شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!

"طريق التنمية" العراقي... هل تتركه إيران يعبر بسلام؟

سياسة نحن والتاريخ

الثلاثاء 8 أغسطس 202302:14 م

قبل نحو ثلاثة أشهر، وبعد زيارة رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني إلى تركيا، وإجراء مباحثات بين وفدَي البلدين، أعلن خلال مؤتمر صحافي مشترك مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في العاصمة التركية أنقرة، عن التوصل إلى تفاهمات مشتركة بشأن مشروع "طريق التنمية"، الذي كان محل بحث مستمر على مختلف المستويات بين العراق وتركيا، كممر عالمي يربط الشرق بالغرب، وينقل الطاقة والبضائع، قبل أن يوجّه رئيس الوزراء العراقي الدعوة إلى دول المنطقة والجوار لعقد اجتماع في بغداد، لمناقشة مراحل المشروع بشكل تفصيلي.

بعد شهرين، احتضنت العاصمة العراقية بغداد، مؤتمر "طريق التنمية" بمشاركة عشر دول، أطلق خلاله السوداني بشكل رسمي طريق التنمية الدولي الإستراتيجي، وشارك في المؤتمر وزراء النقل من دول مجلس التعاون الخليجي السعودية وقطر والإمارات والكويت وعُمان، ودول الجوار إيران وتركيا وسوريا والأردن، بالإضافة إلى ممثلين عن الاتحاد الأوروبي والبنك الدولي، حيث ناقشت الوفود المشاركة البدء بالخطوات التنفيذية للمشروع، وتحويل التفاهمات إلى خريطة عمل تشهد تنفيذ المشروعات التنموية المتعلقة بالمشروع.

قبل أيام، أعلنت وزارة النقل العراقية بدء الخطوات الأولى فعلياً لإنجاز مشروع طريق التنمية، حيث تم تأسيس مقر للمشروع في المحطة العالمية التابعة للشركة العامة لسكك حديد العراق، وإعلان قرب الانتهاء من الطريق الذي يربط ميناء الفاو بميناء أم قصر، كمرحلة أولى في حلقة الوصل بين ميناء الفاو وطريق التنمية.

 تكلفة مشروع "طريق التنمية" ستبلغ نحو 17 مليار دولار، بإيرادات متوقعة أن تصل إلى نحو خمسة مليارات دولار سنوياً

ومنذ الإعلان بشكل رسمي عن المشروع، سادت حالة من الجدل بين المهتمين والمراقبين، ولدى مراكز البحث وصنع القرار العراقية، بين الحديث عن الكثير من الفرص الواعدة، والعديد من العراقيل والتحديات، وبعض المخاوف والمهددات، التي تجعل من المشروع محل اهتمام كبير، نظراً إلى ما يحمله من طموحات وأحلام وتطلعات للشعب العراقي في حياة أفضل، بالإضافة إلى أبعاده الجيو-سياسية التي تستطيع أن تجعل من العراق أداةً لربط تجارة شرق العالم بغربه.

التمويل وتفاصيل المشروع

في منتصف الشهر الماضي، أعلن مدير عام الشركة العامة لسكك حديد العراق، يونس خالد، أن تكلفة مشروع "طريق التنمية" ستبلغ نحو 17 مليار دولار، مقسمة طبقاً للشركة الإيطالية التي قامت بدراسات الجدوى، بين 10.5 مليارات دولار لسكك الحديد، و6.5 مليارات دولار للطريق السريع، بإيرادات متوقعة من نقل البضائع والأشخاص تصل إلى نحو خمسة مليارات دولار سنوياً. فيما قال السوداني، إن بغداد قد تلقت عروضاً من دول عدة في المنطقة لتمويل المشروع وتنفيذه، دون الإفصاح عن أسماء تلك الدول.

مع قرب الانتهاء من المرحلة الأولى لتشغيل ميناء الفاو الكبير، بدأت حكومة السوداني بالترويج للمشروع بشكل جاد، في محاولة لتخفيف الضغط الشعبي عليها إثر تزايد المطالب الاجتماعية، على اعتبار أن المشروع سوف يكون ناقلةً للاقتصاد وسوق العمل في البلاد، والبحث عن متنفس آخر للاقتصاد العراقي بعيداً عن سياسة بيع النفط، التي لم تنجح في انتشال العراق من كبوَته الاقتصادية المتعاظمة، ومديونيات الموازنة العامة المتراكمة.

ينطلق المشروع من ميناء الفاو الكبير في أقصى جنوب العراق، باعتباره المحطة الأساسية في المشروع، ليمر في أكثر من عشر محافظات عراقية، إلى منطقة فشخابور الحدودية مع تركيا، ويصل إلى ميناء مرسين التركي ثم إلى أوروبا. ويتبنى العراق هذا المشروع معتمداً على موقعه الجغرافي، آملاً في أن يتحول إلى نقطة عبور للبضائع والتجارة بين الخليج وتركيا وأوروبا والهند والصين ودول القوقاز، ويطمح من خلاله إلى أن يقلّص اعتماد البلاد الرئيسي على النفط بنسبة تصل إلى 60%.

ويهدف المشروع إلى بناء خط سكك حديد وخط برّي للبضائع والركاب، ينطلق من البصرة جنوباً مروراً بالديوانية والنجف وكربلاء وبغداد والموصل، وصولاً إلى الحدود مع تركيا، حيث نقطة الانطلاق نحو أوروبا ودول القوقاز، بالإضافة إلى مد خطوط النفط والغاز إلى مراكز الصناعة المحلية والطاقة، وما يتطلبه ذلك من إعادة تأهيل البنية التحتية العراقية لقطاعات النقل والطرق والكهرباء، لتستوعب الإنشاءات الحديثة المتزامنة، وإنشاء مدينة الفاو الصناعية، واستغلال المناطق الواقعة على جانبي الطريق بمجموعة من المصانع والمخازن والمشاريع الاستثمارية.

يقول الباحث في مركز الرافدين للدراسات الإستراتيجية، أحمد كامل، لرصيف22: "الفكرة الرئيسية للمشروع تعتمد على ربط ميناء الفاو الكبير بشبكة من الطرق والسكك الحديدية، التي تمتد بطول الشمال العراقي لتصل إلى تركيا، كمركز انطلاق من أوروبا وإليها، ويصل طول الخط البري الواقع بين ميناء الفاو الكبير في الجنوب العراقي وتركيا إلى نحو 1،200 كم داخل المحافظات العراقية، خارج حيز المدن، حتى يستوعب إقامة مشروعات تنموية ضخمة على جانبي الطريق، ويسهم في تشجيع العمالة على إنشاء مناطق جديدة".

وطبقاً لدراسة الجدوى المقدمة للمشروع، فإنه يجري التخطيط كي يتم إنشاء السكك الحديدية بشكل ثنائي المسار، من أجل المساهمة في سرعة عملية النقل، حيث يختصر الطريق الجديد رحلة البضائع بين شرق آسيا وشمال أوروبا إلى 15 يوماً فقط، بدلاً من تجاوز الشهر في الرحلة.

تمثّل المصالح الإيرانية واحدةً من أكبر تحديات المشروع على المستوى الإقليمي، إذ تتخوف من تحول العراق إلى قوة إقليمية في مجال النقل والتجارة البحرية والبرية، حيث يضعف ذلك من نفوذها 

وعن دور دول الخليج ودول الجوار في المشروع، يقول كامل: "تُعدّ تركيا الشريك الرئيسي في المشروع، كونها بوابة العبور من أوروبا ودول القوقاز وإليها، كما ترتبط إيران بالمشروع عبر تفعيل الربط السككي بين البصرة العراقية والشلامجة الإيرانية مروراً باللاذقية السورية، مع إمكانية توفير منفذ بديل على البحر المتوسط، من خلال ربط المشروع بموانئ اللاذقية وطرطوس، وربط ميناء العقبة الأردني بالطريق، كما ترغب السعودية في القيام بربط سككي مع العراق، وهو ما يساعد على ربط الموانئ السعودية في البحر الأحمر بالطريق، وكذلك ربط مختلف الموانئ البحرية في دول المشروع بالطريق الجديد، بالإضافة إلى الخدمات الكبيرة التي سوف يقدمها ميناء الفاو الكبير لدول مجلس التعاون الخليجي في مجالات النقل والتجارة".

الفرص المتاحة

يسعى العراق من خلال "طريق التنمية" إلى تعزيز دوره الإقليمي، عبر الانفتاح على دول الجوار كافة، سعياً نحو الخروج من أزماته الاقتصادية المتزايدة، والمضي قدماً في تطوير البنى التحتية المتهالكة في البلاد، وتدشين عدد من المشروعات الاقتصادية المتنوعة التي تفتح الباب أمام فرص العمل الجديدة، وتنشيط حركة الاقتصاد الداخلي، والتوقف عن سياسة الاعتماد على النفط بشكل تام، واستثمار الموقع الجغرافي، كأداة للربط بين دول المنطقة وأوروبا والصين والهند وشرق آسيا، والعمل على تحقيق التكامل الاقتصادي بين دول المنطقة.

وتمتلك بغداد العديد من الفرص الواعدة من خلال المشروع. يقول الباحث في قسم الدراسات الاقتصادية في بيت الحكمة، شاكر الجواهري، في تصريحات لرصيف22، إن "طريق التنمية العراقي قادر أن يكون قاطرة تنمية حقيقية للعراق، حيث أن نجاح المشروع سوف يجعل منه شرياناً للاقتصاد العراقي المأزوم".

ويرى أن "فرص نجاحات المشروع لا تتوقف عند تحويل العراق إلى مركز ربط للتجارة العالمية، وإن كان هذا هو الهدف الأساسي للمشروع، بل أيضاً استغلال جانبي الطريق الكبير داخل العراق يجب أن يكون على رأس أولويات العبور نحو المستقبل، فالموقع مؤهل ليستضيف محاور عدة للتنمية الداخلية لتشمل إنشاء المدن الصناعية والسكنية الجديدة، بما يسهم في خفض الطلب على التوظيف الحكومي، إلى جانب التشجيع على الاستثمار في مشاريع الطاقة المتجددة".

يسعى العراق من خلال "طريق التنمية" إلى تعزيز دوره الإقليمي، عبر الانفتاح على دول الجوار كافة

من جهته، يعتقد الباحث في المركز العربي للدراسات السياسية، عبد الرزاق الكيلاني، في تصريحات لرصيف22، أن "مشروع طريقة التنمية يُعدّ نموذجاً صارخاً للعلاقة بين السياسة والاقتصاد، حيث أن نجاح مشروع الربط الكبير بين ميناء الفاو ودول المنطقة وأوروبا ودول القوقاز، سوف يجعل العراق حاضراً وبقوّة في كافة الأحداث السياسية التي ترتبط بالمنطقة والعالم، كما سوف يسهم تعزيز وتكامل علاقات الجوار في المنطقة، في تدشين نهضة تنموية في مختلف المجالات في العراق، بالإضافة إلى الإيرادات المتحققة من خدمات نقل البضائع والطاقة ذهاباً وإياباً، واستيعاب آلاف الشحنات القادمة من الدول الأوروبية إلى دول الخليج، وكذا السلع الواردة من الصين والهند ودول شرق آسيا باتجاه أوروبا".

تحديات وإشكالات

تتعدد إشكالات ملف التنمية في العراق بشكل عام، لأسباب متعددة، يأتي على رأسها عدم وجود خطة قابلة للتطبيق على أرض الواقع، وغياب الإرادة الوطنية، وسطوة الجماعات المسلحة القوية في الداخل العراقي على المناحي الأمنية والسياسية، حيث يتبع العديد منها الرؤية الإيرانية على حساب مصالح العراق، واستكانة صانعي القرار طبقاً لحسابات النفوذ والبقاء في السلطة. ويأتي مشروع " طريق التنمية" محفوفاً بالكثير من المخاطر والتحديات والتهديدات التي تعرقل استكماله بشكل منتظم، أو تهدد نجاحه في تأدية دوره بالشكل الأمثل.

في هذا الإطار، يرى أستاذ العلوم السياسية في جامعة البصرة، كارم الصباح، في تصريحات لرصيف22، أن "غياب التوافق الوطني حول المشروع يُعدّ أبرز التحديات التي تواجهه، حيث ترفضه قوى سياسية عدة، وتحاول فتح جبهات نفوذ إقليمية جديدة داخل العراق، تتمثل في إيران والصين، عن طريق دعمهم لمشروع خط الحرير الصيني، على حساب طريق التنمية".

ويشير الدكتور الصباح، إلى أن تلك القوى خاضت في السابق صراعاً شرساً في البرلمان لتمكين الاستثمارات الصينية من تطوير وإعادة تأهيل ميناء الفاو الكبير، بالإضافة إلى غياب التوافق بين الدول المشاركة في المشروع حول مسارات عدة للربط الدولي، واستثمارات المواقع الجغرافية، وقد ظهر ذلك خلال تصريحات بعض ممثلي الدول التي شاركت في المؤتمر الخاص بإعلان المشروع.

ويضيف الصباح: "بالإضافة إلى ذلك، تمثّل المصالح الإيرانية واحدةً من أكبر تحديات المشروع على المستوى الإقليمي، فإيران التي تسعى منذ فترة طويلة إلى الربط السككي بين ميناء الخميني ومدينة اللاذقية في سوريا مروراً بمدينة البصرة حيث ميناء الفاو الكبير، تتخوف من تحول العراق إلى قوة إقليمية في مجال النقل والتجارة البحرية والبرية، حيث يضعف ذلك من مناطق نفوذها وحظوظها في المنافسة الإقليمية، ويسبب لها الكثير من الخسائر المفترضة، في ظل الحديث عن ضرورة مراجعة عقود الغاز الإيراني إلى العراق، وتمكين العراق من استغلال ثرواته الطبيعية".

في السياق نفسه، يقول الدكتور أمجد سيوف، المتخصص في الشأن الأمني والباحث في مركز الروابط للدراسات السياسية والإستراتيجية، في حديثه إلى رصيف22، إن "انتشار الميليشيات المدعومة إيرانياً في العراق، وتقنينها في ما سمّي بهيئة الحشد الشعبي، بالإضافة إلى التوترات بين بغداد وأربيل من جهة، وتركيا وإيران من جهة أخرى، تمثل خطورةً على مستقبل المشروع في العراق، فالبيئة العراقية غير آمنة للاستثمار في ظل سطوة لغة السلاح وخضوع القرار الوطني لهيمنة قوى اقليمية، وتضارب المصالح".

كيف سيؤثر انتشار الميليشيات المدعومة إيرانياً، والتوترات بين بغداد وأربيل من جهة، وتركيا وإيران من جهة أخرى، على مستقبل المشروع في العراق؟

ويشير إلى أن "تواجد قوات حزب العمال الكردستاني في الشمال العراقي، مع تعاظم دور الجماعات المسلحة المدعومة إيرانياً، مع حسابات إقليم كردستان الخاصة، تشكل تهديدات كبيرة لاستكمال المشروع، خلال الفترة الطويلة المقدرة للانتهاء منه بشكل تام عام 2050، وهناك العديد من الحالات الموثقة التي هاجم خلالها حزب العمال أنابيب النفط العراقي إلى تركيا، ومناوشات الميليشيات المسلحة مع التواجد التركي العسكري شمال العراق، وعدم سيطرة القوات المسلحة العراقية على كامل أراضيها، وفشلها في ملف تأمين الحدود والمعابر".

من جهته، يشدد الجواهري، على أن أولوية تحديد مصادر تمويل المشروع تمثّل العائق الأكبر له، خاصةً إذا كانت الحكومة ترغب في امتلاك البنى التحتية من الطرق والسكك الحديدية الخاصة بالمشروع، بالتزامن مع الاستمرار في تطوير مشروع ميناء الفاو الكبير، وإقامة المدينة الصناعية، بالإضافة إلى ضرورة تطوير العديد من البنى التحتية اللازمة لخدمة المشروع، خاصةً في مجالات الطاقة اللازمة لحل أزمة الكهرباء وقطاع الطرق المتهالك.

ويقول: "قد تلجأ الحكومة العراقية إلى فتح باب الاستثمارات الخليجية في المشروع، للتغلب على أزمة التمويل الكبيرة، ولكن تضارب المصالح وصراعات النفوذ بين تكتلات القوى الإقليمية فيه سوف تمثل تهديدات جادة لاستكماله طبقاً للرؤى المطروحة".

بين طموحات الحالمين، وفرص التنمية، والتحديات الراهنة، يقف العراق في منتصف الطريق، منفتحاً على الاحتمالات كافة، وآملاً في أن يسهم الوقت في معالجة أزماته، وتحقيق الاستقرار والإرادة اللازمة لتدشين نهضة حقيقية تليق بتطلعات الوطن، واحتياجات الشعب.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ماضينا كما يُقدَّم لنا ليس أحداثاً وَقَعَت في زمنٍ انقضى، بل هو مجموعة عناصر تجمّعت من أزمنة فائتة ولا تزال حيّةًً وتتحكم بحاضرنا وتعيقنا أحياناً عن التطلّع إلى مستقبل مختلف. نسعى باستمرار، كأكبر مؤسسة إعلامية مستقلة في المنطقة، إلى كسر حلقة هيمنة الأسلاف وتقديم تاريخنا وتراثنا بعين لا تخاف من نقد ما اختُلِق من روايات و"وقائع". لا تكونوا مجرد زوّار عاديين، وانزلوا عن الرصيف معنا، بل قودوا مسيرتنا/ رحلتنا في إحداث الفرق. ساعدونا. اكتبوا قصصكم. أخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا.

Website by WhiteBeard
Popup Image