لا أظن خيري بشارة بفيلمه "أمريكا شيكا بيكا" وداود عبد السيد بفيلمه "أرض الأحلام" اتفقا على هذا التنافس. يعرض الأول فيلمه في آب/أغسطس 1993، فيُعرض فيلم الثاني في الشهر التالي. وللمشاهدين أن يتأملوا الصورة الذهنية لهذه "الأمريكا"، في فيلمين مصريين لا يبلغ أبطالهما ذلك البلد البعيد الذي حلم به المبشرون باسم الله، رافعين الصليب بجوار السيف. وقصده المهووسون بالثراء بحثاً عن الذهب. واحتمى به خارجون على القانون، وهاربون من الموت أبرزهم صبي إيطالي أجاد التعامل مع القانون "العرفي" الأمريكي. صان خصوصيته باتخاذ اسم قريته "كورليون" لقباً. أصبح الفتى فيتو أندوليني، في فيلم فرانسيس فورد كوبولا "الأب الروحي"، الدون فيتو كورليوني.
ملصق فيلم "أمريكا شيكا بيكا"
يبدأ "الأب الروحي" بمشهد من أطول مشاهد الاستهلال وأجملها وأعمقها. واجهة عرض بانورامية لروح الفيلم وفلسفته وعلاقات أبطاله وطبائعهم. طول المشهد نحو سبع دقائق. لوحة سوداء ثابتة تستغرق 13 ثانية، مصحوبة بصعود موسيقى لن تغادر الذاكرة، ثم تنفرد الموسيقى بالمشهد حتى يخرج من الشاشة السوداء صوت يقول صاحبه: "أؤمن بأمريكا". مع الجملة التالية "في أمريكا حققت ثروتي" يكون وجهه المهزوم قد ملأ سواد الشاشة. يواصل التعريف بنفسه، ورأسه معلّق في السديم، قائلاً إنه ربى ابنته على الطريقة الأمريكية، وأعطاها الحرية، وعلمها ألا تلحق العار بعائلتها، ولكن شابّاً غير إيطالي مع صديقه تحرشا بها، فقاومتهما وحافظت على شرفها، فضرباها وشوّها وجهها.
في أفلام خيري بشارة وداود عبد السيد، يقدم كل منهما رؤية مغايرة لأمريكا، بعيداً عن الصورة المثالية التي حلم بها الكثيرون
يتسع المشهد لما هو أكثر من وجه الرجل، وفي البعيد نقطتان باهتتان معلقتان في فضاء، سيتضح أنهما مقبضان لباب بالحجرة حيث يقف الشاكي الذي يحتبس صوته، فتشير يدٌ باستقامتها إلى شخص لا نراه، وتتعامد إشارتها التالية على الإشارة الأولى باتجاه الرجل. وفي الحركة الثالثة تستند اليد الآمرة، في العتمة، إلى خدّ صاحبها. وتمتد يدٌ بكوب ماء إلى الشاكي. وينطلق لسانه عن لجوئه إلى الشرطة، والحكم عليهما بالحبس مع وقف التنفيذ، فأُفرج عنهما في اليوم نفسه. في المحكمة، سخر منه الوغدان بابتسامة. فقال لزوجته: "لا بدّ أن نذهب إلى الدون كورليوني من أجل تنفيذ العدالة". هنا أتوقف قبل أن يستدرجني الفيلم.
لم يعترض الصحافيون والسياسيون والقضاة على الفيلم الذي يذكر تلقّيهم رشاوى من المافيا. أتأمل أفلاماً أمريكية تناولت فساداً في أجهزة الحكم، ونزعت القداسة عن شخصيات مرموقة في مؤسسات من صميم الأمن الوطني، مثل وكالة المخابرات المركزية "CIA". أتأملها وأتذكر اللعين بن جوريون. أبهجته أول جريمة تقع في إسرائيل. اعتبرها دليلاً على تفكُّك العُقدة اليهودية المزمنة، وانتهاء مرارات اليهودي المنبوذ، من الجيتو إلى المستعمرة إلى مدن التلال، وصولًا إلى المجتمع الطبيعي. فرح قائلاً: "أصبحنا دولة". ففي الدولة تقع دراما الحياة. في الديكور السينمائي، وفي المحميات العربية المسمّاة تجاوزًا دولًا وهي مجرد ديكور دولة، لا تقع أخطاء إلا المنصوص عليها في السيناريو.
في كتابه "أسمهان تروي قصتها" كتب محمد التابعي عن تل أبيب، وقد مرّ بها عام 1941: "والأثر الذي تركته هذه المدينة أنها أشبه بالمدن التي تشيدها ستوديوهات السينما في هوليوود ليلتقطوا فيها حوادث فيلم سينمائي معين فإذا ما انتهوا من التقاط المناظر.. هدموا المدينة وما فيها! أي أنها مدينة ولكنها لا توحي إلى النفس بشعور الثبات والاستقرار!". لا تتمتع بالاستقرار أيضاً أنظمة الحكم "الماكيتات"، ولا تحتمل الاختلاف. تربكها دراما الحياة؛ لأنها من خارج النسق. الماكيت يعادي الدراما الإبداعية المتمردة على النص الرسمي. بعد تطويق آثار ثورة 25 يناير 2011، يبدو رجال الشرطة في الدراما المصرية ملائكة. تنقصهم الأجنحة. ولهذا تاريخ.
ملصق فيلم "البرئ"
لم تحتمل الرقابة، عام 1986، جسارة فيلم "البريء" لعاطف الطيب، فأحالته إلى "جهات سيادية". في الفيلم المزعج، يُغرَّر بالجندي الساذج أحمد سبع الليل (أحمد زكي)، ويُشحن نفسيّاً لتعذيب "أعداء الوطن"، ثم يفاجأ بصديق طفولته الطالب الجامعي، فتؤلمه الخديعة. يحاول حماية صاحبه؛ فيتعرضان للتعذيب والإهانة. وينتهي الفيلم بالجندي في برج المراقبة يطلق النار على المعسكر وضباطه وقائده الساديّ. وترديه من أسفل رصاصة. اجتمع وزراء الدفاع والداخلية والثقافة لممارسة الرقابة، واستقر الوزراء الرقباء على حذف عدة مشاهد، أبرزها المشهد الأخير، وطوله أربع دقائق تقريباً. عرض الفيلم من دون مشهد التصفية الجسدية، وكان نبوءة بتمرد جنود الشرطة (قوات الأمن المركزي) في السنة نفسها.
أي نظام حُكْم "شيكا بيكا" يعلي شأن الرقابة. لا تسمح ميكروسكوباته الدقيقة إلا بتمرير الأفكار الصغيرة. النظام الحقيقي لا يهزّه كتاب أو فيلم. الحقيقة دائمًا تحتمل، بل تتحدى بثقة، ما يثار حولها. غير الحقيقي يظل مبتسراً، تناسبه غرف الإنعاش المعقمة، ويكسر هشاشتَه التعرض لغبار الشارع. سأضرب مثلين أولهما من مصر. ثورة 25 كانون الثاني/يناير، منذ 2014، هدف للاتهام والتجريم. من قمة السلطة إلى أذرعها الإعلامية. كان أحدهم يكتب عنها يوميّاً في عموده اليومي في الأهرام، باعتبارها "عملية يناير"، ناسياً أن الجيش ساندها. والجيش لا يدعم مؤامرات. ولا تزال ذكرى الثورة مزعجة ومؤرّقة، لأنها حقيقة. أما 30 يونيو 2013... فلأصمت. أنا خائف.
المثل الثاني من الجزائر. في زياراتي رأيت الثورة حقيقة تحظى بالإجماع، وللشهداء قداسة تليق بتضحياتهم. الجزائر استثناء، بتأسيس وزارة للمجاهدين وذوي الحقوق منذ الاستقلال عام 1962. الشهداء والثورة معان عابرة للأجيال، تتجاوز خلافات الثوار ومآل الثورة بعد تحولها إلى دولة. هذه حقيقة يختبرها فيلم "الوهراني". فاجأني حين شاهدته في مهرجان أبو ظبي السينمائي عام 2014. بطله ومخرجه إلياس سالم راجع بعض التحولات، وأنزل الثورة من الفكرة المجردة إلى الاختبار، من سماء القداسة إلى أرض بشر لا يكتملون إلا بنقص تظهره مغانم الدولة. وكما أغضب الفيلم مقدّسي الثورة، فقد أكسبها صلابة الحياة، وأكد أنها حقيقة، وأن جلالها لا يخدشه ضَعف فردي.
الذين يتعجلون انهيار الولايات المتحدة لا يهمهم وصف منسوب إلى أوسكار وايلد يقول إنها الدولة "الوحيدة التي انتقلت من الهمجية إلى الانحلال دون أن تمر بالحضارة". مقولة شائعة لا تتأكد لي، وإن تضمّن المعنى حقيقة أنها الدولة الأسرع تطوّراً، وبناء إمبراطورية لا تزال تحكم العالم، وأنها الأكثر ثراء ماديّاً وبشريّاً. صديقي هناك منذ سنوات، يخشى أن يعود فلا يرجع إلى بيته. قائمة الاتهامات قد تجعل المسيحي إخوانيّاً، "وشيعي وقت اللزوم آهي تنقري شيوعي" كما قال نجيب سرور. آخر ما تخيله أن يطرق مندوب المخابرات المركزية بابه، للتفاوض على ابنه. من كشوف الطلبة عرفوا التفاصيل، نوع الدراسة ومواهبه التي يريدون استثمارها.
أدهشهم أنه لم يأخذ قروضاً دراسية، فأبوه يرفض الحياة بالتقسيط. سألوه: هل تدخن؟ قال: لا سجائر ولا خمور. ازداد الإعجاب والإصرار على ضمّه. رفض الأب متسائلاً: ماذا لو تحارب البلدان؟ إلى أي دولة يكون الولاء؟ طمأنوه: لن يُجند بالشكل التقليدي، لن يحمل سلاحاً. يريدونه في هوليوود ينتجون له أفلامًا. تركوه فترة للتفكير، ثم زاروه. استقبلهم أخوه. أخوه؟ كيف لم يجدوا اسمه في سجلات الجامعات؟ ببساطة لأنه لم يدرس في أمريكا، وقد عاد قبل أيام بعد أن أنهى دراسة الصيدلة في الصين. وااو الصين؟ وتعرف اللغة الصينية؟ قال: نعم. من دون الرجوع إلى المسؤولين، طلبوا الشاب الصيدلي أيضاً. وأدهشهم رفض صديقي.
صوت صديقي مثقل بمرارة لا يخفيها الضحك، والتفكّر في فلسفة بلد لا يفرط في مواهب المقيمين، كما يظل جاذباً لأذكياء تهزمهم بيروقراطية بلادهم الطاردة، يكرههم الفاشلون، ولا ينالون ما تؤهلهم له مواهبهم. يسألني: كيف ينهار، في الأفق القريب، بلد يجدد نفسه، ولا يعنيه دينك أو مذهبك، ولا يهتم بطبقتك الاجتماعية في بلدك؟ بالتنوع البشري تتجدد الدماء وتاريخ الصلاحية. وفي بلادنا لا تخفي سلطة الأمن خشونتها، حتى في "الحرم الجامعي". إدارة الأمن في جامعة عين شمس، عام 2016، رفضت حضور صنع الله إبراهيم مناقشة رسالة ماجستير عن رواياته، لحمزة قناوي. وبعد تدخل أستاذين، سمح الأمن "على مضض" بدخوله. كأنه ذاهب للشغب!
فيلم "Safe House"
يبدأ فيلم "الأب الروحي" بجملة "أؤمن بأمريكا". هذا يقين لا تهزه واقعة فساد في أخطر المؤسسات. وفي فيلم "Safe House"، إخراج دانيال إسبينوزا عام 2012، عميل خطير منشق عن وكالة المخابرات المركزية. إنه توبين فروست (دينزل واشنطن) الذي يأخذ من ضابط مخابرات بريطاني جهاز تخزين بيانات. ويُطارد فلا يجد ملجأ إلا السفارة الأمريكية في جنوب إفريقيا، فيسلم نفسه. يودع العميل في "المنزل الآمن"، ويتولى حراسته مات ويستون (ريان رينولدز). ويدهم المخبأَ فريق من المرتزقة، يستهدفون العميل المنشق. ويتمكن العميلان (المنشق والحارس) من الهروب إلى مخبأ بديل. يؤكد فروست للحارس أن في إدارة الوكالة خائناً أبلغ المرتزقة بوجوده في المنزل الآمن.
وينتزع العميل الحارس "ويستون" من أحد المرتزقة اعترافاً بالعمل لوكالة المخابرات الأمريكية. ويرسل مدير وكالة المخابرات كلاً من كاثرين (الممثلة فيرا فارميجا) وديفيد بارلو (الممثل بريندان جليسون)، وهما ممن كوادر الوكالة، إلى جنوب إفريقيا لمعرفة هوية المرتزقة، وإعادة العميل المنشق. هناك تقول كاثرين لديفيد إن مع فروست شريحة معلومات خطيرة لا يعرف تفاصيلها غيره؛ فيقتلها ديفيد، ويَتهم بقتلها العميلَ المنشق فروست. هنا يتبين أن ديفيد هو الخائن الذي يريد شريحة المعلومات؛ لأنها تدينه. وقبل موت فروست، يسلّم لحارسه الشريحة، وتتضمن "لائحة قذرة… المخابرات الإسرائيلية وضعت لائحة سرية للابتزاز" بأسماء عملاء فاسدين في المخابرات الأمريكية والبريطانية والألمانية. فكيف تصرّف مدير الوكالة؟
في الولايات المتحدة يطلب المدير إلى ويستون تعديل التقرير، وحذف ما يسيء إلى الوكالة، "حفاظاً على الأمن القومي". طلبٌ وليس أمراً ولا رجاء. المشهد مباراة في الأداء الثنائي: شاب يحاول فهم الألغاز، ومدير يخفي رعبه ويسيطر على انفعالاته رغم التوتر النفسي، تساعده إضاءة الجانب الأيسر لوجهه، والأيمن معتم. يؤكد أن الناس لا يحتملون ذكر الحقيقة. أما الشاب، بالإضاءة المسلطة على الجانب الأيمن لوجهه، فيخفي ثقته، والمدير يساومه، يعده بالترقية إلى عميل ميداني، ويسأله عن الملف الذي كان يحوزه فروست. فيه معلومات تضرّ بالوكالة وحلفائها، إذا تسرّب سيكون للمسؤول "أعداء في كل وكالات التجسس في العالم"، سيكون نسخة من توبين فروست.
كما في أفلام مثل "الأب الروحي"، تقدم السينما الأمريكية صورة مشوهة للواقع، حيث تكتشف الشخصيات فساد المؤسسات والمجتمعات
ينكر ويستون، ويرسل الملف إلى أجهزة الإعلام، فتنتشر الفضيحة حول العالم، ويُقبض على المدير. أكتفي بفيلم "المنزل الآمن" نموذجاً لحرية الإبداع، من دون أن تحتج أي مؤسسة بأنها "خط أحمر". وللقراء أن يتأملوا أفلاماً أمريكية بعضها من إخراج أجانب لم يُتهموا بتشويه صورة الولايات المتحدة. أستشهد، باختصار، بثلاثة أفلام. في فيلم "The Sentinel"، إنتاج 2006 وإخراج الأمريكي كلارك جونسون، يُشتبه في خيانة عميل بجهاز الخدمة السرية، بعد محاولة اغتيال الرئيس الأمريكي. الحارس المتهم تربطه بالسيدة الأولى علاقة غرامية تعترف بها لزميله. وبعد انكشاف العلاقة يتقاعد العميل، على الرغم من جهوده في إثبات براءته، والتوصل إلى المتآمر في طاقم حراسة الرئيس.
فيلم "Flightplan"
وفي فيلم "Flightplan"، إنتاج 2005 وإخراج الألماني روبرت شوينتكي، تعود أرملة من برلين إلى نيويورك، ومعها طفلتها وتابوت يحتوي جثة زوجها. وتختفي الطفلة في الطائرة، ويدّعون أنها لم تكن موجودة. ويتواطأ المستشفى في برلين ببرقية تفيد بموت الطفلة مع أبيها. الطرفان شريكان في خطة ضابط أمن الرحلة؛ لاختطاف الطائرة، وطلب 50 مليون دولار فدية. ولم تتوجه السهام إلى المخرج الألماني. وأختم بفيلم "Exterritorial"، إنتاج 2025 وإخراج الألماني كريستيان زوبرت. تدخل القنصلية الأمريكية بفرانكفورت مجندة ألمانية سابقة مع ابنها، للحصول على تأشيرة دخول أمريكا. ويختفي الطفل. جريمة يدبرها مسؤول الأمن؛ للانتقام من المرأة الشاهدة على تورطه في جريمة سابقة في أفغانستان.
فيلم "Exterritorial"
في أي بلد "شيكا بيكا"، منكوب بالاستبداد، تتعدد مستويات الرقابة. رقابة على السيناريو لقاء رسوم مالية. ثم رقابة على الفيلم للتصريح بعرضه. محظور أي اقتراب من المؤسسات الدينية والعسكرية والشرطية. في الحالة الأولى، يريح الرقيب نفسه بإرسال السيناريو إلى الأزهر. في عام 1977 رفض الأزهر إنتاج فيلم "الرسالة" لمصطفى العقاد، داعياً حكام المسلمين "والأمة الإسلامية كلها، إلى إيقاف العمل في هذا الفيلم"، فكيف يتراجع عن قوائم المحظورات؟ في البلد "الشيكا بيكا"، تكتسب الشرطة والقضاء قداسة المؤسسة العسكرية. الداخل مفقود، من السيناريوهات بالطبع؛ منعاً لأي الْتباس. وفي الدول الحرة تمرّ الأفلام. فهل كان خيري بشارة محقاً حين اعتبر "أمريكا شيكا بيكا"؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



