ليرد بعد تلقي الركلة "مو على كيفك بدي صور". وكأنّ المواطن بات يعرف أنّ القانون ليس طريقة ناجحة لتحصيل حقوقه، خصوصاً في ظل سيطرة تعيينات اللون الواحد على مفاصل قوات الأمن والشرطة، حتى بالنسبة إلى شرطة المرور التي تنظم السير تصرّ السلطات على تعيين عناصرها الذين جاءوا من محافظات أخرى، ما عاينته في طرطوس واللاذقية، وسيطرة تعيينات الولاء لا الكفاءة.
في طرطوس مثلاً، حكى لي أحدهم كيف ذهب لتسجيل ضبط، فأجابه الشرطي الجديد: "شو يعني ضبط؟". وفي حالات أخرى كان لا يجيد القراءة والكتابة... أمام هذا العجز، لم يبقَ سوى خيار واحد: أن تُصبح القصة "ترند".
منذ سيطرتها على دمشق وعت السلطة أهمية "العدالة الافتراضية"، وبعد أسبوعين فقط على سقوط الأسد، وقبل تنصيبه رئيساً، التقى الشرع مجموعة من صنّاع المحتوى العرب كان أبرزهم "ابن حتوتة" و"جو حطاب"، ليتوالى استقباله للمؤثرين العرب
وحين يتولى الجمهور دور القاضي، يتحول الشعور بالإنصاف إلى فعل عاطفي لا إلى مسار مؤسسي، ما يُكسب "الترند" قوته هو كثافة الغضب، لا وضوح الحقيقة. بهذا المعنى، يعيش السوريون اليوم مرحلة "عدالة افتراضية" تتأرجح بين الانتقام الرمزي والنسيان السريع، بين فضح الجريمة وتطبيعها عبر التكرار.
لماذا يهتم الرئيس بـ"الترند"؟
هذه العدالة الافتراضية التي تعتمد على السوشال ميديا لم تكن حكراً على العامة، فمنذ سيطرتها على دمشق وعت السلطة أهمية هذه المنصات، وبعد أسبوعين فقط على سقوط الأسد، وقبل تنصيبه رئيساً، التقى قائد هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً) مجموعة من صنّاع المحتوى العرب كان أبرزهم "ابن حتوتة" و"جو حطاب"، ليتوالى استقباله للمؤثرين العرب، وصرّح في أيلول/ سبتمبر الماضي بالقول: "الحمدلله سوريا اليوم ترند في كل شيء، ومن ستة أشهر نحن محتلين مساحة إعلامية كبيرة في العالم، وهذه فرصة لتلقي رسائلنا وتوجيهاتنا وأخلاقنا وقيمنا".
فقد أتى أحمد الشرع من بيئة جهادية؛ مصنفة إرهابية، وإن أزالت الولايات المتحدة الأمريكية مكافأة العشرة ملايين دولار، لكنّ اسمه لم يشطب إلا مؤخراً من لوائح الإرهاب، رغم لقاء الشرع لترامب وبوتين وبن سلمان.
وبينما كان الشرع ينشغل بتصدير صورته الجديدة عبر المؤثرين، كانت الأرض تحت قدميه تغلي، فالتغطية على الدماء لم تعد تحتاج إلى رقابة أو إعلام رسمي، بل إلى "ترند" جديد.
سوريا موحدة والمجزرة مستمرة
بعد ارتكاب قوات سلطة الشرع مجازر مروعة في الساحل السوري في شباط/ فبراير وآذار/ مارس الفائتين، وبينما كانت السوشال ميديا تعج بفيديوهات النفير العام الذي أُطلق في العديد من المحافظات السورية، وفيديوهات قتل وإذلال مواطنين على أبواب منازلهم، والجثث في البراري والطرقات، أعلنت دمشق فجأة اتفاقاً مع قسد. كما كان النظام السابق يستخدم الاحتفالات لتغطية القصف، أعادت السلطة الجديدة تدوير الأسلوب نفسه عبر الترند.
جمهور السلطة أكمل احتفاله، مما أثار موجة هروب إلى البراري من جديد، إذ لم يكن الجميع قد سمع بالاتفاق، الذي لم ينفذ ولم يحقق أي تقدم حتى اليوم، ليبتلعه ذوو الضحايا بصمت مرير، معتبرين أن توقيته غير بريء وهو محاولة لصرف النظر والتركيز الإعلامي عن المجزرة التي ما زالت مستمرة، وتحول الدم إلى خلفية ضبابية وراء شاشة ترند جديد: "توحيد الأراضي السورية".
من تصريحات الرئيس السوري: "الحمدلله سوريا اليوم ترند في كل شيء، ومن ستة أشهر نحن محتلين مساحة إعلامية كبيرة في العالم، وهذه فرصة لتلقي رسائلنا وتوجيهاتنا وأخلاقنا وقيمنا".
وحين خمد صوت المجازر في الإعلام، لم تخمد المآسي، وتحوّل الحديث من صور القتلى إلى صور المفقودين، من الدم إلى الغياب، وهكذا صعد ترند الخطف إلى الواجهة، لكن السلطة كانت جاهزة لتمييعه.
في ذروة الاهتمام الإعلامي المحلي والعالمي بقضية خطف النساء والفتيات في سوريا، عمدت السلطة وإعلامها إلى التركيز على حالات معينة، إذ تخرج الفتاة بفيديو أهم ما فيه هو تكذيب قصة الخطف، باستخدام "قصة مميزة" تحقق انتشاراً واسعاً "شغل خياطة بحلب"، و"ذهبت لمقابلة أهلها في الجيل الماضي"، "دورة مايك آب" كانت السبب في غياب فتاة لأشهر عن أهلها، كلها أسباب لم تقنع مجتمعات الضحايا -على الأقل- لكنها تصلح كعناوين لسبق صحفي و"ترند" يميّع قضية المخطوفات لدى جمهور غير متابع بدقة أو يريد أن يصدق ما يريد.
ومن بين أكثر من مئة مخطوفة بحسب ناشطين/ات سوريين/ات يعملون على الأرض، وجد إعلاميو السلطة "صيدهم الثمين" في ظهور ميرا وأحمد وفردوا للحالة المنشورات والفيديوهات، إذ صور الإعلامي اللقاء الأول معهما في المنزل وقد أثار ارتباكها الجدل مجدداً، ليسارع لتصويرهما مرة ثانية في فيديو بث مباشر في الشارع حينها بدت ميرا مرتاحة، لكنّ الجمهور لاحظ ما يشبه الكدمات في يد ميرا، ليهرع الإعلامي ذاته لسؤال ميرا مرة ثالثة في فيديو عن الأمر، لتجيب أنه مجرد وشم، وقد تم توظيفه لاحقاً في دعاية لمركز ليزر في مدينة حمص، ثم في دعايات لحقن الفيلر.
الصحفي النشيط الذي التقى ميرا وأحمد ثلاث مرات في أقل من يومين، اختفى عن عشرات حالات الخطف التي وثقتها عشرات التقارير والتحقيقات لأهم المؤسسات الصحفية العالمية.
انقلاب السحر
مع الوقت، فهم الناس اللعبة، إذا كانت السلطة تصنع ترنداتها لتغطي الفشل، فالجمهور بات يصنع ترنداته ليفضحها، وباتت كل مشكلة تواجه فرداً أو جماعة تُنشر على فيسبوك وتذيّل "هي القصة لازم تصير تريند.."، وفي حال كانت الفتاة مخطوفة "إذا ما صارت ترند ما بترجع"، هنا لم يعد الترند أداة حصرية للسلطة تسوق فيها لنفسها و"تبيض صفحتها" وتشغل الفضاء العام بالحديث عن قضايا محددة بهدف التعتيم على أخرى، وإنما وسيلة مقاومة لمجتمع متضرر من وجودها كسلطة وغيابها كدولة.
وبدأت المجازر تأخذعناوين مميزة، مثل مجزرة ورق الغار في بيت ياشوط، ومجزرة ورق العنب في البرجان في ريف اللاذقية، ومجازر البرتقال في آذار/ مارس التي تُظهر إعداماً ميدانياً لمجموعة مواطنين في حقولهم.
عندما تعرضت شابة في ريف حلب لاختطاف واغتصاب جماعي وحشي، وانتشر هاشتاغ "كلنا روان" بشكل واسع، دفع هذا وزيرة الشؤون الاجتماعية للاتصال بذوي الضحية ووعدتهم بمحاسبة الفاعلين بأقصى سرعة، ليعلق أحد المتابعين على منشورها "سعادة الوزيرة، الإنسانية هي مبدأ ثابت وليس ترند نركبه متى نريد"
ونتذكر حرف مجزرة بنمرة في بانياس صبيحة أول أيام عيد الفطر 31 آذار/ مارس 2025، وبقية ثورة الطفل ابراهيم شاهين الممدد أمام منزله والتي نالت تعاطفاً واسعاً، الربطة السوداء التي كان يستعملها كبديل لحزام لم يستطع شراءه، وحين غنى له مؤلف "يا حيف" أغنية "مزنر بخيطان" ولاقت الأغنية صدى كبيراً، وحل التعاطف مكان العدالة، وعدالة اللحظة بدل عدالة الحقيقة... هنا، اهتمت السلطة بـ "الترند"، وأرسلت وفداً "وعد" بمحاسبة الفاعلين.
لكن هل يُغني "الترند" عن القانون؟
تقول الصحافية المتابعة لقضية خطف النساء السوريات أنها نجحت بالتواصل مع جميع أهالي المختطفات من خلال الأرقام التي ينشرونها في وسائل التواصل للتتبع ونشر حالات الخطف، إلى أن استشعرت السلطة الخطر وتعقب أرقام الهواتف، وطلبت منهم مراجعة قسم المعلومات التابع للأمن العام في مصياف وحمص واللاذقية لتخويفهم، لكن الصحافيين كانوا بنوا علاقة ثقة مع الناس.
السلطة، التي فشلت في بناء منظومة عدالة حقيقية، تحاول الآن مصادرة الصوت ذاته، ليس لأنها تخاف من الصورة، بل لأنها تدرك أن الصورة لم تعد تحتاج لإذن منها كي تُرى.
لكن نتذكر، عندما تعرضت شابة بريف حلب لاختطاف واغتصاب جماعي وحشي، وانتشر هاشتاغ "كلنا روان" بشكل واسع، دفع هذا "الترند" وزيرة الشؤون الاجتماعية والعمل في الحكومة السورية هند قبوات، للاتصال بذوي الضحية ووعدتهم بمحاسبة الفاعلين بأقصى سرعة، ليعلق أحد المتابعين على منشورها "سعادة الوزيرة، الإنسانية هي مبدأ ثابت وليس ترند نركبه متى نريد".
غابت الوزيرة عن قضية الفتاة المغتصبة من دون محاسبة المجرمين، لتظهر مؤخراً في "ترند جديد" وهي تحمل ملفات ووثائق في سيارتها لتعمل عليها في المنزل، هنا نعلم أنّ الترند عمر قصير، فأي قضية خطف أو مجزرة تشغل الرأي العام أياماً، وبعدها يحل محلها ترند جديد، لا يغني عن القانون الذي يجب -رغم بطئه- أن يحتفظ بالملف، يوثّق، ويُحاسب ولو بعد سنوات.
الترند ووسائل التواصل الاجتماعي تضغط، لكنها لا تحاسِب، وحتى لو أصبح الفاعل "مكروهاً علناً"، فلا ضمانة لمعاقبته، لتتحول القضايا إلى فضائح إعلامية لا إلى ملفات عدالة، وليعيش المجتمع خارج مؤسسات الدولة، إذ تخلق كل مجموعة نظام عدالة خاصاً بها في وسائل التواصل، لتضعف فكرة الدولة الجامعة، وتتحول العدالة إلى رأي عام متقلب بدل أن تكون نظاماً ثابتاً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



