"جيل زد الهامش" في المغرب... لا أحد يراهم لكنهم هناك

مدونة نحن والحقوق الأساسية

الثلاثاء 28 أكتوبر 20256 دقائق للقراءة

أنتمي إلى "جيل زد"، إلى زمنه القصير والمكثّف، إلى قلقه وغضبه الذي لا يهدأ، ولا يمكنني إلا أن أسانده، لأن معركته في الأصل معركتي. غير أن انتمائي هذا، يبدأ من الهامش، بجبال الأطلس الصغير. هناك، في القسم الشرقي منه، نطالب أولا بأن نُرى! وأن يُعترف بوجودنا كجيل يعيش خارج السردية المركزية، وخارج النشرات الإخبارية والبرامج التلفزيونية وخطابات السياسيين. 

نحلم أولاً بالبقاء

إذا كان أبناء "جيل زد"، من المركز والمدن؛ مراكش، والدار البيضاء، والرباط، وطنجة... يطالبون بتحسين التعليم والصحة والسياسات العمومية، فإنهم لم يتركوا لي ما أطالب به، أنا القادم من الهامش المنسي، الذي لا يملك رفاهية المطالب.

"جيل زد" المدن، ليس "جيل زد" في القرى المغربية، التي تتشابه فيها كل الأجيال: المشترك نفسه والمصير ذاته، وانطلاقة واحدة... زمنه بطيء ودائري، لا يملك سوى مقهى يتيم لا يلتقط غير الغبار، أو دكان صغير يمارس فيه القيل والقال. حولهم طرق لم تكتمل، ومشاريع تبدأ بحماسة رسمية وتنتهي عند أول موسم مطر.

نأتي المركز حالمين وحاملين سيرنا الذاتية كما يحمل الغريق قشة الأمل الأخيرة، نبحث بها عن فرصة أمام باب موارب، ونقف في طوابير الانتظار، لكننا نصطدم في كل مرة بجدار المحسوبية والزبونية، ونفهم في هذا الوطن أنه لا يكفي أن تكون مؤهلاً أو متفوقاً، بل يجب أن يكون لك من "يتحدث عنك"، وأن الأبواب ليست مغلقةً، بل محروسة بأسماء لا نعرفها.

نحن الهامشيين لا نحتج على جودة التعليم والصحة، بل على غيابهما. كما لا نتحدث لغةً غير لغة البقاء؛ الماء، الطرق، الوصول إلى الجامعة، وإشارة الهاتف التي تختفي حين نحتاجها. ومع ذلك نصرّ على الحلم، قبل تحسينه، لأنّ الحلم آخر ما لم يصادَر منا بعد.

زمن معلّق

"جيل زد" المدن، ليس "جيل زد" في القرى المغربية، التي تتشابه فيها كل الأجيال: المشترك نفسه والمصير ذاته، وانطلاقة واحدة. 

لكل شابّ وشابة من "جيل زد" المدن، مسار منفرد، وفضاءات تنبض بالحياة والاختيار؛ يجلس في المقاهي اللامعة، ويركب القطارات والترامواي أو الباص. أمامه السينما والمعارض الفنية، وخلفه المكتبات وفضاءات الرياضة. 

"جيل زد" القرى، زمنه بطيء ودائري، لا يملك سوى مقهى يتيم لا يلتقط غير الغبار، أو دكان صغير يمارس فيه القيل والقال. حولهم طرق لم تكتمل، ومشاريع تبدأ بحماسة رسمية وتنتهي عند أول موسم مطر. حتى الوعود هناك، كالأشغال العمومية، تتوقف في منتصف الطريق، وتترك خلفها أثراً من الإسمنت والغبار، وبعض الخيبة.

في الهوامش، تسجّل عنا الأحزاب كل شيء، لكنها لا تصنع معنا شيئاً، لا مكاتب، ولا مقار، ولا ندوات... أما الجمعيات، فهي في واد، والمجتمع المدني في واد آخر!

في الوقت الذي يُتحدث فيه عن تمكين المرأة، في الإعلانات الرسمية والمهرجانات الإعلامية، شابات القرى، من "جيل زد" أو غيره، أغلبهنّ يختفين في صمت قبل الوصول أو إلى الباكالوريا أو بعده، بلا متابعة، وبلا فرص حقيقية. هذا قبل العودة إلى قدرهنّ القديم، حيث يكون المصير الأخير: الزواج.

أما شبّانه فهم فوق الجبال أو الحقول أو في الطرقات، لا ينتظرون أحداً يصل إليهم، يعرفونهم في الانتخابات فحسب. لا منصات ولا منابر تمثّلهم، غير أنهم يبحثون عن أي منفذ للبقاء أو الرحيل. يرون الوطن قريباً ويراهم بعيدين.

شعارات فارغة

في الهوامش، تسجّل عنا الأحزاب كل شيء، لكنها لا تصنع معنا شيئاً، ولا أثر لها. تعلن عن نفسها في المدن الكبرى، وتختفي اختفاءً مطلقاً عندنا؛ لا مكاتب، ولا مقار، ولا ندوات، حتى إشعار موعد الصناديق المقبلة، كأن السياسة لا تكلف نفسها عناء الوصول إلينا، وتنتهي عند آخر طريق معبّد.

لذا لا أحتاج إلى بطاقة انخراط في حزب، لأحلم بعدالة أو أصرخ في وجه الظلم وأقول لا. 

أما الجمعيات، فهي في وادٍ، والمجتمع المدني في وادٍ آخر، كثيرة جداً وكلها تتشدق بالتنمية. أنشطتها جميعها متطابقة وتكرر نفسها كل عام: دوريات كرة القدم، حملات توعية قصيرة تنتهي بزوال المناسبة، تدريب مهني لا تتوفر فيه فرص الشغل، والكثير من المهرجانات... لا تتعدى كونها مناسبات لالتقاط الصور لكسب رضى من يراقبها. 

وفرة الموارد… ندرة الاعتراف

نحن "جيل زد"، والأجيال بعدنا وقبلنا، لا نختلف في شيء. كلنا نُختزل في أرقام داخل خانة جدول عن الهشاشة، بينما تحت أقدامنا الذهب، والنحاس، والكوبالت، والحديد… وجميع أراضينا كنوز وثروات لا تُعدّ ولا تحصى، تُسَمِّنُ المركز وتبقي الهامش نحيفاً.

في الهامش، لا تنتهي أسئلتنا، بل تتحول إلى أسئلة أخرى، سؤال العدالة إلى سؤال البقاء، وسؤال الهوية إلى اختبار للقدرة على المقاومة والإبداع. ولعل المشهد بأكمله يختصره الروائي بول أوستر، حين يتساءل: "قد يقولُ رجل ما: أنا أشعر بالبرد، وقد لا يقول رجل آخر أيّ شيء، ولكننا نراه يرتجف، وسنعرف حينها أنّه يشعر بالبرد، ولكن ماذا عن الرجل الذي لا يقول شيئاً ولا يرتجف؟".

أي مفارقة في أن تُجاور الوفرةُ الندرةَ على الأرض نفسها؟

في الهامش، لا يكتفي شباب "جيل زد"، بالملاحظة أو التعبير الرمزي أو حتى الصمت. كما لا يظلّ النقد مجرد كلام على الورق أو شعارات تتردد في النقاشات الأكاديمية أو البرامج التلفزيونية، بل هو تجربة حية تُعاش تفاصيلها يومياً، ومرآة صادقة لما يُغفل فهمه في المراكز: كل قرار سياسي يُتخذ، كل ثروة تُستغل، وكل حرمان من الحقوق أو الخدمات، تُقرأ وتُستشعر مباشرة في الحياة اليومية للشباب، الذي يعي أثر كل شيء على واقعه جيداً، على الأرض التي يعيش عليها، وعلى المستقبل الذي يُصنع له من دون أن يشارك فيه.

في الهامش، لا تنتهي أسئلتنا، بل تتحول إلى أسئلة أخرى، كأن يتحول سؤال العدالة إلى سؤال البقاء، وسؤال الهوية إلى اختبار للقدرة على المقاومة والإبداع. ولعل المشهد بأكمله يختصره الروائي بول أوستر، حين يتساءل: "قد يقولُ رجل ما: أنا أشعر بالبرد، وقد لا يقول رجل آخر أيّ شيء، ولكننا نراه يرتجف، وسنعرف حينها أنّه يشعر بالبرد، ولكن ماذا عن الرجل الذي لا يقول شيئاً ولا يرتجف؟".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

من 12 سنة لهلّق، ما سايرنا ولا سلطة، ولا سوق، ولا تراند.

نحنا منحازين… للناس، للحقيقة، وللتغيير.

وبظلّ كل الحاصل من حولنا، ما فينا نكمّل بلا شراكة واعية.


Website by WhiteBeard
Popup Image