لدي مشكلة مزمنة لم أستطع إيجاد حلّ لها، وهي عدم القدرة على النوم. جرّبت نصائح الأصدقاء وتعليمات الأطباء النفسيين، وجرّبت الكثير من الأدوية والمهدئات دون فائدة. في يوم من الأيام قال لي صديق: هل جرّبت أن تعدّ بشكل عكسي؟ ضع رأسك على المخدّة وابدأ بالعد من 100 نزولاً حتى الصفر، وسوف تغفو بالتأكيد.
ولأنني شخص متسرّع، عددت من المئة حتى الصفر في دقيقة، ولم أنَم. ثم جرّبت أن أبطئ العد، وأن أتأنى قليلاً، لكن مشكلةً واجهتني وهي أنني بين رقم ورقم صرت أفكر في أشياء أخرى، وهذا يُبطل الفكرة بمجملها. وأخيراً اهتديت إلى طريقة تسمح بالعدّ البطيء دون الابتعاد عن مساره، أي أن يظل تركيزي منصبّاً على الأرقام وتسلسلها.
صرت أربط كل رقم بمناسبة خاصة، أو حدث عام كان له تأثير ملموس في حياتي الشخصية أو حياة من حولي؛ بحيث صرت أعد بالطريقة التالية: 93 اتفاق أوسلو، 92 افتتحت عيادتي الأولى، 89 سقوط جدار برلين، 74 دخلت المدرسة، إلى أن وصلت إلى الرقم/ العام 71 فصفنت. في هذا العام حدثت حرب، ومات زعماء، وتولّى آخرون. حتى على مستوى عائلتي حدث ما يؤثر على الطفل الذي كنته أيامها، لكنني تجاوزت كل ذلك واخترت حفلة بيت مري، أو حفلة القلعة كما يطلق عليها البعض.
لقد سمعت بهذه الحفلة بعد خمس عشرة سنةً من حدوثها، ثم حصلت على كاسيت لها من صديق لبناني. أيامها لم أكن أسمع إلا بزغلول الدامور، وحتى دون أن أعرف اسمه الحقيقي ودون أن أسمع له قصيدةً واحدة. كان اسم زغلول الدامور، بالنسبة لشخص غير لبناني مثلي، مقروناً بالزجل اللبناني، ولم أكن أعرف ما هو الزجل اللبناني أصلاً، ولا الفرق بينه وبين الزجل الفلسطيني، الذي تعودنا على سماعه في حفلات الأعراس في قريتنا ونحن أطفال.
سمعت الكاسيت، كاملاً في جلسة واحدة، ثم قمت بإعادته مرةً واثنتين وثلاث مرات، وأستطيع القول دون مبالغة إنني قمت بسماع هذه الحفلة خلال السنوات اللاحقة، وحتى اليوم، آلاف المرات، دون ملل وبكامل التركيز والدهشة المتولدة في كل مرة.
من كاسيت "حفلة بيت مري" 1971 تعرفت إلى إلى طليع حمدان وجريس البستاني، وإلى موسى زغيب والزغلول، وإدوار حرب وبطرس ذيب، وزين شعيب وأنيس الفغالي، ثم بدأ بحثي وتعرفي على أسماء لا تقلّ أهميةً، مثل خليل روكز ومحمد مصطفى، أسعد سعيد وشحرور الوادي وعشرات الأسماء التي أغنت هذا الفن الخاص بلبنان لا غيره
من هذه الحفلة، تعرفت إلى طليع حمدان وجريس البستاني، وإلى موسى زغيب والزغلول، وإدوار حرب وبطرس ذيب، وزين شعيب وأنيس الفغالي، ثم بدأ بحثي وتعرفي على أسماء لا تقلّ أهميةً، مثل خليل روكز ومحمد مصطفى، أسعد سعيد وشحرور الوادي… وعشرات الأسماء التي أغنت هذا الفن الخاص بلبنان لا غيره، والتي جعلت منه هويةً لبنانيةً لا يمكن تجاوزها، بل إنها تتربع على عرش عناصر الهوية اللبنانية إن جاز التعبير، كشجرة الأرز والتنوع الثقافي والطائفي، وفيروز ووديع، وكل ما يميز هذا البلد.
كان طليع، في تلك الفترة، عضواً في فرقة الزغلول، والتي كانت تضمّ بجانب الاثنين، زين شعيب وإدوار حرب. وفي هذه الحفلة برز اسمه كأحد أهم الشعراء في لبنان، حيث كانت مباراته مع جريس البستاني مباراةً ناريةً، استطاع فيها الشاعر الشاب، ابن السابعة والعشرين، أن يسجل اسمه كرقم صعب بين أسماء كبيرة ولها تاريخها واسمها، بل أن يتفوق على بعضهم. وإن أردت وضع تصوري الخاص كمستمع لهذا الشاعر، أستطيع القول إنه خلق شكلاً جديداً من الزجل، خاصاً به وحده، ولا يتقنه أحد سواه.
جاء طليع حاملاً قاموسه ولغته وصوته، والقاموس الممتلئ بالزنابق وخرير الماء ومزراب العين، بالفيّ وحافات الطريق، بالمخدّات والشراشف، بالخيطان وجيوب القمصان، بالشال لا بالكتف أو الرأس، بفراغ الكأس لا بالكأس.
ولكي أبرّر انحيازي هذا وهو انحياز جمالي أساساً، ولا ينتقص بالطبع من بقية الأسماء ولا من أهمية شعرها، وأهمية ما قدّمت لهذا الفن، لا بد من بعض المقارنة، أو لنقل بعض التوصيف للشعراء الروّاد ومواضيعهم، ليس من باب النقد، فلا أمارس دور الناقد هنا، بل من أجل إيصال الفكرة التي أدّعيها كمستمع أولاً وأخيراً.
كان موسى زغيب، وما زال وهو في الثامنة والثمانين من العمر، شاعراً كبيراً يؤرقه العُمر فيكتب ويغني انطلاقاً من هذه الفكرة. في غزلياته تحسّر واضح على الماضي، حتى حين كان شاباً، وتحسّر على الأيام التي كانت الأنثى تأتيه فيها ولا يذهب إليها. هو يفعل لها ليستدعيها، ليذكّرها به، لكنه لا يبادر. الموت حاضر في شعر موسى، والنار دائمة الوجود، التاريخ لا ينفك يبرهن الفكرة، والمتناقضات أداة تأكيد.
الزغلول شاعر الحس والمعنى المنبثق من تفاصيل الجسد. الأنا العالية موجودة حتى في قصيدة الغزل. هو موجود داخل تفاصيل حبيبته، لكي تستحق أن تكون حبيبته، مستنداً بذلك إلى اسمه الكبير وتاريخه الطويل، ودوره الأساسي في تثبيت فن الزجل. المقارنة مع علاقات حب سابقة طاغية الوجود أيضاً، والغيرة المقرونة مع الذكاء لا تنفكّ تطلّ من تفاصيل القصيدة.
زين شعيب، الذي التصق به مصطلح "البهورة" كتوصيف على سبيل المداعبة من أصدقائه وزملائه، يوظف الصلاة والصوم في الحب الفاحش، لكنه من جانب آخر يستدعي الحرمان دوماً كمحفز للنطق والبوح. المرأة موجودة إلى جانب الأولياء، رائحتها تختلط مع رائحة المُصلّى، وغيابها موضوع على الطاولة بجانب كأس العرق.
محمد مصطفى صاحب القوافي الصعبة، والتشبيهات المعقدة، وكأنه يكتب لا لتفهمه حبيبته، بل ليفهمه من يريد الفوز بها في مباراة متخيلة حول الانجذاب. وهو الشاعر الذي ينظر من فوق إلى كل شيء؛ إلى الحب والخصوم والأصدقاء والدين، وحتى إلى الشعر ذاته.
أسعد سعيد، فيلسوف الطبيعة ومنتج الأفكار ومحفّز المفارقات، يكتب ليقول للمستمع: أرأيت؟ فيرى المستمع جمالاً خالصاً لم يكن قد انتبه إليه.
جاء طليع بين هؤلاء. جاء بين عمالقة كرّسوا أنفسهم وآمن بهم الناس. لكنه لم يأتِ ليتلمّس طريقه معهم، ولا ليزاحم على مكان بينهم. لم يأتِ ليقلّد ولا ليكمل طريقاً أو فكرةً، كما أنه لم يأتِ ليستخدم المتاح أو يعيد إنتاج ما لم يُعجب ليعجب.
لقد جاء حاملاً قاموسه ولغته وصوته، وحاملاً فكرته الناضجة والمكتملة عن كيفية استخدام هذه اللغة وتوظيف هذا القاموس. القاموس الممتلئ بالزنابق وخرير الماء ومزراب العين، بالفيّ وحافات الطريق، بالمخدّات والشراشف، بالخيطان وجيوب القمصان، بالشال لا بالكتف أو الرأس، بفراغ الكأس لا بالكأس، بصدى الصوت لا بالصوت، بظلّ الحبيبة لا بالحبيبة وبالـ"يِمكِن" لا بالأكيد.
استطاع طليع حمدان خلال مسيرة ناهزت ستين عاماً، أن يقدّم للبنان وللزجل اللبناني آلاف القصائد، وأن يصل صوته العذب إلى ملايين الآذان المتعطشة إلى الرقة في الوطن العربي. وكما يقول في إحدى مقابلاته الأخيرة: ما في أوفى من الشعر، القصيدة ترافق الشاعر مدى حياته وبعد مماته، القصيدة وفية
استطاع طليع حمدان بهذه الحمولة أن يبني هرماً من القصائد التي لا تشبه شعر الآخرين، فحينما يرثي لا يعترف بالموت، بل يقول: "يا حبيبي فيق شو مغفّيك". وحينما يتغزل لا يضع نفسه في مركز الحدث بل يشرك الأشياء معه على قدم المساواة: "المراية بغيبتك بتجوع مثلي، إذا ما خيالك عليها تمرّى" ، وحين يحنّ إلى الماضي لا يذكره، بل يصف نفسه في الحاضر "مستثقل الخيطان بثيابي".
واستطاع طليع حمدان خلال مسيرة طويلة، ناهزت ستين عاماً، أن يقدّم للبنان وللزجل اللبناني آلاف القصائد، وأن يصل صوته العذب إلى ملايين الآذان المتعطشة إلى الرقة في الوطن العربي، وبين الجاليات العربية المنتشرة في العالم. لقد شارك في مئات الحفلات، ممثلاً للشعر وللجمال، لا لأيّ شيء آخر. وكما يقول في إحدى مقابلاته الأخيرة: ما في أوفى من الشعر، القصيدة ترافق الشاعر مدى حياته وبعد مماته، القصيدة وفية.
العزاء لمحبّي الزجل في لبنان وغير لبنان، والمواساة لكل الأشياء الصغيرة، والتفاصيل المُهملة، التي التقطها طليع حمدان بيديه الذهبيتين وصنع منها شعراً. أبو شادي خسارة عامة وخسارة شخصية كبيرة لكل من عرفه أو استمع إلى شعره. أما أنا، فسوف أضع رقم 25 أمام اسم طليع حمدان، لألقي عليه التحية كل ليلة قبل النوم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



