لا تُعلِّم شوارع دمشق المشي فحسب، إنها تُعلِّم الغريبَ كتابة التاريخ بيدَي "جواهرجي" ماهر… فلنمشِ.
في ليلةٍ كانت دمشق القديمة تتنفس فيها تاريخاً من حجرٍ وبشر، وقصصاً جديدةً وغريبةً، قبل نحو أسبوعين، اجتمع حول مائدة واحدة في فندق "إنانا" العتيق، بجوار كنيسة المريمية وعلى كتف الجامع الأموي، خليط لم تعهده المدينة من قبل. يهود أمريكيون وشوام، يجلسون معاً تحت سقف واحد، تتقاطع فوق رؤوسهم خطوط تاريخٍ معقدة، وهموم حاضرٍ أشدّ تعقيداً ودموية.
في قلب هذا الجمع، جلس السيّد شمنطوب بيخور عيد، رئيس الطائفة الموسوية (اليهودية) في سوريا، لكنه لم يكن يحمل بشرى سارة.
بلهجةٍ يغمرها الحذر وخيبة الأمل، أعلن أنه "لا يمكن تقديم تطمينات" ليهود سوريا بالعودة إلى دمشق. ثم أتبعها بما يشبه الصدمة: الحكومة الحالية تقوم بتسليم أملاك اليهود السوريين الغائبين، "الخط الأحمر" الذي لم يتم تجاوزه حتى في عهد الأسد الأب والابن. كلماته كانت تشي بانهيار أحد آخر الجسور التي كانت تربط شتاتاً بماضيه العريق، لكنه عاد وأكد أن الوضع بات آمناً.
لم يكن اختيار السمك لهذا العشاء الاستثنائي محض صدفة. ففي جوٍّ مشحون بالهويات الدينية المتقاطعة والمتباينة، ربما كان السمك هو "الحياد" الآمن، حيث لا إشكالية حول ذبحه حسب الشريعة اليهودية (الكشروت)، أو الإسلامية (الحلال)
حلم حاخام تركي...
في المقابل، جلس الحاخام التركي مندي شيتريك، رئيس تحالف الحاخامات في الدول الإسلامية، محاولاً رسم صورةٍ أكثر تفاؤلاً. تحدّث عن رغبته في رؤية "يهود جدد" في سوريا الجارة، كأنه يحاول إنعاش جسد شبه ميت بدماء جديدة، متغاضياً عن جراح الماضي التي لم تندمل بعد.
وبرغم الأسئلة الكثيرة، لم يرضَ التركي أن يتحدث عن الدور الجديد للأتراك في سوريا. كان يتنقل بين الطاولات، ولم يأكل السمك.
خبز ومحمّرة… ومنفى
أما مؤسِّس منظمة "موزاييك" السورية، جوزيف جاجاتي، فكان يأكل قطعة لحم مشوي على الفحم مع خبز متبل بالفليفلة الحارة والبصل، كأي سوريٍ أصيل. لكن قصته مختلفة، فهو الذي غادر دمشق طفلاً في عمر عامين في صفقة ملتبسة بين حافظ الأسد والأمريكيين لإخراج يهود سوريا، وعاش ثلاثين عاماً في المنفى، ليعود الآن إلى وطنٍ لم يعش فيه، يحمل هويته (السورية-اليهودية-الأمريكية) في قلب واحد، كخلطةٍ فريدة بتناقضاتها.
تكلّم جوزيف عن مفارقة تاريخية، فاليهودي الأمريكي يزور دمشق وشوارعها بينما اليهودي السوري يمنعه من الحضور الكثير من الهواجس الحقيقية أو المزيّفة.
مائدة السمك… حيث تلتقي الشرائع وتفترق
لم يكن اختيار السمك للعشاء محض صدفة. ففي جوٍّ مشحون بالهويات الدينية المتقاطعة والمتباينة، ربما كان السمك المقدّم في ذلك العشاء الفخم من السردين والسلمون إلى الأجاج، هو "الحياد" الآمن، حيث لا إشكالية حول ذبحه حسب الشريعة اليهودية (الكشروت)، أو الإسلامية (الحلال). حتى على المائدة، كانت الهوية حاضرة سواءً جرى الحديث عنها أو لا.
وبينما كانت أغنية "عالقراصية منين منين ياللي سقوها بدمع العين"، تملأ الأجواء بحنينٍ شاميّ خالص، كانت الطائرات الإسرائيلية، تدكّ بعنف متواتر، ليس جديداً، مواقع في ضاحية دُمّر وجمرايا. السيناريو القديم المتكرِّر نفسه، لكن تحت حكم جديد وبذرائع مختلفة، بعد أن أصبح رئيس الحكومة الإسرائيلية المطلوب لدى المحكمة الجنائية الدولية، بنيامين نتنياهو، يلعب دور المسيح المنتظر، والقاتل الذي لا يجرؤ أحد عليه.
كيسنجر وشبح السلام المفقود
هل تتخيّلون للحظة ماذا كان ليقول مهندس "الدبلوماسية الملتوية" وصاحب نظرية "الخطوة خطوة"، هنري كيسنجر، عن أيّ اتفاقيات أمنية محتملة بين الرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع ونتنياهو، قد تُضيّع آخر أمل للسوريين في استعادة حفنة تراب من الجولان؟
في كتابه "السلام المفقود" وغيره، كان كيسنجر يرى المنطقة كلعبة شطرنج كبرى، حيث الأفراد، والعسكر، والدول مجرد قطع تحرّكها أصابع أشخاص غير مرئيين، تسمّيهم مراكز الأبحاث: "الدولة العميقة". ربما كان كيسنجر سيرى في هذا العشاء مجرد حركة أخرى على رقعة الدم هذه.
في منطقة السلام فيها هو الاستثناء والحرب هي القاعدة، يبقى الأمل الوحيد أن تنجو هذه اللقاءات الإنسانية، غير المألوفة، ولو لليلة واحدة، من سحق عجلات التاريخ الضخمة التي لا ترحم أحداً… أنيس المهنا يكتب عن اجتماع يهود أمريكيين وسوريين في فندق إنانا العريق
حبر ودم وسمك مشوي
وفي النهاية، بينما كان الضيوف يتبادلون الهدايا التذكارية في ذلك الفندق العتيق، كان نتنياهو يواصل محاولاته محو غزة من الخريطة. كان الحبر الذي قد يوقّع به على أيّ اتفاق مستقبلي يختلط بدماء السوريين والفلسطينيين، وبرائحة السمك المشويّ التي علقت في ثياب الحضور.
في منطقة السلام فيها هو الاستثناء والحرب هي القاعدة، يبقى الأمل الوحيد أن تنجو هذه اللقاءات الإنسانية، غير المألوفة، ولو لليلة واحدة، من سحق عجلات التاريخ الضخمة التي لا ترحم أحداً.
دمشق… وعودةً إلى الشاعر والأديب محمد الماغوط، الذي كانت حبيبته تسكن باب توما، وعلى صدرها صليبٌ من ذهب، تنتظر عودته و"هي تقلي له السمك"، يا مدينة الياسمين والحجر المندّى، كم من قصصٍ وحكايات لا تزالين تخبّئينها بين أزقّتك القديمة؟ وكم من عشاءٍ على أطرافكِ سيجمع بين من فرّقتهم السياسة والحروب، وربما جمعتهم رائحة الفليفلة الحارة والبصل المشوي، ونداءٌ قديمٌ بصوت جميل يطلب "القراصية" المسقية دمع العين؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.