بينما يحتفل المغاربة بقرار مجلس الأمن باعتباره "فتحاً دبلوماسياً"، يراه خصومهم "انحرافاً عن الشرعية الدولية"، لتدخل القضية التي امتدت لخمسة عقود منعطفاً جديداً، تتقاطع فيه الجغرافيا بالسياسة، والسيادة بالذاكرة، في نزاع لم يقل كلمته الأخيرة بعد.
في لحظة مفصلية من تاريخ الصحراء، تحوّل النزاع الذي استنزف المغرب والجزائر وجبهة البوليساريو لعقود إلى ساحة اختبار جديدة لإرادة الأمم المتحدة وحدود النفوذ الإقليمي والدولي. فقرار مجلس الأمن الأخير لا يكرّس فقط أحقية المغرب في الحكم الذاتي، بل يعيد رسم ملامح التوازن في شمال أفريقيا بين طموح الرباط في تثبيت سيادتها، وإصرار الجزائر والبوليساريو على إبقاء باب تقرير المصير مفتوحاً.
ففي الأيام القليلة الماضية، توجه الاهتمام الإقليمي والدولي نحو المغرب، عقب اعتماد مجلس الأمن الدولي مشروع القرار رقم 2797 حول الصحراء الغربية، المتعلق باعتماد مبدأ التفاوض على أساس خطة المغرب للحكم الذاتي التي اقترحتها المملكة في 2007.
حيث اعتبر المجلس أن "منح الصحراء حكماً ذاتياً حقيقياً تحت السيادة المغربية" يمثل الحل "الأكثر واقعية وقابلية للتطبيق" للنزاع المستمر منذ عقود مع جبهة البوليساريو المدعومة من الجزائر.
وبأغلبية مرضية، حصل القرار الذي قدمته الولايات المتحدة وصوت عليه المجلس نهاية الشهر الماضي، بتأييد 11 دولة من أصل 15، بينها الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا، في حين امتنعت كل من روسيا والصين وباكستان عن التصويت، وبالطبع، امتنعت الجزائر عن التصويت.
وفي التفاصيل، تضمن القرار تمديداً لولاية بعثة الأمم المتحدة في الصحراء (المينورسو) إلى تشرين الأول/ أكتوبر 2026. مع تجديد دعم مجلس الأمن للأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش ولمبعوثه الشخصي ستيفان دي ميستورا في تيسير وإجراء المفاوضات، والذي دعى الأطراف المعنيين إلى الانخراط في هذه المفاوضات بهدف التوصل إلى حل عادل ودائم ومقبول من الأطراف كافة، يتوافق مع ميثاق المنظمة الأمم المتحدة.
جذور النزاع حول الصحراء
تعود جذور النزاع حول الصحراء في المغرب إلى عام 1975، غداة انسحاب إسبانيا كدولة مستعمرة من الأقاليم الصحراوية، وهو ما فتح المجال أمام المغرب وموريتانيا للمطالبة بالسيادة على الإقليم، قبل أن تنسحب موريتانيا من النزاع عام 1979.
في المقابل، تأسست جبهة البوليساريو عام 1976، معلنة قيام "الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية" ومؤكدة حق "الشعب الصحراوي" في تقرير مصيره، لتدخل بعدها في صراع مسلح مع المغرب، أدى إلى هجرة جماعية للصحراويين إلى مخيمات تندوف في الجزائر.
عمّت الاحتفالات الشعبية مدن المغرب بعد قرار مجلس الأمن تكريس مبادرة الحكم الذاتي للصحراء، والتي اقترحتها المملكة في عام 2007، ومع تأييد الدول العظمى وعلى رأسهم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي اعترف بسيادة المغرب على الصحراء... فما هو موقف البوليساريو والجزائر؟
وفي عام 1991، تم توقيع اتفاق وقف إطلاق النار برعاية الأمم المتحدة، وإطلاق بعثة المينورسو لمراقبة وقف النار وتجهيز استفتاء لتقرير المصير، إلا أن الاستفتاء لم يُجرَ حتى اليوم بسبب الخلافات حول قوائم الناخبين وآليات التصويت.
منذ ذلك الحين، ظل الملف عالقاً بين مقترحات المغرب للحكم الذاتي ومطالب الاستقلال لدى البوليساريو، في ظل تحولات دبلوماسية وإقليمية مستمرة، من دون أن يتم التوصل إلى تسوية نهائية تحظى بإجماع الأطراف.
التأييد الدولي شيء وقرار البوليساريو شيء آخر
لكن لا يبدو أن الحلم الصحراوي بالاستقلال تأثر أو تراجع بسبب تأييد الدول العظمى للمقترح المغربي، حتى مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، والذي كان قد جدّد في تموز/ يوليو الماضي تأييده الكامل لسيادة المغرب على الصحراء، معتبراً أن مبادرة الحكم الذاتي التي يقترحها المغرب "الحل الوحيد" للنزاع.
كما سارت فرنسا وبريطانيا على النهج ذاته، إذ أعلنت باريس اعترافها بسيادة المغرب معلنة فتح المجال أمام الاستثمارات في الأقاليم الجنوبية، بينما انضمت لندن في يونيو/حزيران إلى الموقف نفسه لتصبح ثالث عضو دائم في مجلس الأمن يؤيد المقترح المغربي. ومن ثم أعلنت إسبانيا، القوة الاستعمارية السابقة في الإقليم، دعمها لموقف الرباط، مما شكل تحولاً لافتاً في سياستها الخارجية. الأمر الذي جاء معارضاً لموقف عدد من الأحزاب الإسبانية التي دعت حكومة بلادها للتراجع عن تأييدها للقرار، على رأسها الحزب الشيوعي.
ترحيب مغربي بمقترح مجلس الأمن
بطبيعة الحال، شكل القرار الأخير لمجلس الأمن لحظة تاريخية فارقة في مسار تسوية النزاع حول الصحراء المغربية، وفي هذا السياق أعرب العاهل المغربي عن ارتياحه لمضمون القرار. وقال في خطاب وجهه إلى الشعب المغربي "بعد خمسين سنة من التضحيات، نبدأ بعون الله وتوفيقه فتحاً جديداً في مسار ترسيخ مغربية الصحراء، والطي النهائي لهذا النزاع المفتعل في إطار حل توافقي على أساس مبادرة الحكم الذاتي".
توجه الملك بالحديث إلى أبناء الصحراء ودعاهم إلى العودة إلى الوطن والمشاركة في بناء مغرب موحد يسع الجميع. كما دعا الجزائر إلى حوار أخوي صادق، بعيداً عن منطق غالب أو مغلوب.
وقال: "إننا نعيش مرحلة فاصلة ومنعطفاً حاسماً في تاريخ المغرب الحديث، فهناك ما قبل 31 تشرين الأول/ أكتوبر 2025، وهناك ما بعده… لقد حان وقت المغرب الموحد من طنجة إلى الكويرة الذي لن يتطاول أحد على حقوقه وعلى حدوده التاريخية".
كما توجه بالحديث إلى "أبناء الصحراء في مخيمات تندوف"، ودعاهم "إلى العودة إلى الوطن والمشاركة في بناء مغرب موحد يسع الجميع". ودعا الجزائر إلى "حوار أخوي صادق، لفتح صفحة جديدة بعيداً من منطق غالب أو مغلوب".
بموازاة الخطاب الملكي، خرجت أفواج من المغاربة إلى الشوارع في مختلف مدن وأقاليم المغرب، احتفالاً وترحيباً بالقرار الأممي مجلس الذي وصفته وسائل الإعلام الوطنية بـ "الانتصار الدبلوماسي". ففي العاصمة الرباط، احتشد المئات على امتداد شارع محمد الخامس وأمام مقر البرلمان المغربي، مرددين الأناشيد الوطنية وشعار "الصحراء مغربية". كما تكرر المشهد نفسه في مدن الدار البيضاء وطنجة وتطوان وأكادير، كما لم تتخلف مدن الأقاليم الجنوبية.
والجزائر والبوليساريو ترفضان
في مقابل ما سبق، صدرت مواقف غاضبة من الجزائر التي امتنعت عن المشاركة في التصويت على القرار، ومن جبهة البوليساريو، واعتبرا أنه لا يلبي مبدأ "حق تقرير المصير".
وبحسب وكالة الأنباء الجزائرية فإن المندوب الدائم للجزائر لدى الأمم المتحدة، عمار بن جامع، أوضح في كلمته أن بلاده "لن تدعم أي نص يقصي المبدأ الأساسي المتمثل في تمكين الشعب الصحراوي من التعبير بحرية عن اختياره لمستقبله".
وأكد أن "الجزائر تدعم مساراً يضمن حلاً عادلاً ودائماً وفق قرارات الشرعية الدولية"، معتبراً أن القرار "يفتقر إلى التوازن المطلوب بين الأطراف المعنيين بالنزاع".
وفي أول رد رسمي لها على قرار مجلس الأمن الدولي، أعلنت جبهة البوليساريو في بيان نقلته وكالة الأنباء الصحراوية عن "تنديدها الشديد" بالقرار، ووصفته بأنه "انحراف خطير عن الإطار القانوني والسياسي لعملية السلام التي ترعاها الأمم المتحدة"، مضيفة أنها "ستعيد تقييم علاقاتها مع الأمم المتحدة على ضوء هذا القرار". كما أكد زعيم الجبهة إبراهيم غالي، أن البوليساريو "لن تكون طرفاً في أية مفاوضات لا تحترم حق الشعب الصحراوي في تقرير المصير".
كما وجّه ممثل جبهة البوليساريو لدى الأمم المتحدة، سيدي محمد عمار رسالة إلى الشعب الصحراوي من مقر المنظمة بنيويورك، مؤكداً أن صوت الصحراويين وصل إلى مجلس الأمن الدولي وإلى كل قوى العالم.
في هذا السياق، نقلت جريدة الأيام الجزائرية عن المحلل السياسي محمود خطري قوله إن اعتماد القرار رقم 2797 "رغم محدوديته، يمثل انتصاراً رمزياً لمبدأ تقرير المصير، ويؤكد أن القضية الصحراوية استعادت موقعها في صدارة النقاش الأممي بعد سنوات من محاولات التهميش والتجميد".
رفضت الجزائر القرار على اعتباره "يفتقر للتوازن المطلوب بين الأطراف"، وكذلك البوليساريو التي رأت أنه لا يلبي مبدأ حق تقرير المصير. ونددت به ووصفته بأنه انحراف خطير عن الإطار القانوني والسياسي لعملية السلام التي ترعاها الأمم المتحدة، مضيفة أنها ستعيد تقييم علاقاتها مع المنظمة الدولية
وأضاف خطري بحسب الصحيفة أن "تمديد ولاية المينورسو في حد ذاته يحمل دلالة سياسية مهمة، لأنه يذكر بأن المهمة الأصلية للبعثة هي تنظيم الاستفتاء لا إدارة الوضع القائم"، معتبراً أن "الضغوط المتزايدة على الرباط من داخل مجلس الأمن ومن منظمات حقوق الإنسان قد تفتح الباب أمام مسار تفاوضي جديد أكثر توازناً وعدلا".
وأضاف المصدر نفسه أن موقف الجزائر الذي وصفه بـ "المتزن" يعكس "تمسكها الثابت بالمبادئ الأممية ورفضها لأي حلول تفرض بالقوة أو عبر المساومات السياسية".
كما أعلنت موسكو، تمسكها بحق الشعب الصحراوي في تقرير مصيره، ورفضها للقرار، موضحة عبر وزارة خارجيتها أن امتناعها عن التصويت يعود إلى "غياب الشفافية" في عملية المشاورات حول مشروع القرار، التي جرت بوتيرة متسارعة، ولم تؤخذ جميع التعديلات المقترحة بعين الاعتبار.
وعلى الرغم من ذلك، شددت الخارجية الروسية على أهمية تمديد مهمة المينورسو لما لها من تأثير استقرار إيجابي على الوضع في الصحراء الغربية وفي منطقة الساحل والصحراء عموماً.
جوجل تغير خرائطها!
وفي انتظار التقرير الذي طلب مجلس الأمن من الأمين العام للأمم المتحدة تقديمه في غضون ستة أشهر حول مستقبل بعثة المينورسو، يبدو أن المواقف بين الأطراف ستظل متباعدة، وسط تصاعد حدة الخطاب السياسي والدبلوماسي في المنطقة.
بحسب الخبير في القانون الدولي ونزاع الصحراء صبري الحو، فردود فعل الجزائر والبوليساريو الرافضة لمضمون القرار لم تكن مفاجئة، إذ بدأت قبل صدوره رسمياً.
ويقول لرصيف22 إن الجزائر "كسرت الصمت" مرتين خلال المداولات الأممية، في محاولة منها "للتأثير على صيغة القرار وإدخال تعديلات من شأنها إعادة بعض التوازن من وجهة نظرها"، إلا أن ذلك بحسبه "لم يكن ممكناً في قضية مثل قضية الصحراء، حيث يصعب الحديث عن توازن في قرارات مجلس الأمن المرتبطة بهذا النزاع".
وأضاف صبري أن انتقادات الجزائر والبوليساريو لقرار مجلس الأمن، بدعوى "عدم تضمنه مبدأ تقرير المصير"، تعبر عن "رفض صريح لمخرجات الشرعية الدولية". واعتبر أن استمرار الطرفين في نهج المقاطعة ورفض الانخراط في المفاوضات يمثل تنصلاً من المسؤولية تجاه الأمم المتحدة، مؤكدا أن "عدم رضا الجزائر عن القرار الأممي قد يجرّها إلى مواجهة مباشرة مع مجلس الأمن ذاته".
اللافت أن "جوجل" قامت بتحديث خرائطها فوراً، لتظهر الصحراء كجزء من المملكة المغربية، في خطوة لاقت ترحيباً واسعاً، واعتبرت من قبل مستخدمين مغاربة وإعلاميين "اعترافا رقمياً متأخراً بواقع جغرافي راسخ".
بعض الأحزاب الإسبانية رفضت القرار وطالبت حكومتها بالتراجع عن التصويت، بينما صرّحت موسكو بتمسكها بحق الشعب الصحراوي في تقرير مصيره، وأن امتناعها عن التصويت يعود إلى "غياب الشفافية"!
ويضيف الحو: "القرار أزال اللبس والغموض الذي كان يحيط بمسألة السيادة، من خلال ترقية الحيازة المغربية للصحراء إلى بعد سيادي واضح"، في إشارة إلى أن مجلس الأمن "أزال الالتباس الذي كانت تثيره بعض الجهات حول طبيعة الوجود المغربي في الأقاليم الجنوبية".
وأضاف صبري أن القرار الأممي "جعل من الحكم الذاتي صيغة لتقرير المصير في الوقت نفسه"، معتبرا أن هذا التطور "يمنح الشرعية لسيادة المغرب ويجعل الحكم الذاتي هو نقطة الانطلاق والنهاية في مسار التسوية".
وأبرز أن هذا المسار سوف "يتم تحت إشراف الأمم المتحدة وفي إطار مفاوضات تروم التوصل إلى توافق حول الحكم الذاتي الحقيقي".
وتابع المصدر نفسه أن إقرار مجلس الأمن بالسيادة المغربية يضع المبعوث الشخصي للأمين العام والأمانة العامة للأمم المتحدة أمام مسؤولية البحث عن حل يقوم على الحكم الذاتي الحقيقي، ولكن داخل سقف السيادة المغربية. كما يرى صبري أن القرار "سيساهم في فك القيود السياسية والتجارية والاقتصادية والدبلوماسية التي فرضت على المغرب لعقود"، موضحاً أنه "سيتيح للمغرب التوقيع على اتفاقيات دولية ضمن نطاقه الجغرافي الكامل، من طنجة إلى الكويرة".
وأضاف أن هذا المعطى أصبح اليوم حقيقة وليس مجرد عنوان سياسي أو ادعاء أيديولوجي، لافتاً إلى أن القرار "يبطل، بقوة القانون الدولي، الاتفاقيات الصادرة عن القضاء الأوروبي منذ عام 2016 التي شككت في سيادة المغرب".
يضيف: "اعتبر الموقف المغربي أكثر ترجيحاً وواقعية، إذ أثبتت مبادرة الحكم الذاتي طابعها العملي والسياسي… أعضاء المجلس أظهروا إرادة وشجاعة حقيقية في التعبير بوضوح عن أن المبادرة المغربية تتقاطع مع جميع المعايير التي يبحث عنها مجلس الأمن للوصول إلى حل واقعي وعملي للنزاع".
ماذا بعد 31 أكتوبر؟
يعدّ القرار الأممي محطة فارقة في مسار ترسيخ الحكم الذاتي بالصحراء المغربية، حيث يتجاوز الإطار الإقليمي التقليدي ليعكس رؤية سياسية واقعية تتوافق مع التحولات الكبرى في النظام الدولي. ويؤكد القرار أن قضية الصحراء لم تعد مجرد ملف إقليمي، بل أصبحت جزءًا من التوازنات الدولية التي تسعى إلى ترسيخ الاستقرار ومعالجة النزاعات الانفصالية.
ويأتي هذا الإنجاز تتويجاً لمسار دبلوماسي رفيع المستوى قاده الملك محمد السادس، نجح من خلاله المغرب في تعزيز موقفه القانوني والسياسي، وكسب ثقة الفاعلين الدوليين، وإظهار صدقية مقترح الحكم الذاتي وواقعيته كحل عملي للنزاع، مما يفتح آفاقاً جديدة لتسوية شاملة ومستدامة.
ورغم استمرار المواقف الرافضة من الجزائر والبوليساريو، فإن الزخم الدولي والدعم الواسع لموقف المغرب يمهد لمرحلة جديدة من التفاوض والبناء، نحو مستقبل يضمن وحدة التراب الوطني ويعزز التنمية في الأقاليم الجنوبية، الأمر الذي يجعل الطريق نحو مغرب موحّد ومستقر أكثر واقعية وقابلية للتحقق.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
 


