ما هي الصيغة التي تبحث عنها دمشق في علاقتها مع موسكو؟

ما هي الصيغة التي تبحث عنها دمشق في علاقتها مع موسكو؟

سياسة نحن والحقوق الأساسية

الخميس 30 أكتوبر 202512 دقيقة للقراءة

متحدثاً إلى ضيفه، الرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع، قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، "على مدى العقود الماضية، بنت بلداننا علاقةً خاصة". ردّ الشرع بإعلان رغبته في إعادة العلاقات السورية مع جميع الدول بعد سنوات من العزلة، لكن "بشكل رئيسي مع روسيا"، وذلك خلال الزيارة التي أجراها الشرع إلى موسكو في 15 تشرين الأول/ أكتوبر الجاري، قبل طيّ عام واحد من لجوء الرئيس السوري المخلوع، بشار الأسد، إليها، وهي التي ساندته، بكل الوسائل المتاحة، في حربه المفتوحة على الشعب السوري الثائر على نظامه. 

قبلها، وخلال زيارة سابقة لوزير الخارجية السوري أسعد الشيباني، إلى روسيا، قال: "العلاقة بين الدول علاقة تاريخية وإنسانية لكن بعض الحكومات تفسد هذه العلاقة". أضاف الشيباني: "نحن هنا اليوم لتمثيل سوريا الجديدة. نريد إقامة علاقة صحيحة وسليمة بين البلدين على أساس التعاون والاحترام المتبادل. بالطبع هناك عدد من العوامل التي تحدد وتعقّد هذه العلاقات على الأرض"، فيما أبدى نظيره الروسي، سيرغي لافروف، استعداد بلاده لمساعدة سوريا في إعادة الإعمار ومراجعة "الاتفاقات والعقود المبرمة في ظل ظروف مختلفة"، وقال إنّ قرارهم بالبقاء حلفاء "لا يعتمد على الوضع السياسي أو تغييرات الحكومة".

وخلال المؤتمر الصحافي المشترك للرئيسين، قال الشرع: "نحن نحترم كل الاتفاقيات السابقة والتاريخ العظيم مع روسيا، ونحاول استعادة طبيعة هذه العلاقات. لدينا علاقات وثيقة مع روسيا ويعتمد جزء كبير من قطاع الطاقة في سوريا على الخبرة الروسية"، ما يشير فعلياً إلى السماح لروسيا بالحفاظ على وجودها العسكري في سوريا، حسب صحيفة "ذا ويك". 

علاقة معقّدة... هل من السهل إعادة تعريفها؟ 

تصريحات الشرع أعلاه، لاقت إدانةً من قبل ناشطين سوريين منتقدين لأداء الحكومة ولزيارة الشرع، قائلين إنها تكافئ الحكومة التي دعمت الأسد وساعدت في قصف بلادهم، حسب صحيفة "نيولاينز". وأثارت تساؤلات حول ما إذا كانت سوريا الجديدة ستسدد الديون لروسيا التي تكبدتها خلال حملة القمع التي شنّها نظام الأسد بعد عام 2011. كما دفع رد الفعل الداخلي العنيف الحكومة إلى إصدار توضيحات، بما فيها مقابلة أجراها الشيباني مع قناة الإخبارية السورية، قال خلالها إنه ستتم إعادة التفاوض على الاتفاقات لإعادة تعريف العلاقات على أساس السيادة ووحدة الأراضي.

"تسعى دمشق إلى إعادة تعريف العلاقة مع موسكو على أساس السيادة والاستقلال، مع احترام الاتفاقات السابقة وإمكانية إعادة صياغتها بما يخدم المصالح المشتركة"... كيف ذلك؟ وكيف قد ينعكس على العلاقات السورية الروسية خلال الفترة القادمة؟

وتسعى دمشق إلى إعادة تعريف العلاقة مع موسكو على أساس السيادة والاستقلال، مع احترام الاتفاقات السابقة وإمكانية إعادة صياغتها بما يخدم المصالح المشتركة، حسب مركز شاف للدراسات المستقبلية. وعليه، تمثّل زيارة الشرع تدشيناً لمرحلة جديدة من العلاقات، تقوم على الشفافية والندية، بعيداً عن الاصطفافات الأيديولوجية. فالعلاقات السورية-الروسية هي الأقدم بين روسيا والدول العربية، حسب الباحث في التاريخ والعلاقات الدولية، والمختص بالشؤون الأوراسية، أحمد دهشان. 

وتتجلى هذه العلاقة حسب دهشان، في تسليح الجيش السوري وتدريبه وعقيدته العسكرية وتعتمد على المصادر الروسية والسوفياتية منذ عقود. بجانب البعثات نسبة كبيرة من المبتعثين السوريين تلقّوا تعليمهم في روسيا (ربما أكثر من 70%)، بالإضافة إلى وجود عدد ضخم من الزيجات المشتركة، إلى درجة أنّ عائلة الرئيس الشرع لديها صلات قرابة (شقيقه متزوج من روسية). كما أن المعامل في سوريا إما سوفياتية أو روسية أو من الكتلة الشرقية المرتبطة بروسيا. 

على ذلك، يمكن قراءة المصالح والأدوار الحيوية لروسيا في سوريا. في المنظور السوري، روسيا هي المصدر الأسهل والأكثر يسراً لتحديث وبناء الجيش السوري الجديد. كما يمكن اعتبارها ضامناً أمنياً، فمن خلال علاقاتها الجيدة مع إسرائيل، يمكن أن تلعب موسكو دوراً حيوياً في حماية الأمن السوري من الهجمات الإسرائيلية عبر الاتفاقيات والتفاهمات، بجانب الدعم السياسي والدبلوماسي. بصفتها عضواً دائماً في مجلس الأمن، فإنّ صوت روسيا أساسي لرفع العقوبات عن سوريا وشخصياتها، ويمكنها الوساطة مع الصين (زيارة الشرع المحتملة إليها)، مع كسب دعم دول أخرى دائمة العضوية. 

كذلك يمكن لروسيا أن تلعب دوراً في عملية إعادة الإعمار في سوريا. كما يشكل الوجود الروسي عاملاً ضامناً ومؤثراً يوازن القوى الأخرى في المنطقة، ويرسل رسالة طمأنينة للدول الإقليمية والعربية. لكن ذلك لا يغني عن الحاجة إلى إعادة النظر في العقود والاتفاقيات الموقعة في عهد النظام السابق لتعديل شروطها، وفق إفادة الباحث دهشان لرصيف22.

"سوريا تحتاج إلى دعم روسيا في الملفات المذكورة أعلاه، برغم إمكانية إيجاد بدائل أخرى (بكلفة أعلى)، بينما روسيا تحتاج إلى سوريا بشدّة، مع افتقاد البدائل أيضاً"، يقول دهشان، ويضيف: "تمثل سوريا لروسيا وجوداً إستراتيجياً لا بديل عنه. لا تملك روسيا أي بديل عن سوريا يمنحها وجوداً آمناً ومستقراً على البحر المتوسط، ولها أهمية عسكرية قصوى، إذ إن وجود القاعدة البحرية في طرطوس حيوي للبحرية الروسية، حيث يمنحها القدرة على الإبحار في البحر المتوسط بغطاء وبالقرب من مضائق البحر الأسود، بدلاً من مواجهة الأسطول الأمريكي السادس في بحر مفتوح".

يمكن لروسيا أن تلعب دوراً في عملية إعادة الإعمار في سوريا. كما يشكل الوجود الروسي عاملاً ضامناً ومؤثراً يوازن القوى الأخرى في المنطقة، ويرسل رسالة طمأنينة للدول الإقليمية والعربية.

وبحسب شاف، تناولت الزيارة الوجود العسكري الروسي في سوريا، ولا سيّما قاعدتي حميميم وطرطوس، بجانب دعم روسي لإعادة بناء الجيش السوري الجديد، مع ضمانات بعدم إعادة تسليح بقايا النظام السابق، بالإضافة إلى ملفات اقتصادية وخدمية، مثل الطاقة، النقل، الصحة، السياحة، الأمن الغذائي، وإعادة الإعمار. وتهدف دمشق من تقاربها مع موسكو إلى الحصول على دعم روسي في المحافل الدولية، خاصةً مجلس الأمن، إلى جانب التعاون في إعادة تأهيل الجيش السوري، ومواجهة التوغلات الإسرائيلية في جنوب سوريا، عبر إعادة نشر الشرطة العسكرية الروسية في درعا والسويداء، مع الاستفادة من الخبرات الروسية في إعادة الإعمار، تطوير الطاقة، وتأمين إمدادات القمح في ظل أزمة الجفاف.

جدير بالذكر أن وزير الدفاع السوري مرهف أبو قصرة التقى نظيره الروسي أندريه بيلوسوف في العاصمة الروسية موسكو لاحقاً، في 28 تشرين الأول/ أكتوبر 2025، حيث ناقشا عدداً من القضايا العسكرية المشتركة.

في المقابل، تسعى موسكو إلى الحفاظ على قاعدتَي طرطوس وحميميم كموطئ قدم إستراتيجي في شرق المتوسط، مع تحويلهما إلى مراكز لوجستية وإنسانية لدعم النفوذ الروسي في إفريقيا، بجانب تأمين مصالحها البحرية والعسكرية في المنطقة، ضمن صيغة جديدة من التفاهم مع النظام السوري الجديد.

مع ذلك، هناك تحديات محتملة قد تعترض تطوير العلاقة بين الجانبين، بما فيها مطلب تسليم بشار الأسد ومحاكمته، والانتقادات الداخلية والدولية لأي تقارب مع موسكو بسبب دورها في دعم النظام السابق، مع تعقيدات التوازنات الإقليمية، خاصةً في ظل التنافس بين الولايات المتحدة، إيران، وتركيا داخل الساحة السورية. لكن يبقى التقارب السوري مع روسيا يُقرأ كجزء من سياسة خارجية جديدة، تقوم على تنويع الشراكات وتوازن القوى، لتفادي الضغوط الغربية والإسرائيلية.

بالمجمل، تمثّل الزيارة بداية مرحلة جديدة في العلاقات السورية-الروسية، تُبنى على أساس الاحترام المتبادل واستقلالية القرار والسيادة، حسب الأكاديمي والباحث المختص بالشؤون الروسية، محمود الحمزة، الذي التقى الشرع خلال اجتماع الأخير بالجالية السورية في موسكو. واصفاً الزيارة والمحادثات بأنها كانت صعبةً وشاملةً، حيث نوقشت جميع الملفات العالقة، وقد بدا الإرهاق واضحاً على الرئيس الشرع والوفد السوري، خلال لقائهم بالجالية السورية.

تسليم الأسد وإعادة تسليح الجيش؟

عبر زيارة روسيا واجتماعه ببوتين، يقوم الشرع بمعايرة العلاقات مع كل من واشنطن وموسكو لضمان مساهمتهما في استقرار البلاد وأمنها. وجزئياً، يسعى إلى حثّ مسؤولي إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على الضغط على إسرائيل لإنهاء هجماتها على الأراضي السورية والأصول الإستراتيجية السورية، حسب مركز صوفان للأبحاث.

بالتزامن مع الزيارة، جددت الشبكة السورية لحقوق الإنسان، دعوتها لتسليم الأسد، وطالبت موسكو باعتذار رسمي مع تعويضات وجبر الضرر الناتج عن دعمها لنظامه وتورطها في حرب الأسد على الشعب السوري. وبجانب الأسد، يعيش نحو 1،200 ضابط سوري سابق في روسيا، منذ سقوط نظام الأسد في 8 كانون الأول/ ديسمبر الماضي، من بينهم رئيس الأركان، العماد علي أيوب، الذي قصف المدن واستخدم الأسلحة الكيميائية، ورئيس المخابرات العسكرية، كمال الحسن، الذي أشرف على سجن صيدنايا سيئ الصيت. مع ذلك، تجنب المتحدث باسم الكرملين، ديمتري بيسكوف، الخوض في أي تفاصيل بشأن طلب التسليم قائلاً: "ليس لدينا ما نبلغه عن الأسد هنا".

وكان الشرع قد طالب روسيا بتسليم الأسد وملياري دولار من أصول عائلته المجمدة في بنوك روسية، لكن موسكو رفضت التعليق. ولم يُعرف ما إذا كان الشرع قد جدد هذا المطلب خلال زيارته، برغم إشارته إلى أن روسيا تركز فقط على الحفاظ على قواعدها العسكرية في سوريا، حسب "ذا ناشيونال"، فيما أكدت مصادر سورية عدم ارتباط الزيارة بمصير الأسد، بل بهدف استكشاف خيارات إستراتيجية، منها شراء قطع غيار عسكرية والاحتفاظ بالقواعد الروسية، فالشرع يسعى إلى الحفاظ على دعم واشنطن، ويتجنب التصعيد مع موسكو برغم تأكيده أنّ سوريا ستستخدم الوسائل القانونية لمحاسبة الأسد، لكنه أقرّ بكلفة الصراع مع روسيا حالياً.

مصير الرئيس المخلوع بشار الأسد والمسؤولين السوريين السابقين الموجودين في روسيا، كان أحد أسباب الزيارة حسب حديث الحمزة لرصيف22، بجانب رغبة سورية في مناقشة رفع العقوبات الدولية المفروضة على شخصيات قيادية سورية، والسعي لمناقشة ملفات حساسة مع الجانب الروسي، وملف الأموال المنهوبة، مع مستقبل القواعد العسكرية الروسية في سوريا وطبيعة وجودها (ربما تتحول إلى مراكز دعم إنساني)، بالإضافة إلى مراجعة الاتفاقيات السابقة بين البلدين (مثل ميناء طرطوس والفوسفات)، التي يُعتقد أنها مجحفة بحق السيادة السورية.

"تُعدّ جزءاً من توجه سوري لكسب الدعم الدولي والإقليمي لوحدة سوريا والاعتراف بالحكومة. وتشكل بدايةً إستراتيجيةً سوريةً لتهدئة العلاقات مع العالم وتنويع التحالفات وعدم وضع كل الرهان على الغرب"... عن زيارة الشرع إلى روسيا ولقائه الرئيس بوتين، وانعكاساتها على العلاقات بين البلدين

يضيف الحمزة: "تُعدّ الزيارة جزءاً من توجه سوري لكسب الدعم الدولي والإقليمي لوحدة سوريا والاعتراف بالحكومة. وتشكل بدايةً إستراتيجيةً سوريةً لتهدئة العلاقات مع العالم وتنويع التحالفات وعدم وضع كل الرهان على الغرب، خاصةً في ضوء السياسة الأمريكية الداعمة لإسرائيل"، مشيراً إلى أنّ الكرة الآن في الملعب الروسي، فالمستقبل مرهون بما ستقدّمه روسيا لسوريا من مساعدات في إعادة الإعمار وخدمات لتصحيح العلاقات، إذ إنّ لدى روسيا شركات ضخمةً في مجالات الطاقة (النفط والغاز)، وتسلّح الجيش وإعادة الإعمار، ما يمثل فرصاً اقتصادية كبيرة. كما أن امتلاك روسيا علاقات واسعةً مع جميع الأطراف في سوريا (النظام، المعارضة السابقة، قسد، وحتى إسرائيل)، يمكّنها من لعب دور في العديد من الملفات. بدورها، تبقى سوريا مهمةً لروسيا لتعزيز وجودها السياسي في الشرق الأوسط. 

وفقاً لمركز "صوفان"، سعى الشرع خلال الزيارة إلى ضمان دعم بوتين لرفع عقوبات الأمم المتحدة الإرهابية عن الشرع، والتي يعود تاريخها إلى الفترة التي قضاها كقائد لجماعة تابعة لتنظيم القاعدة. كما طلب مساعدة روسيا في إعادة بناء الجيش السوري، لكن دون مؤشرات على تقديم بوتين أي التزامات بهذا الشأن، فيما نقل المركز عن وزراء روس قولهم إنهم مستعدون لتوصيل المواد الغذائية والأدوية إلى سوريا والمساعدة في إصلاح البنية التحتية للطاقة والنقل المتضررة، بالإضافة إلى إرسال موسكو شحنات نفط إلى سوريا. 

ولا تزال روسيا المورد الرئيسي للنفط السوري وتطبع العملة المحلية، حسب معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، ولا تزال السفارة الروسية في دمشق مفتوحةً، ما يعكس استمرار العلاقات الرسمية، ولا تزال سوريا تعتمد على روسيا في المعدّات العسكرية والدعم الدبلوماسي والاقتصادي، برغم توجهها نحو الغرب، الذي اعتقد أن سقوط الأسد سيضعف روسيا إستراتيجياً. كما أنّ تخفيف القيود الاقتصادية يتيح لموسكو تعزيز حضورها عبر وسطاء تجاريين غير واضحين. وقد أكد الشرع مراراً، قبل زيارته موسكو، على أهمية العلاقة مع روسيا. 

كما كشف الشرع عن مفاوضات سرّية معها في أثناء الهجوم الذي أطاح بالأسد، تجنّبت بموجبها قوات المعارضة السورية مهاجمة قاعدة حميميم الروسية، فيما ابتعدت روسيا بدورها عن المعركة. وعلى ذلك، لم يؤدِ سقوط الأسد إلى نهاية نفوذ روسيا في سوريا. فموسكو تخلّت عن الأسد لكنها حافظت على نفوذها عبر علاقات مع القيادة الجديدة. 

وتبقى الزيارة ضروريةً ولازمةً للطرفين لتطوير العلاقات في جميع الملفات، بناءً على تاريخ طويل من المصالح المتشابكة والاعتماد المتبادل، حسب دهشان، حيث إنّ كلاً من سوريا وروسيا بحاجة شديدة إلى بعضهما لتحقيق أهدافهما الإستراتيجية والأمنية والاقتصادية.



رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

الإعلام الموجّه والرسمي لا ينقل الواقع كما هو. 

رصيف22 يعمل كي لا تُحرَّف السردية.


Website by WhiteBeard
Popup Image