أعطت الحكومة السودانية مؤخراً، ثمانياً من ولاياتها البالغ عددها 18 ولاية، الحكم الذاتي، نزولاً عند وثيقة اتفاق السلام المبرمة مع حركات مسلحة عدة في جوبا 2020، وهو ما بعث المخاوف لدى كثيرين من السودانيين من أن تكون الخطوة مدخلاً لانفصال مزيد من الأقاليم، أسوةً بتجربة انفصال جنوب السودان في العام 2011.
وبعد فترة من الحكم الذاتي استمرت ست سنوات بموجب اتفاقية سلام موقعة بين نظام الرئيس المخلوع عمر البشير، والحركة الشعبية شمال لتحرير السودان، صوّت الجنوبيون في استفتاء حول تقرير المصير، لخيار الانفصال عن الدولة الأم، بنسبة ساحقة لامست الـ99%.
في المقابل، يرى آخرون أن الخطوة تمثل صمام أمان للوحدة، بإزالتها التهميش عن هذه الولايات المتأثرة بنير الحرب، مذكّرين بوجود نص يحصّن البلاد من التفتيت، ويشترط أن يتم الحكم الذاتي في إطار السودان الموحد.
الحكم الذاتي
هو نظام حكم سياسي وإداري واقتصادي، يعطي مناطق في الدولة صلاحيات واسعة لتدبير شؤونها، بما في ذلك انتخاب الحاكم، والتمثّل في مجلس تشريعي منتخب يضمن مصالح الإقليم.
ولكن ما يزيد الصورة إرباكاً في الدولة الخارجة لتوها من ثلاثة عقود من الحكم العسكري، وجود أنظمة ومستويات عدة للحكم، بعضها موروث، وبعضها مبتدع، وبعضها أُقرّ بناء على توافقات سياسية.
"ارتباط سكان هذه الأقاليم بالدولة السودانية، سيزداد مع ممارستهم للحكم الذاتي الذي يضمن تمثيلهم في السلطة بعد سنوات طويلة من الإقصاء"
واستمرت الحكومة الجديدة في نظام الحكم الولائي (الفيدرالي) الموروث عن النظام البائد، وأضافت إليه مستويين جديدين هما النظام الإقليمي الذي جرى تدشينه بتعيين رئيس حركة جيش تحرير السودان، مني أركو مناوي، حاكماً لإقليم دارفور، ونظام الحكم الذاتي في ثماني ولايات، لتزيد المشهد المعقد أصلاً، تعقيداً.
ولايات الحكم الذاتي
بحسب الاتفاق، فإن معظم الولايات المحكومة ذاتياً عانت من ويلات الحرب، وتدين بعض مناطقها لسيطرة الحركات المتمردة، وعلى رأسها حركات العدل والمساواة، وجيش تحرير السودان، وتحرير السودان، في دارفور، والحركة الشعبية شمال-فصيل مالك عقار، والحركة الشعبية شمال-فصيل عبد العزيز الحلو.
ووقعت الحركات على اتفاقات سلام مع الحكومة الانتقالية، بخلاف حركتَي عبد العزيز الحلو التي تبسط سيطرتها على منطقة جبال النوبة في النيل الأزرق، وحركة تحرير السودان بقيادة عبد الواحد نور التي تملك قاعدة كبيرة في أوساط النازحين في دارفور.
وتعج الولايات الثمانية بأكبر مزيج من التنوع السكاني، واللهجات المحلية، وتنتشر في بعض جيوب ولايات النيل الأزرق، وجنوب كردفان، الديانة المسيحية، وبعض الديانات المحلية المعروفة شعبياً بـ"الكجور".
وتمتلك الولايات تلك موارد اقتصادية مهولة على رأسها المعادن النفيسة، وأراضٍ شديدة الخصوبة، وتأخذ الكفل الأكبر من نصيب السودان من الثروة الحيوانية.
ولكن دخول هذه المناطق في دائرة الحرب منذ فترات مبكرة (النيل الأزرق، وجنوب كردفان في العام 1985، وولايات دارفور في 2003)، أدى إلى ضمور مساهماتها في الناتج المحلي، مع توسع في رقعة الفقر والنزوح، وسيادة الجهل والأمراض.
لماذا الحكم الذاتي
السؤال الذي يتبادر إلى ذهن القارئ، هو: لماذا تُجرب الحكومة السودانية خياراً مجرباً أودى بانفصال الجنوب، قبل فترة لا تتعدى العقد من الزمن؟
عن ذلك، تؤكد وزيرة الحكم الاتحادي، بثينة دينار، القادمة إلى المنصب بترشيح من حركة مالك عقار، أن الحكومة تحسبت لذلك الأمر بالنص على الحكم الذاتي، شريطة ألا يتضمن ذلك المساس بوحدة السودان، شعباً وأرضاً.
يبدي الخبير محمود نمر في حديثه لرصيف22 مخاوفه من أن يقود تحكم "لوردات الحرب"، في إشارة إلى قادة الحركات المسلحة، في صنع القرار في هذه المناطق، وتفشي النعرات العنصرية، وكثرة الجيوش، وتنامي التدخلات الخارجية، إلى انفصالات جديدة في البلاد
فهل ذلك النص كافٍ؟ يرد على السؤال الخبير في مناطق التماس السودانية، محمد كاكوم، بقوله إنه كافٍ جداً.
ويبارك كاكوم في حديثه مع رصيف22 وجود نص يضمن لهذه الأقاليم ممارسة الحكم الذاتي في إطار السودان الموحد، ويقول إن من شأنه قطع الطريق دستورياً وقانونياً أمام أي دعاوى مستقبلية لتقرير المصير.
ولكن بحسب كاكوم، فإن ارتباط سكان هذه الأقاليم بالدولة السودانية، سيزداد مع ممارستهم للحكم الذاتي الذي يضمن تمثيلهم في السلطة بعد سنوات طويلة من الإقصاء. وفي حال أضفنا إلى ذلك تمتع هذه الأقاليم بنسبة 40% من ثرواتها، ودفع المركز أموالاً إضافية لإعادة إعمار المناطق المتأثرة بالحرب، فإن ذلك سيكون من أكبر ضمانات الوحدة الوطنية.
مبعث الخوف
يرى الخبير في مناطق التماس، محمود نمر، أن وجود نص بممارسة الحكم الذاتي ضمن السودان الموحد، غير كافٍ إطلاقاً، لا سيما في ظل أوضاع سياسية وأمنية شديدة الهشاشة.
ويقول نمر لرصيف22 إن اتفاقية 2005 التي مهدت لانفصال الجنوب، ألزمت أطراف الاتفاقية بالعمل على جعل خيار الوحدة خياراً جاذباً، ومع ذلك انفصل الجنوب بنسبة تصويت ساحقة.
ويبدي نمر مخاوفه من أن يقود تحكم "لوردات الحرب"، في إشارة إلى قادة الحركات المسلحة، في صنع القرار في هذه المناطق، وتفشي النعرات العنصرية، وكثرة الجيوش، وتنامي التدخلات الخارجية، إلى انفصالات جديدة في البلاد.
ويخطّئ نمر الحكومة الانتقالية، بإقرار مثل هذا الأمر الخطير، من دون أن تكون مسنودة ببرلمان منتخب، أو حتى قبل إجراء استفتاء في هذه المناطق ليتحمل أهلها تبعات أي قرار يتخذونه مستقبلاً.
وأضاف نمر أن ثالثة الأثافي، حسب تعبيره، تتمثل في إدخال ولاية غرب كردفان، البعيدة نسبياً عن الصراع، في دائرة الحكم الذاتي، ما قد يخلق خميرة ربما تدفع بقية ولايات كردفان إلى التململ، والمناداة بالحكم الذاتي، ومن ثم الانفصال.
تسرّع
من جانبها، استنكرت القيادية في الحركة الشعبية شمال فصيل عبد العزيز الحلو، سعاد شمس الدين، ذهاب الحكومة للبّت في شأن مناطق بعضها يخضع لسلطاتهم ونفوذهم المباشر، وذلك في خضم انخراط الطرفين في مفاوضات جادة لإبرام اتفاق سلام شامل ونهائي.
باختيار الحكومة السودانية منح ثمانٍ من ولاياتها الحكم الذاتي، تكون قد دخلت في خضم تجربة لا يمكنها التراجع عنها في أي حال من الأحوال، مخافة ارتداد الحركات المسلحة إلى خيارات الحرب وتقرير المصير
وقالت شمس الدين لرصيف22 إن اتجاه الحكومي الحالي، يفرغ جلسات المفاوضات من معناها، لا سيما وأن الحكومة باتت تقرر بمعزل عن بقية أطراف العملية السلمية في شأن مناطق خارج إطار سيطرتها كلياً.
ورفعت الوساطة الجنوب سودانية لمفاوضات السلام السودانية بين الحكومة وحركة الحلو، جلسات التفاوض المباشر بين الطرفين، لمدة أسبوعين، لمنحهما فرصة لمزيد من التشاور حول القضايا الخلافية.
تعدد الأنظمة
سبق وأشرنا آنفاً إلى وجود أنظمة عدة للحكم في البلاد: إقليمي، وولائي، وذاتي. فما الذي يعنيه ذلك على مستوى التطبيقات العملية؟
يقول كاكوم، إن تعدد أنظمة الحكم أمر اعتيادي، وهناك نماذج كثيرة لدول محكومة بأنظمة عدة، من دون أية مشاكل أو تقاطعات.
وأضاف: في حال ظهرت تقاطعات في التجربة العملية، ففي المقدور تفاديها بالحوار والنقاش المعمق. علينا ألا نضع الحبل قبل الجرار.
وفي الصدد، ذكّر بمساعي الحكومة لإعادة النظام الإقليمي، وتجلى ذلك في تنصيبها أركو مناوي حاكماً لإقليم دارفور، ما يعني تذويب نظام الولايات الحالي.
بيد أن محمود نمر أصر على أن وجود الأنظمة الكثيرة سيخلق، لا محالة، تقاطعات من شأنها إحداث مشكلات عويصة، قد تدفع بالأمور إلى شفا الهاوية، في حال قاربنا الأمر من زاوية سيطرة الحركات المسلحة على هذه الأقاليم، وامتلاكها جيوشاً قد تهدد باستخدمها لحسم أي تباينات في الرأي.
وتساءل: في حال نشوب خلافات مع المركز، ما الذي يمنع أعضاء المجالس التشريعية في هذه الأقاليم من ممارسة ضغوطات على الحكومة تصل حد المناداة بتقرير المصير، بداعي المحافظة على مصالح أقاليمهم؟
الفيصل في التجربة
باختيار الحكومة السودانية منح ثمانٍ من ولاياتها الحكم الذاتي، تكون قد دخلت في خضم تجربة لا يمكنها التراجع عنها في أي حال من الأحوال، مخافة ارتداد الحركات المسلحة إلى خيارات الحرب، وتقرير المصير، وعليه لا يتبقى أمامها سوى العمل الجاد على تسويق هذا الخيار، والحيلولة دون أن يؤدي في نهاية المطاف إلى سيناريو انفصال الجنوب.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومرائع
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.