بين استبعاد المعارضين وإعادة ترتيب أدوار الموالين، أُسدلت الستارة في مصر على القائمة النهائية لمرشحي الانتخابات البرلمانية المقرر إجراؤها على مرحلتين اعتباراً من 7 تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل. وبرغم أن خريطة مجلس النواب المصري ارتسمت ملامحها قبل الوصول إلى مرحلة الاقتراع، بهيمنة كاملة من الأحزاب المحسوبة على السلطة، إلا أنّ الساعات الأخيرة شهدت إثارةً كبيرةً باستبعاد أسماء ثقيلة من مرشحي أحزاب المعارضة، الأمر الذي أدّى إلى دعوات لمقاطعة العملية الانتخابية برمّتها.
ووفق القائمة النهائية المعتمدة، من المقرّر أن يتنافس 2،620 مرشحاً على المقاعد بالنظام الفردي، في حين بلغ عدد المرشحين على المقاعد بنظام القوائم 284 مرشحاً أصلياً، بالإضافة إلى عدد مماثل كمرشحين احتياطيين بإجمالي 568 مرشحاً. وقد حُسمت 284 مقعداً لصالح "القائمة الوطنية من أجل مصر"، المشكَّلة من لفيف من أحزاب محسوبة على السلطة وبعض أحزاب المعارضة، بعدما استُبعدت جميع القوائم المنافسة بداعي "عدم استيفاء الأوراق المطلوبة".
إلى ذلك، خلت القائمة النهائية للمرشحين من أسماء عدد من أحزاب الحركة المدنية الديمقراطية، إما بادّعاء "عدم أداء الخدمة العسكرية"، أو بذريعة "الإخفاق في اجتياز الكشف الطبي"، علماً أنّ بعض هذه الأسماء سبق أن رُشحت وانتُخبت في مجالس سابقة بالمسوغات نفسها.
بذريعتَي "الاستثناء من أداء الخدمة العسكرية" و"الإخفاق في اجتياز الكشف الطبي"، وبداعي "تناول مخدرات"، جرى استبعاد عدد من المرشحين المحتملين المعارضين من سباق الانتخابات البرلمانية في مصر، فيما استُبعد موالون بارزون أيضاً… ما القصّة؟
"إعدام سياسي"
اسم النائب البرلماني سابقاً، هيثم الحريري، مرشح حزب التحالف الشعبي الاشتراكي، تصدّر قائمة المستبعدين من السباق الانتخابي، بعد تأييد القضاء قرار استبعاده بوصفه من "المستثنين" من أداء الخدمة العسكرية. أثار قرار استبعاد الحريري جدلاً واسعاً في الأوساط السياسية المصرية كونه عضواً سابقاً في البرلمان وسبق له الترشّح في الانتخابات الماضية دون أن تشكّل مسألة تجنيده عقبةً قانونية.
عبر حسابه في فيسبوك، يصف الحريري قرار استبعاده من قوائم المرشحين لانتخابات مجلس النواب بعد ماراتون قضائي استغرق أياماً، بـ"الإعدام السياسي" لمسيرته السياسية، حيث لم يعد له الحق في الترشح لأي انتخابات تشريعية أو رئاسية تنظّمها الهيئة الوطنية للانتخابات في مصر بموجب القرار الأخير.
وفي حديثه إلى رصيف22، يوضح الحريري أنّ "تأييد القضاء قرار استبعادي من كشوف الناخبين قضى على آمالي في الترشّح لأي انتخابات سواء التشريعية أو الرئاسية، لكنه في الوقت نفسه لا يعني أنني لن أمارس السياسة بل سأواصل نشاطي الحزبي بشكل طبيعي".
كما يتعجّب النائب السابق من تأثير حصوله على شهادة من وزارة الدفاع المصرية باستثنائه من التجنيد في نهاية تسعينيات القرن العشرين، كونه ابناً لسياسيّ اشتُهر بمواقفه المعارضة لنظام الرئيس آنذاك محمد حسني مبارك، هو أبو العز الحريري، على مباشرة حقوقه السياسية التي كفلها له الدستور ومن بينها حق الترشح في انتخابات مجلس النواب برغم نجاحه من قبل في اجتياز هذه العتبة وتمثيله في برلمان 2015، وتكرار ترشّحه في 2020 دون عوائق قانونية.
"سلاح لعزل السياسيين"
إلى ذلك، يخشى حقوقيون من أن تشكّل تداعيات رفض طعن الحريري أمام المحكمة الإدارية العليا في استبعاده، سلاحاً تستخدمه السلطة لعزل السياسيين المعارضين لها وحرمانهم من مباشرة حقوقهم السياسية، استناداً إلى مبدأ قضائي أرسته المحكمة الإدارية العليا يمنع ترشّح الأفراد الصادرة بحقهم قرارات من وزير الدفاع بالاستثناء من أداء الخدمة العسكرية.
في هذا الصدد، يقول المحامي مالك عدلي، وهو عضو في هيئة الدفاع التي تقدّمت بالطعن في استبعاد الحريري من الانتخابات، إنّ الاستثناء من أداء الخدمة العسكرية لم يكن في يوم من الأيام سبباً يُحرم على أساسه المواطن المصري من مباشرة حقوقه السياسية، لأنه اختصاص تحدده وزارة الدفاع وفقاً لمقتضيات تتعلّق بالمصلحة العامة أو بأمن الدولة، وفي هذه الحالة هو شخص لم يرتكب فعلاً مشيناً أو جريمةً يحاسب عليها القانون كما لا يُعدّ متهرّباً من أداء الخدمة العسكرية بل حصل على استثناء لنشاط والده السياسي.
ويشرح عدلي، في حديثه إلى رصيف22، أنّ قرارات الاستثناء من أداء الخدمة العسكرية تصدّر لغرض تجنّب انضمام أصحاب الآراء السياسية من اليساريين والإسلاميين تحت بند مقتضيات المصلحة العامة أو الأمن الوطني دون أن يترتب على ذلك أي حرمان من حقوقهم الطبيعية وهو ما يفتح الباب لتقييد مشاركة آلاف من المواطنين الحاصلين على استثناء من التجنيد.
المخدرات سبب أيضاً
مرشح حزب التحالف الشعبي عن دائرة المنصورة في محافظة الدقهلية، محمد عبد الحليم، فوجئ هو الآخر باستبعاده من قوائم المرشحين بدعوى ثبوت تناوله المخدرات، ورُفض طعنه لاحقاً الذي تقدّم به أمام محكمة القضاء الإداري، برغم تقديمه شهادةً رسميةً صادرةً عن معامل وزارة الصحة من المعمل ذاته تفيد بعدم تناوله أيّ نوع من المخدرات.
يقول عبد الحليم، لرصيف22، إنه لم يكن يعلم بنتيجة الكشف الطبي لكنه اتخذ إجراءً وقائياً بإجراء تحليل آخر أثبت عدم تناوله المخدرات، وهو ما يتنافى مع طبيعة عمله كموظف حكومي في الأساس حيث يعمل في أحد البنوك الحكومية التي تُجري تحليلاً دورياً لموظفيها.
في الأثناء، يقول عبد الحليم، إنه لم يلحظ تضييقاً أمنياً على نشاطه الانتخابي منذ إعلانه الترشح، غير أنّ عملية إقصائه من السباق الانتخابي يعدّها امتداداً للممارسات السلبية التي طالت مرشحين آخرين من أحزاب معارضة، ولم يُسمح لهم باستكمال خطوات ترشّحهم، منتقداً "سيطرة أحزاب الموالاة على المشهد الانتخابي واستمرار تعمّد تغييب المستقلين والمنتسبين للأحزاب المعارضة عن البرلمان".
وسط اتهامات للسلطة بـ"هندسة العملية الانتخابية لصالح هيمنة الموالاة"، يقول أبو الديار إنّ نظام الرئيس السيسي يستخدم أذرعه التنفيذية لإقصاء المعارضة الحقيقية من السباق الانتخابي بهدف تفريغ البرلمان من الأصوات التي تنتقد أداء الحكومة
ويأسف عبد الحليم، لعدم قدرته على خوض السباق الانتخابي، مستدركاً: "كان هدفنا أن نُمكَّن من الترشّح وتعريف الناس بخطابنا وبرامج حزبنا وإحداث تغيير وأن يكون للشارع الحكم علينا في النهاية".
فور تأكيد استبعاد الثنائي، الحريري وعبد الحليم، أعلن حزب التحالف الشعبي الاشتراكي انسحابه من السباق الانتخابي، منتقداً ما وصفها بـ"هندسة العملية الانتخابية لصالح هيمنة الموالاة" و"استبعاد تعسّفي واستثنائي" ضد مرشّحيه، محذراً من أن يؤدّي هذا النهج إلى "العزل السياسي وحرمان أجيال من الشباب من المشاركة في الحياة السياسية".
"إخفاق المعارضة" و"جنوح بعض مكوّنات الحركة المدنية"
وكانت عملية الإقصاء قد بدأت بالمحامي محمد أبو الديار، أحد مؤسسي حزب تيار الأمل والمتحدث السابق باسم حملة المرشح الرئاسي أحمد طنطاوي، حيث فوجئ بشطب اسمه من قاعدة بيانات الناخبين ما منعه من مباشرة حقوقه السياسية، وذلك على خلفية حبسه سنة مع الشغل لإدانته بطباعة وتداول أوراق تخص العملية الانتخابية دون تصريح. لم يستجب القضاء لشكوى أبو الديار بأحقيته في ممارسة الترشح.
في حديثه إلى رصيف22، يتهم أبو الديار نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي باستخدام أذرعه التنفيذية لإقصاء المعارضة الحقيقية من السباق الانتخابي بهدف تفريغ البرلمان من الأصوات التي تنتقد أداء الحكومة، ولغرض تمرير القوانين دون اشتباك حقيقي أيضاً. ويشرح أبو الديار "المعارضة الحقيقية" بأنها المعارضة التي تقدّم نفسها بديلاً للسلطة، لا تلك التي تهادن السلطة وتنضوي تحت لواءاتها بأشكال وصور مختلفة تمنحها شرعيةً وتبيّض صورتها من احتكار السلطة.
يقول: "السلطة أحبطت المساعي الرامية إلى إجراء انتخابات قائمة على التنافسية والتمثيل العادل لجميع الأطراف بالإصرار على النظام الانتخابي المعمول به، وهو القائمة المغلقة بدلاً من النسبية واستمرت في عملية المنع بالاستبعاد الإداري والقضائي من الانتخابات".
لكنه في الوقت نفسه يقرّ بـ"إخفاق أحزاب المعارضة المصرية في توحيد راياتها وتشكيل تحالفات انتخابية قادرة على منافسة السلطة" بسبب ما يصفه بـ"انضواء أحزاب من المعارضة تحت القائمة الانتخابية التي تشكّلها الدولة"، أو بـ"جنوح بعض مكونات الحركة المدنية الديمقراطية إلى تعطيل هذه التحالفات".
تبخّر وعود السلطة
تأتي هذه التطوّرات خلافاً لما كان يردَّد قبيل انطلاق العملية الانتخابية من أنّ البرلمان القادم سيشهد تمثيلاً مختلفاً من حيث عدد النواب المستقلين من خارج أحزاب الموالاة، حيث أشار رئيس حزب الإصلاح والتنمية، محمد أنور السادات، إلى وجود تفاهمات بإخلاء نحو 40 دائرةً انتخابيةً للمنافسة الحرة للمعارضة والمستقلين بما "يعزّز المنافسة ويحفّز المشاركة الشعبية".
على النقيض من ذلك، ومع اقتراب المنافسة النيابية، لم تحمل تفاصيل العملية الانتخابية رسالةً جديدةً من السلطة إلى المعارضة، بل كرّست وضعاً مستمراً منذ عقد من الزمن مفاده أنّ النتائج تُحسم في الغرف المغلقة لا في صناديق الاقتراع، وهذا ما يراه الباحث السياسي أكرم إسماعيل، إذ يشير إلى أن الدولة لا تريد أن تختبر إرادة الشارع في معارك انتخابية أو تتيح الحرية للأحزاب بالتواجد في الشارع.
يفسّر العماري إقصاء معارضين بارزين عن السباق الانتخابي، بـ"عدم رغبة السلطة في السماح باكتساب أي وجوه معارضة زخماً سياسياً وشعبياً قبيل إجراء الانتخابات الرئاسية المقبلة في 2030"، وهي الدورة الرئاسية الدستورية الأخيرة للرئيس السيسي
أما المتحدث باسم الحركة المدنية الديمقراطية، وليد العماري، فيعرّج على الأسباب التي دفعت السلطة إلى إقصاء معارضين بارزين من السباق الانتخابي، ويبرز من بينها عدم رغبة السلطة في السماح باكتساب أي وجوه معارضة زخماً سياسياً وشعبياً قبيل إجراء الانتخابات الرئاسية المقبلة في 2030، وهي الدورة الرئاسية الدستورية الأخيرة للرئيس السيسي.
ويضيف لرصيف22، أنّ هناك اعتقاداً سائداً داخل أروقة السلطة بأنّ الأصوات السياسية التي تتمتّع بوزن جماهيري تكتسب رصيداً بالأداء البرلماني بالاشتباك مع القضايا الاقتصادية والتشريعية المثيرة للجدل. كما يلفت إلى أنّ السلطة لا تريد محاسبةً أو مساءلةً عن الممارسات والسياسات التي قادت إلى وضع اقتصادي واجتماعي مأزوم.
استبعاد موالين
مقابل ذلك، شهدت القائمة الوطنية المكوّنة من نحو 12 حزباً تغيّرات في بعض الأسماء وحصص كل حزب فيها مع انضمام حزب جديد إلى الخريطة السياسية، هو حزب الجبهة الوطنية الذي تأسّس نهاية عام 2024.
من قبيل ذلك أن خلت القائمة من اسم النائب علاء عابد، أحد قيادات حزب "مستقبل وطن" البارزة، والذي ترأّس لجنة النقل والمواصلات في البرلمان المنتهية ولايته. كذلك خرج البرلماني محمود بدر، مؤسس حركة "تمرّد"، من القائمة الموالية للسلطة، في حين انتقلت أسماء أخرى إلى الغرفة التشريعية الثانية، مجلس الشيوخ، مثل رئيس الهيئة البرلمانية لحزب "مستقبل وطن" عبد الهادي القصبي.
ويرى الباحث السياسي أكرم إسماعيل، ظاهرة الترحال السياسي بين أعضاء مجلسَي النواب والشيوخ هذه، ومحاولة الدفع بوجوه جديدة على قوائم أحزاب الموالاة في مجلس الشعب، جزءاً من عملية هندسة المشهد الانتخابي التي بدأت بالإصرار على نظام القائمة المغلقة الذي لا يتيح الفرصة لتمثيل جميع الأحزاب تحت القبة.
ويختم: "المعارضة لا تملك إلا المقاومة ومحاولة صنع الثغرات في هذا الجدار من خلال المنافسة على عدد من المقاعد في الدوائر الفردية، لتشكيل كتلة تتبنى خطابها في مجلس النواب والدفاع عن مصالح الشارع في مواجهة الأغلبية".
في المقابل، يعزو برلمانيون موالون للسلطة استبعادهم من الترشّح، في هذه الدورة، إلى وجود رغبة لدى النظام في إتاحة الفرصة لآخرين و"ضخ دماء جديدة في البرلمان"، في وقتٍ يتصوّر فيه حزب مستقبل وطن، صاحب الأغلبية البرلمانية في الدورة البرلمانية الأخيرة، عدم حصوله على نفس الحصة في البرلمان المرتقب، بمثابة "تنازل عن الكثير من حقوقه السياسية"، ويبرّر ذلك بأنه "من أجل استقرار الدولة المصرية"، على حد تعبير نائب رئيس الحزب، أحمد عبد الجواد.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



