حياة لاجئ في ألمانيا… هل تعرفون

حياة لاجئ في ألمانيا… هل تعرفون "رُهاب النفايات"؟

مدونة نحن والفئات المهمشة

الاثنين 10 نوفمبر 20257 دقائق للقراءة

اللجوء لا يبدأ عند الحدود، بل عند اللحظة التي تشعر فيها أن كل حركة لك تُقاس. حياة تحت رقابة خفيّة، ليست دائماً قاسية، لكنها لا تغيب أبداً. رقابة تمارسها العيون من حولك: الجيران، والموظفون، والمارة، وحتى القادمون من المنافي نفسها. كأن وجودك مرهون بإثبات أنك تستحق هذا المكان، وأنك فهمت القواعد واتبعتها بحذرٍ. 

تتسلّل هذه الرقابة إلى الحياة اليومية، فتجدها في أبسط العادات وأكثرها براءة.

التفاصيل تراقبك

في ألمانيا، أحياناً تشعر أن التفاصيل الصغيرة تراقبك أكثر من الأشخاص. تشغيل الغسالة بعد العاشرة مساءً، تنظيف الشرفة يوم الأحد، أو حتى وقع خطواتك على درج البناية كلها قد تُسمع كأنها تحدث فوق أعصاب مبنى بأكمله. لكنها ليست رقابة صارمة، بل جزء من ثقافة دقيقة تحترم النظام وتقدّر الإيقاع الجماعي للحياة اليومية.

في كثير من المجتمعات، لا يُرى اللاجئ كفرد، بل كعيّنة تمثيلية. كل فعل صغير يُقرأ بوصفه سلوكاً جماعياً. من يعبر الإشارة الحمراء لا يُقال عنه فقط إنه متهور، بل يُهمس: "هكذا يفعلون"

لا أحد يقول لك صراحةً: "ماذا تفعل؟"، لكن التوجيهات تأتي أحياناً في هيئة ابتسامة مشدودة، أو الجملة التي يعرفها كل مهاجر: "Hier in Deutschland…"، جملة افتتاحية شهيرة، تحمل تذكيراً غير مباشر بأن "هنا في ألمانيا…" هناك قواعد خاصة.

صديقي عمر يضحك حين يتذكّر كيف طرق عليه جاره الباب لأنه نسي إغلاق غطاء حاوية البلاستيك، وقال له بنبرة رسمية: "هنا في ألمانيا، نقوم بالأشياء كما ينبغي". ليست المشكلة في تغطية الحاوية بحد ذاتها، بل في الطريقة التي قيلت بها المعلومة.

قصص كثيرة كهذه يتداولها المهاجرون أحياناً بسخرية محببة، كفيديوهات تتخيل "مسابقات اندماج"، أو هوساً وطنياً بالحاويات. لكن خلف الطرافة، إدراك حقيقي: في هذا المجتمع، التفاصيل هي اللغة، والنظام ليس عبئاً بل احترام متبادل.

روى لي صديق أنه ترك الحمام مضاءً حتى الصباح ذات مرة. في اليوم التالي، أزالت البلدية المصباح بالكامل بعد شكوى من الجيران. عقب صديقي على هذا الموقف مازحاً: "من وقتها، أستحم على ضوء الهاتف… بانتظار تصريح لإعادة اللمبة!".

صديق آخر، لديه أطفال، كان يترك التدفئة تعمل طوال اليوم. بعد كل فاتورة، تصله رسالة من شركة الطاقة: "يبدو أن استهلاككم مرتفع، هل هناك عطل؟". وكان يعلّق على ذلك: "في ألمانيا، المال مالك، لكن الموارد للجميع".

قد تبدو هذه الملاحظات مربكة في البداية كنوع من الوصايا، بخاصة لمن جاء من ثقافة مرنة الإيقاع. لكنها لا تنبع من رفض، بل من حسٍّ عالٍ بالمسؤولية المشتركة. ومع الوقت، تبدأ بفهم أن الصوت والزمن والحركة ليست أشياء ثانوية، بل جزء من التعايش نفسه.

من الحاويات إلى الغسالات

حدث مرة أن وضعت كيس النفايات العضوية في الحاوية الرمادية. لم تمر ساعات حتى وجدت ورقة معلّقة على بابي، بخط مرتّب، ودون توقيع: "يُرجى فرز النفايات بشكل صحيح. شكراً لتفهّمك".

كان يمكن أن تنتهي القصة هنا، لكن ذلك لم يحدث. شعرت أن الكيس لم يحمل فقط بقايا الخضار، بل كل فشلي في الاندماج، كل ارتباكي أمام لغة لا تعرف المزاح، وكل خوفي من أن أُعامل كمن لا يفهم، لمجرد أني جديد.

ابن عمتي، مثلاً، كان يعاني من "رُهاب النفايات". لا يحبها، لا يفهم جداولها، ويشك في نوايا الحاويات الثلاث. عقد اتفاقاً مع إخوته: هو يطبخ وينظف، مقابل ألا يُطلب منه أبداً إخراج القمامة. قالها مرة ضاحكاً: "هناك ناس تخاف من المرتفعات، وناس تخاف من الكلاب… وأنا من الحاويات الثلاث!".

ورغم طرافة الموقف، كان في كلامه شيء حقيقي. كل فعل بسيط يمكن أن يتحوّل إلى إشارة، كل مخالفة صغيرة إلى علامة سؤال.

في تركيا، كانت الرقابة تُقال بصوت مسموع. في ألمانيا، تُهمَس من خلف الأبواب. لكن في الحالتين، تُصبح حياة اللاجئ كما لو أنها عرض مستمر، تؤدّى فيه الأدوار بحذر، وتُحسب فيه النوايا بالكيلوغرام

صديقتي سارة روت لي كيف وقفت أمام الحاوية الصفراء وناجتها همساً: "هل ستغفرين لي إن أخطأت؟". بينما قريب آخر كان يعيد فرز القمامة مرتين، فقط كي لا يستيقظ على ورقة تنبيه على الباب.

لكن الرقابة لا تتوقف عند الحاويات. في المساء، أتحرّك بخفة في الممر، لا أغلق الباب بقوة، لا أُشغّل المكنسة بعد التاسعة، ولا أغني تحت الدوش. ذات مرة، رن جرس الباب: "مرحباً، فقط تذكير، الغسالة تعمل بعد العاشرة؟". ابتسامة مهذبة، سؤال بسيط، لكنه يُشعرك أن البيت ليس مكانك وحدك، بل مكان جيرانك أيضاً. في لحظات كهذه، لا تكون الملاحظة عدائية، بل جزءاً من ثقافة دقيقة، تحترم الصوت والوقت والإيقاع الجماعي.

وإن كانت الرقابة هنا تنساب عبر التفاصيل، فإنها في أماكن أخرى قد تأتي بشكل مباشر وصريح.

رقابة بصيغة الفضول

في تركيا، كانت المراقبة يومية لكنها أكثر مباشرة. الجار قد يسألك بلا مقدمات: "من وين جبت هالغرض؟ هاي مساعدات من الحكومة؟"، أو يعلّق إن تأخرت: "ما طلعتوا اليوم؟ كل شي تمام؟". الفضول هناك مغطّى بالحرص، لكنه يلامس حدود الوصاية. كل ما تشتريه، كل ما ترميه، كل ما تحمله إلى البيت، قد يُقرأ كـ"مساعدة".

راودتني أحياناً رغبة ساخرة في أن أطبع فواتير الشراء وأعلّقها على الباب، فقط لأقول: "اشتريناها بأنفسنا، لم نحصل عليها مجاناً".

ثم تأتي الأسئلة الأثقل: "متى راجعين على بلدكم؟"، كأن الوجود مشروط بموعد مغادرة.

اللاجئ كرمز لا كفرد

في كثير من المجتمعات، لا يُرى اللاجئ كفرد، بل كعيّنة تمثيلية. كل فعل صغير يُقرأ بوصفه سلوكاً جماعياً. من يعبر الإشارة الحمراء لا يُقال عنه فقط إنه متهور، بل يُهمس: "هكذا يفعلون".

الخوف من الخطأ يتحوّل تدريجياً إلى وعظٍ داخلي، ثم إلى رقابة ذاتية، فرقابة متبادلة. يتناقل القادمون الجدد التعليمات من بعضهم البعض: "لازم ترد السلام، لا ترفع صوتك، لا تتأخر، لا تضحك بصوتٍ عالٍ". وفي لحظة ما، تجد نفسك تردّدها من دون تفكير.

نضحك أحياناً، لكن خلف الضحك إدراك مرّ: أن النظام تسلّل إلى جلودنا، وأننا نعيد إنتاج الرقابة على بعضنا، حرصاً وخوفاً وحبّاً للبقاء.

قد لا يُطلب من اللاجئ أن يندمج فقط، بل أن يُبرّر وجوده بهدوئه، بانضباطه، بصمته المنسجم مع إيقاع المكان، بأن يكون مفهوماً دون أن يشرح، مقبولاً دون أن يُربَك

في تركيا، كانت الرقابة تُقال بصوت مسموع. في ألمانيا، تُهمَس من خلف الأبواب. هنا تُعلّق ورقة على بابك، وهناك يُلقى عليك سؤال لا ينتظر إجابة. لكن في الحالتين، تُصبح حياة اللاجئ كما لو أنها عرض مستمر، تؤدّى فيه الأدوار بحذر، وتُحسب فيه النوايا بالكيلوغرام. 

قد لا يُطلب من اللاجئ أن يندمج فقط، بل أن يُبرّر وجوده بهدوئه، بانضباطه، بصمته المنسجم مع إيقاع المكان، بأن يكون مفهوماً دون أن يشرح، مقبولاً دون أن يُربَك. لكن حتى أكثر الناس التزاماً، تأتي لحظة يتوقفون فيها قليلًا، ويسألون أنفسهم بصوتٍ لا يسمعه أحد: هل فعلت كل ما يلزم؟ وهل يكفي أن أندمج كي أشعر بالأمان؟

ربما، في النهاية، لم تكن أجمل لحظات الاندماج تلك التي التزمت فيها بكل قاعدة، بل حين سمحت لنفسي أن أضحك، ولو سراً، وأنا أقف أمام الحاويات الثلاث، أبحث في جيبي عن مفتاحٍ لا يفتح باباً، وأهمس في داخلي: الباب مفتوح… لكن أين أضع قلقي؟


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها…

لكن رصيف22، هو صوت الشعوب المضطهدة، وصوت الشجعان والمغامرين. لا نخاف من كشف الحقيقة، مهما كانت قبيحةً، أو قاسيةً، أو غير مريحة. ليست لدينا أي أجندات سياسية أو اقتصادية. نحن هنا لنكون صوتكم الحرّ.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها، ولكنك بضمّك صوتك إلينا، ستكون جزءاً من التغيير الذي ترغب في رؤيته في العالم.

في "ناس رصيف"، لن تستمتع بموقعنا من دون إعلانات فحسب، بل سيكون لصوتك ورأيك الأولوية في فعالياتنا، وفي ورش العمل التي ننظمها، وفي النقاشات مع فريق التحرير، وستتمكن من المساهمة في تشكيل رؤيتنا للتغيير ومهمتنا لتحدّي الوضع الحالي.

شاركنا رحلتنا من خلال انضمامك إلى "ناسنا"، لنواجه الرقابة والترهيب السياسي والديني والمجتمعي، ونخوض في القضايا التي لا يجرؤ أحد على الخوض فيها.

Website by WhiteBeard
Popup Image