على الرغم من المواقف الرسمية المرحبة بها على الصعيد العراقي والتركي والأمريكي، يثير اتفاق بين الحكومة العراقية ونظيرتها التركية جدلاً واسعاً في العراق حول السيادة المائية للبلاد وإهدار عدالة حقوقها في المياه، وانتهاك مصالحها المالية والتجارية.
وفق وكالة الأنباء العراقية الرسمية (واع)، وقّع وزير الخارجية العراقي فؤاد حسين ونظيره التركي هاكان فيدان "الآلية التنفيذية لاتفاقية التعاون في مجال المياه بين العراق وتركيا"، يوم الأحد 2 تشرين الثاني/ نوفمبر 2025، في حضور رئيس مجلس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني.
ويعيش العراق على وقع واحدة من أكثر سنواته جفافاً وأسوأ أزمة شح مياه في تاريخه الحديث، وتعود الأزمة إلى تبعات التغيّرات المناخية وقلة المتساقطات وارتفاع درجات الحرارة بالتزامن مع قلّة الإطلاقات المائية من الجارتَين تركيا وإيران، فضلاً عن تراجع قياسي في مستوى نهري دجلة والفرات المصدرين الرئيسيين للمياه في المنطقة.
بين اتهامات للحكومة بـ"إهدار الحقوق المائية" للبلاد، ودعوات إلى "تدويل الملف" ومقاطعة المنتجات التركية، يستمر السجال في العراق حول الآلية التنفيذية لاتفاقية التعاون في مجال المياه بين العراق وتركيا. فبم ترد الحكومة العراقية؟
ويأتي نحو 70% من موارد العراق المائية من دول الجوار (تركيا 50% وإيران 15% وسوريا 5%)، بخاصة نهري دجلة والفرات اللذين يمران عبر تركيا. علماً أن العراق، الذي يزيد عدد ساكنيه عن 46 مليون نسمة، يحصل فقط على أقلّ من 35% من الحصة التي ينبغي أن يحصل عليها من النهرين.
وتقول السلطات العراقية إن الاحتياطي المائي في السدود والخزانات الذي يقلّ عن 8% من طاقة التخزين، تراجع من قرابة 10 مليارات متر مكعّب في نهاية أيار/ مايو 2025 إلى 8 مليارات متر مكعّب في مطلع أيلول/ سبتمبر 2025.
توافق بعد سنوات من التوتر
وبعد سنوات من التوتّر حول ملفات عدّة من أهمها المياه، فتحت زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى بغداد، في نيسان/ أبريل 2024 صفحةً جديدة بين البلدين، ووضعت اللبنة التي أثمرت عن هذه الآلية التنفيذية.
في حين قال الوزير فؤاد حسين إن هذا الاتفاق هو "الأول في تاريخ العلاقات الثنائية لتنظيم إدارة المياه"، روّج السوداني للمشروع كـ"أحد الحلول المستدامة لأزمة المياه في العراق"، متعهداً بـ"حزم مشاريع كبيرة مشتركة تُنفذ في قطاع المياه، لمواجهة وإدارة أزمة شحّ الموارد المائية"، مذكّراً بأن "أزمة المياه هي أزمة عالمية، والعراق أحد البلدان التي تضرّرت بسببها".
في غضون ذلك، قال رئيس مجلس النوّاب العراقي، محمود المشهداني، إن بلاده لجأت إلى "اعتماد الحوار والتفاهم المشترك لضمان زيادة الحصة المائية، وتحقيق إدارةٍ منصفةٍ ومستدامةٍ للموارد المائية المشتركة، بما يُعزّز استقرار المنطقة ويعمّق روابط التعاون بين بغداد وأنقرة".
ومع استمرار الجدل حول الاتفاقية في العراق، صرّح مستشار رئيس الوزراء لشؤون المياه، طورهان المفتي، الاثنين، بأن "الاتفاقية تراعي الحاجة الفعلية والعادلة للعراق من المياه" حيث "ستوفر متطلبات الاستدامة المائية مع مراعاة التغيرات المناخية"، مبرزاً أن "أهم بنود الآلية التنفيذية هو وجود فقرة خاصة بالاستدامة المائية لنهري دجلة والفرات". كما شدّد على أهمية ما تتضمنه من "إعمار وبناء البنى التحتية الحديثة، إذ إن البنى التحتية الموجودة في العراق تعتمد تصاميم قديمة جداً، حتى وإن كانت حديثة التشييد".
وفيما قال المفتي لوكالة "فرانس برس" إن المشاريع ستتم على مدى 15 عاماً وستكون "تركيا أحد الأطراف الرئيسيين المنفّذين لها"، ركّز مصدر تركي مسؤول في حديثه إلى وكالة رويترز على أنه يتسنّى بموجب الاتفاق "استغلال عوائد مبيعات النفط في تمويل مشروعات بنية تحتية في مجال المياه تنفذها شركات تركية". وشرح المصدر أن الحكومة العراقية ستشكل لجنة لمشروعات البنية التحتية في مجال المياه وستدعو شركات تركية لتقديم عروضها، على أن تموَّل هذه المشاريع عبر عوائد مبيعات النفط الذي يصدره العراق إلى تركيا.
وأكدت وكالة الأناضول التركية الرسمية: "تنص الآلية على تمويل المشاريع التي ستتولاها الشركات التركية في مجال تحديث وتشييد البنية التحتية من أجل الاستخدام الفعّال والمثمر والمستدام لموارد المياه في العراق، من خلال نظام يعتمد على مبيعات النفط العراقي".
اتفاقية أم آلية؟
في المقابل، راجت اتهامات للحكومة العراقية بالمبالغة في حديثها عن فوائد هذه الآلية، ومنحها أسماء مثل "اتفاقية"، وتضخيم الفوائد المتوقعة لها لإرضاء المواطنين قبيل أيام فقط من انعقاد الانتخابات النيابية 2025، هذا الشهر.
من ذلك، أن أوضح الباحث المتخصّص في الشأن التركي يوسف شريف أن توقيع "اتفاق نهائي" بين تركيا والعراق يحسم أزمة المياه أمر غير وارد بالنظر إلى تضارب مصالح كل منهما في هذا الملف وعلى نحو خاص رؤية العراق لنهر دجلة كنهر دولي، فيما تعتبره تركيا "نهر تركي يمر بالأراضي العراقية" ويمكن للعراق الحصول على قدر من مياهه بالتفاوض معها وبموافقتها ووفق شروطها حصراً.
ووصف شريف تركيا بأنها الطرف صاحب اليد الأعلى في المسألة الآن، متوقعاً أن يرضخ العراق لوجهة النظر التركية ومنحه مزيداً من المياه مقابل تنازلات عراقية في عدة ملفات منها المسألة الأمنية المتصلة بمقاتلي حزب العمال الكردستاني (اعتبارهم لاجئين على أراضيها وسحب سلاحهم وتحييد خطرهم الذي تخشاه أنقرة)، ومادياً من ناحية النفط العراقي وتصديره عبر البوابة التركية وعودة ذلك على أنقرة بالمكاسب الجمة.
عبر وسم #النفط_مقابل_الماء، استنكر عراقيون كثر توقيع الآلية التنفيذية لاتفاقية التعاون بين تركيا والعراق في ملف المياه. وفضلاً عن اتهام حكومة السوداني بتضخيم الاتفاق لأهداف سياسية تتصل بالانتخابات الوشيكة، يعتقد البعض أن الاتفاق بمثابة "نصف احتلال"، وأن الحل الوحيد أمام بغداد هو تدويل المشكلة
مخاوف وشائعات عراقية
وعبر مواقع التواصل الاجتماعي، عبّر عدد من العراقيين عن غضبهم من الاتفاق الذي وصفوه بـ"اتفاقية الذل" عبر وسم "#النفط_مقابل_الماء"، لافتين إلى "غموض بنود الاتفاقية" و"غياب الشفافية" في ما هو معلن عن تفاصيل تطبيقها، داعين إلى الاستمرار في حملة التحريض على مقاطعة البضائع التركية داخل العراق للضغط على تركيا لإطلاق حصّة بلدهم من المياه، والتعبير عن رفض الاتفاق لإجبار الحكومة العراقية على التراجع عنه.
وتحت عنوان: "إشراف تركي على 'سقاية' العراق"، اعتبر الكاتب العراقي فلاح المشعل أن الاتفاقية تثير تساؤلات سيادية واقتصادية تتطلب شفافية وضمانات وطنية لصون القرار المائي.
ومن هذه التساؤلات، بحسبه: هل تحدد الكميات والحصص التي ستطلقها تركيا كمعدل تقريبي خلال العام الواحد، وهل تفصّل بحاجة العراق الفعلية يعني استخداماً بشرياً وزراعياً وصناعياً، ناهيك بحصة الخزين؟ وما هي مبالغ التكاليف التي سيدفعها العراق من النفط لهذه المشاريع مثل بناء السدود والإرشاد؟ وبعد خمس سنوات، هل ينتهي إشراف وعمل الجانب التركي، هل تنتهي فاعلية الاتفاقية والحصص المتفق عليها، أم تبقى مستدامة؟ وهل يدخل إسقاط الديون العراقية ضمن مبالغ الكلف، أم ستكون هبة من العراق إلى تركيا؟ وما هو حجم هذه الديون؟
يذكر أن المتحدث باسم الحكومة باسم العوادي، نفى صحة الأنباء المتداولة عن تنازل العراق عن ديونه مقابل توقيع اتفاقية المياه مع تركيا. وشدّد: "الاتفاقية مع تركيا لا تتضمّن أي بنود تتعلّق بإسقاط الديون، وإنما تركّز على التعاون الفني والاستراتيجي في مجال إدارة الموارد المائية".
بدوره، تخوّف الكاتب علاء اللامي من أن "اتفاقية العار" هذه قد تؤدي إلى "فقدان السيطرة الوطنية" بل وصوّرها بأنها تمكن تركيا من "نصف احتلال" للعراق، داعياً إلى ضرورة "تدويل الملف"، وكذلك استغلال الآليات القانونية والتجارية المتاحة لحفظ حقوق العراق في مياهه. وشدّد: "لم تنحل ولن تنحل قريباً إلا بتدويل المشكلة وتقديم شكوى رسمية إلى الهيئات القضائية الدولية كمحكمة العدل الدولية وهيئات دولية أخرى متخصّصة بالتحكيم بقضايا المياه واستعمال كافة أوراق الضغط التي بحوزة العراق".
أما عن أسباب توقيع هذه الآلية التنفيذية في الوقت الراهن، اقترح اللامي "تنفيس الاحتقان الجماهيري في الشارع وكبح حملة مقاطعة البضائع التركية" و"إنقاذ حكومة السوداني من مأزق شديد الخطورة" من شأنه أن يتفاقم مع تكرار انقطاع المياه في الوسط والجنوب في قادم الأيام. إضافة إلى وضع تركيا يدها على المؤسسات والمشاريع والسدود العراقية وإدارتها وبموافقة حكومة السوداني.
أما الخبير الاقتصادي زياد الهاشمي، فقال إن إهمال الحكومات السابقة لـ"عقدة المياه"، وتفويت الفرصة على البلاد بالوصول إلى حل مستدام بين عامي 2009 و2010 مع تركيا عبر "اتفاقية رابحة للطرفين"، اضطر الحكومة الحالية إلى القبول بـ"اتفاقية غير مضمونة وذات كلفة أعلى بكثير من اتفاقية 2010، تم فيها إدخال التجارة والنفط والديون كثمن إضافي لإقناع الاتراك بزيادة تدفقات المياه".
ماذا بعد؟
بحسب طورهان المفتي، فإن "الموضوع الآن يتعلّق بدخول هذه المذكرة حيز التنفيذ، وهذا يعتمد على المراسلات بين الجانبين. فبعد توقيعها، من المحتمل أن يرسل العراق خلال الأسبوع المقبل رسالة إلى الجانب التركي يؤكد فيها استعداده، واستكماله الإجراءات القانونية واللوجستية اللازمة لدخول المذكرة حيز التنفيذ، وعندها سيرد الجانب التركي بالموافقة، معلناً دخولها حيز التنفيذ رسمياً".
"قصة المياه في العراق واحدة من عشرات القصص التي لا تنتهي والتي تحكي واقع العراق وتصف بوضوح حالة الحكم وصناعة القرار فيه وكيف أن ضيق الأفق والعداوة السياسية والمواقف الفردية يمكن أن تقود إلى قرارات كارثية تضيع الكثير من الفرص والحلول على العراق"، يقول الهاشمي
أما باسم العوادي، فشرح أن "ما تم توقيعه هو آلية لتنفيذ اتفاقيتين سابقتين، الأولى اتفاقية تفاهم موقعة عام 2014 في الحكومات السابقة، والثانية الاتفاقية الإطارية التي وقعها الرئيس التركي خلال زيارته إلى بغداد في 22 نيسان/ أبريل 2024"، في عهد الحكومة الحالية.
كما أوضح أنه وفق بنود الآلية، فإن "جميع الجهات المعنية بالمياه في العراق وتركيا ستشكل لجنتين تتولى تقديم مقترحات بالمشاريع التي يمكن تنفيذها ضمن الاتفاقية"، من خلال "تحديد حاجات العراق الفعلية من السدود والمشاريع المائية لضمان إدارة أفضل للموارد المتاحة"، مذكراً بأن "تركيا تمتلك خبرات واسعة وتجارب فريدة في إدارة المياه وبناء السدود العملاقة، وهو ما يجعل التعاون معها ضرورة لضمان تنفيذ المشاريع بكفاءة واستدامة".
ووفق العوادي، تتضمّن المشاريع المشتركة بين العراق وتركيا في مجال المياه التي ستنتج عن هذه الآلية بناء سدود متوسطة وصغيرة الحجم ومشاريع تبطين الأنهار لمسافات طويلة وإنشاء بحيرات مائية وتحويل مياه الأمطار إلى الأنهار وإدارة فروع الأنهار وفتح جديدة.
"جميع الجهات المعنية بالمياه في العراق وتركيا ستشارك في إعداد مقترحات المشاريع. وهناك مسوح دقيقة لواقع المياه في العراق ومسح للجانب التركي أيضاً ستستخدم كأساس لتحديد الحاجات وتطبيق الحلول المناسبة، بما في ذلك تحديد المناطق التي تحتاج إلى بناء سدود أو تنفيذ مشاريع مائية أخرى لضمان إدارة مستدامة للموارد المائية ومنع تكرار شح المياه كما حصل في السنوات السابقة"، أكد العوادي.
ختاماً، تبقى "قصة المياه في العراق واحدة من عشرات القصص التي لا تنتهي والتي تحكي واقع العراق وتصف بوضوح حالة الحكم وصناعة القرار فيه وكيف أن ضيق الأفق والعداوة السياسية والمواقف الفردية يمكن أن تقود إلى قرارات كارثية تضيع الكثير من الفرص والحلول على العراق"، كما يقول زياد الهاشمي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



