"عام المتاحف الصغيرة - مذكرات ابنة"... إعادة تعريف الموت والحب 

رأي نحن والتنوّع

الخميس 30 أكتوبر 20257 دقائق للقراءة


يقول الشاعر وديع سعادة: "هذه البحيرة ليست ماءً. كانت شخصاً تحدّثتُ إليه طويلاً، ثم ذاب… ولا أحاول الآن النظرَ إلى ماء بل استعادةَ شخص ذائب". 

بمثلِ هذا التأويل الذي يحيل إلى الغياب، ويجعلُ الماء استعارةً للموت، تفتتح الشاعرة أسماء عزايزة، أولى صفحات كتابها "عام المتاحف الصغيرة - مذكرات ابنة"، الصادر في الشارقة، عن دار روايات، مجموعة كلمات، 2024، ببركةٍ من الماء وبما قد يُصيبنا منه. 

فالماء، الذي "جُعل منه كلّ شيء حيّ"، يشير بغزارته أو سكونه أو برودته إلى موت أبيها الذي يشبهه في استعصائه على القبض. 

في هذا العالم الراكض نحو واقعيته المفرطة، نتعامل مع الموت كنتيجة حتمية للحياة، غير أنّ الشاعرة قد تتحدث عنه بطريقة تختلف عن الممرضة التي تثبته كحالة علمية محكومة بأسباب فيزيائية داخل الجسد. 

تتأمّل أسماء عزايزة، الموتَ من خلال الجسد الذي يوشك أن يُسحَل إلى التراب، لا من خلال عيون الأحياء التي تراقبه بينما تعفّره الأيادي بالتراب. وهذا ليس تأملاً روحياً محضاً، بل تفكيك للعقلانية المفروضة علينا حول الموت، أو لما تسميه الكاتبة "الهرطقة العلمية"

تتأمّل أسماء عزايزة، الموتَ من خلال الجسد الذي يوشك أن يُسحَل إلى التراب، لا من خلال عيون الأحياء التي تراقبه بينما تعفّره الأيادي بالتراب. وهذا ليس تأملاً روحياً محضاً، بل تفكيك للعقلانية المفروضة علينا حول الموت، أو لما تسميه الكاتبة "الهرطقة العلمية"، ولتفكيك التسليم الجلف الذي انتهتْ إليه طقوس الموت في زمننا الحاضر. 

الإحساس بالغائبين، برغم مصادرة أبدانهم من بين أبداننا، وعدم تجاهلهم وهم يقفون خلف شبابيكنا فراشاً وطيراً وأشجاراً؛ منتظرين الليل كي يدخلوا أبواب أحلامنا، إشاراتٌ لو أعرناها انتباهاً ربما كانت لتجعل بصيرتنا أكثر مرونةً وأقرب من فهم الموت. 

كما يشي العنوان، يكاد الكتاب أن يكون متحفاً للمقتنيات. وما أن يُسمّي البشرُ الأشياءَ "تُحفاً" ويجمعوها في متحف، حتى تبدو في لحظة كأنها تنجو من النسيان، فيما هي في الوقت نفسه تذكّرنا باحتمالية نسيان أصحابها وبموتهم الذي أودعها هناك. 

تتعامل أسماء مع هذه المفارقة بذكاء حسّاس. فالمقتنيات/ الأشياء العادية: "المشط الأسود"، "الوردة الجورية المشمشية"، "النظارة"، "الباب الأبيض"، و"دمية كاترينا"، تتجاوز وصفها اللغوي وغايتها الوظيفية لتصير مشاركةً بحضور الغائب، وبالحكاية التي تَأكُلُ الذاكرةُ أشكالَها، فتنطق فيها الأشياءُ عن أصحابها، لكأنما على الأموات "أن يعودوا" إن تحدّثتْ أشياؤهم.

فلسفياً، يمكن أن يُنظر إلى الحزن كشعور مُتَأمِّل، بينما يكون الغضب شعوراً يطالب بالتحرك والرّد، كذلك تظل أسماء تتقصّى غياب أبيها بين "الموت الوشيك" والتقمّص. 

سيُسقطنا حزن الفقدان في بئره العميقة لا محالة، وسننزل إليه "كدلوٍ مثقوب". لكن ليست غاية هذا الحداد أن نهرع إلى بئر أحزاننا مرةً واحدة، بل أن نعي -كما تكشف تجربة أسماء عزايزة- أنّ عالم الأموات أقرب إلى حياتنا مما نتصور. إنما جرّدنا الموتَ وطوّقنا تلك المسافة إليه بالهرطقات كي لا تفتك بنا الفاجعةُ دفعةً واحدةً. 

تعرض أسماء مراحل الحداد في خطٍّ زمنيّ يسبق زمن الموت ويتبعه؛ فالحزن أقدم من الموت. تسبقه لحظة تعانق فيها أباها، وتتأمّل فيها غيابه المُقبِل، فتمرّ بِعينيها سيناريوهات موته؛ وكأنما كلّ لحظة حيّة إنما وَلَجَتْ أجسادَنا مع لحظة الموت القادمة. 

تمتد رؤية الشاعرة ورؤياها لأبيها من جنين إلى عجوز، فيصير الحداد تأمّلاً عميقاً في العلاقةِ البيولوجية والأنطولوجية بين الأب وابنته، وبين جسديهما. هذا الحداد، وهو يكتسح المذكرات، يوحي بالغضب الخفيِّ وهو يدفع قصائد الشاعرة من ديوانها "الجسد الذي تسلّقته يوماً"، إلى طريق المذكرات التي تفيض بالشعر من جهة، وتتمسك من جهة أخرى بالتوصيف الدقيق للّحظة المصيرية للموت بكل تفاصيلها، مشيرةً ربما إلى استحالة استيعاب فجيعة الفقدان في لغة شعرية مُركّزة، لكأنما يمنح التّنقل بين الحزن والغضب أن يتنفّسا معاً، كما يفعل الشعر داخل المذكرات. 

تعلن الشاعرةُ حدادها على أبيها بلا وجل؛ فالموت زائرٌ وقحٌ يراه الجميع وهو يخلع الأبواب، لكنهم يرفضون الانضمام إليها واللحاق به وبالجسد الذي يحمله على كتف واحدة. 

"تتسلّق" أسماء ذاك الجسد المتهدّل، وتخبرنا عنه بلغة تظلّ تراه جسداً كاملاً، مشى بقدمين، أو زحف، أو غرق، أو طار، أو سُحِل إلى التراب. تحرث الابنة أرض أبيها؛ تفرد مفرش قطاف الزيتون، وتتسلّق شجرة حياته كي تفهم موته. ثم تهزّ أغصان الشّجر بيدين مشدودتين، كأنما نحو حيوات مترامية خلف ظلال الموت، فتُرتِّبُ الصور والأحداث والإشارات لتعود دوماً إلى لحظة ارتطام وجهه بالأرض، وتتفحّص كلماته بقلبها الغاضب، مثل "شحرور" نَهِم لا يملّ الخبط بجناحيه على جذع شجرة، فتتكلّم.

فلسفياً، يمكن أن يُنظر إلى الحزن كشعور مُتَأمِّل، بينما يكون الغضب شعوراً يطالب بالتحرك والرّد، كذلك تظل أسماء تتقصّى غياب أبيها بين "الموت الوشيك" والتقمّص. 

وعلى خلاف الرثاء الذي يدفع الناس إلى الآخَر الغريب، تفتح مذكرات أسماء أبوابنا الموصدة في وجوه من فقدناهم، فنعي بذلك ما فاتنا من حداد على آبائنا لحظة سلّمنا بأبديّة غيابهم. بل ربما نستعجل بعد قراءة هذا الكتاب إلى استحضار تفاصيل موت آبائنا، علّنا وجدنا طريقاً مَشوّهاً من موتهم إلينا، لم نلتفتْ يوماً إلى جهته. 

يتجاوز رثاء أسماء عزايزة، فعل التذّكر باتجاه الماضي، ليصبح بحثاً عن حضور جسد الغائب في الحاضر والمستقبل معاً. محمد سعيد محمد حسين عبد الله عزايزة -الفلّاح ابن قرية دبورية في الجليل الأعلى، على السفح الغربي لجبل طابور- ليس فقط الأب الذي غاب، بل أيضاً الشجرة والخطّاف/ السنونو، والطفل الذي قد يولد عما قريب في بلد بعيد. 

تكتب أسماء عزايزة عن يد الموت المتحالفة مع يد الاحتلال، وعن الأرض التي ستُصادَر شمالي فلسطين، وعن مرج ابن عامر الذي سيتحوّل إلى مطار؛ فيتقاطع موت الفلسطينيين والفلسطينيات، كيفما وأينما كان، مع استعمار المكان وتهويده، ومع التغيير الديموغرافي ومحو الذاكرة في الجسد الذي يبقى واحداً، مهما مزّقته يد الاحتلال

حين تتحدث أسماء عن مرج ابن عامر، عن أبيها وهو يسقي أشجاره بيديه، وعن صورتِه فوق جبل طابور، يبدو وكأنّ موته حفر الأرض نحو جسدها؛ وكأنما ستنقص الأرض في جلدها إن ثبت موته البيولوجي. وهي تعيد للموت فرديته التي نتناسى الالتفات إليها أمام الفجائع الجمعية الكُبرى، يصير هذا الرثاء فعلاً مزدوجاً يردّ الاعتبار لمعنى الحياة التي تتهاوى من حولنا خلال حرب الإبادة في غزة، وللحياة القديمة التي تُقصى وتُمحى كما تُمحى أجساد أصحابها. تكتب أسماء عزايزة عن يد الموت المتحالفة مع يد الاحتلال، وعن الأرض التي ستُصادَر شمالي فلسطين، وعن مرج ابن عامر الذي سيتحوّل إلى مطار؛ فيتقاطع موت الفلسطينيين والفلسطينيات، كيفما وأينما كان، مع استعمار المكان وتهويده، ومع التغيير الديموغرافي ومحو الذاكرة في الجسد الذي يبقى واحداً، مهما مزّقته يد الاحتلال:

"يدُ الموت التي تناولته تعبثُ في الشارع/ أقصد في الماضي/ يدُ الاحتلال تعاونها/ هذا المرجُ قد يصبحُ مطاراً/ ستصادر "إسرائيل" المزيد من أراضيه التي يملكها الفلاحون فتتلوى في بدنه شوارع الإسفلت وتجزّ أعناق سنابله دون رحمة/ سيُدفنُ ترابه الأحمر الذي يسميه الفلاحون "حماري" تحت مؤخرة الحداثة الجالسة مثل دكتاتور جلف/ ستنتهي الحياةُ القديمةُ عاجلاً أم آجلاً/ ستنهض مراسينا منها كما ينهضُ الرمل في الريح/ بتلك الخفة المتناهية/ ونعيش الحياة الجديدة كأنها البداية/ نعم، سينتهي هذا العصر/ وما يبدو لنا انتهاءً تدريجياً/ سيراهُ أحفادنا سقوطاً سريعاً دون جلبة/ لن يشعروا به/ سريعاً، وبلا جلبة مثل ميتة أبي/ مثل سقوطي في حُفرتها". 

الكتاب متوافر في موقع مجموعة كلمات وموقع نيل وفرات للاقتناء، وعلى تطبيق أبجد.



رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

وراء كل تقرير في رصيف22، أيام من العمل: من التفكير والتحرير إلى التحقق والإنتاج البصري.

نحن نراهن على النوع، والصدق، والانحياز إلى الحقيقة والناس.

وحتى يستمرّ هذا العمل، نحتاج إلى من يؤمن بأنّ الجودة والحرية تستحقان الاستثمار.

Website by WhiteBeard
Popup Image